برغم أنه فجعنا بمصارحتنا أن قمر العشاق ليس إلا مكاناً معتماً وبارداً، مليئاً بالحفر والتضاريس، إلا أننا كنا نزداد تعلقاً به وبدروسه. مدّرس العلوم الطبيعية اليساري الذي كان يجرؤ أن يتحدث عن الجسد بعد صراع دموي بات يُشار إليه بعبارة محايدة: "أحداث الثمانينيات" في سوريا، ليخبرنا أنه ينبغي معرفة خارطة الجسد قبل خارطة البلد!
وهل يتحرّق المراهق إلى معرفة شيء أهم من الجسد وتحولاته؟ لكن هيهات أن ترتوي مما تشتهي معرفته. كان علينا أن نقطع طريقاً متعرجة شائكة، نمرّ فيها على كل مخلوقات الأرض من وحيد الخلية إلى الديناصور، أن نعبر المجاري التنفسية للسمك ونحفظ عن غيب أجزاء جهاز اطراح الصرصور وطرق تكاثر النباتات، ونستبطن كل طبقات الأرض، لننتهي إلى معرفة علمية رصينة عن أجسادنا. كثر منا ملّوا الانتظار، وقادتهم أقدارهم إلى الزواج أو ترك الدراسة والعمل. بعضنا ضاقوا من بطء العلوم ومسالكها المعقدة فقفزوا إلى شباك دورات الإنزال المظلي التي نظمتها "شبيبة الثورة"، حيث يهبط الشبيبة من مظلة "الثورة" ومعهم علامات إضافية وميزات تعليمية تخولهم دخول الجامعات بيسر وسهولة. حين، على غفلة منا، أصبح الولاء والإخلاص أهم من الجدارة والاختصاص! كان هؤلاء زملاؤنا الطيبون الذين أصبحوا فجأة مخبرين محنكين في البحث عن العدو ومكائده وتجلياته في أحاديث الزملاء والمدرسين وتلميحاتهم وسخرياتهم.
حَب الشباب!
في بلد التعليم المجاني، ستجد خليطاً عجيباً من العلوم مع الترهات واللامعقول. وستتنافر المواد وتتحارب مع بعضها على احتلال عقول الطلبة وتطويعها. قالت معلمة الديانة إن الله يكشف خبايا أنفسنا واستسلامنا لغواية الشيطان عبر تلك الحبوب (حَب الشباب) التي تظهر على وجوهنا! تلك المعلمة وأمثالها ما زالوا يفتتحون دروسهم بالسلام عليكم وينطقون باسم الله الرحمن الرحيم! وبموازاة دروس الديانة التي تفصل بين الجنسين وبين المسلمين وسواهم، كانت مدرِّبة "الفتوة" (اسم مادة التدريب العسكري، وهي مادة مشتركة بين الشباب والشابات والنجاح فيها شرط أساسي للتقدم لامتحانات الشهادة الثانوية) تبدع في ابتكار أساليب قهر الجسد وإهانة الكرامة لتأهيلنا للدفاع عن الوطن! يحدثونك عن حضارة البابليين ويمنعون عليك مشاهدة التلفزيون العراقي، ستخطئ مرات ومرات بين توزع السلطات الثلاث في الدستور وصلاحياتها وحدودها، وربما ترسب في المادة وتصبح مضرب مَثل في الغباء وبلادة الذهن، لتكتشف أخيراً أن الدستور معطل بسبب الأحكام العرفية وحالة الطوارئ في البلاد.
علو الجسد
ستتعلم أنه لأجل أن تعيش عليك أن تضحي بمعرفتك وتكيفها مع إرادة السلطات، ثم عليك أن تتنازل عن روحك وتحترف المراوغة والتذلل، وشيئاً فشيئاً عليك أن تقتل ضميرك وتقايض به سلامة جسدك وربما سلامة أعناق أولادك وأسرتك. وفي كل لحظة عليك أن تكون مستعداً كي تمنح جسدك وقوداً لحروب لا تعرف فيها أعداءك. فنكران الذات مطلب أعلى عند كل الشموليات، ذاتك التي يبدو نافلاً التعرف إليها ما دمت ستنكرها! هكذا تتخلى عن نفسك بالتدريج، تدفع بعضها على أمل حماية بعضها الآخر، وتسوّغ لنفسك فرصتك الذهبية في النجاة، ويسوّغون لك بأن الإنسان يستطيع أن يعيش بلا ضمير وبلا روح ولا موقف، لكنه يحتاج جسده. الجسد، حاله كحال الوزير في لعبة الشطرنج، يناور ويقاتل ويتخلى عن قلاعه وأحصنته وفيَله وجنوده ونفسه فداء للملك/ الحياة. الحياة البائسة المعزولة المهزومة التي ستورثها للأبناء!
لا يمكن انكار الشعور بالفخر والكبرياء عندما يقدمون لك نماذج مثل الخنساء وخولة بنت الأزور. ولكن ماذا عن صرخات الأمهات والأخوات الكثيرات، وحسرات الزوجات التي يتردد صداها حولك: لماذا يحب الرجل المعركة أكثر مني؟ ولما تناديه الحرب فيهرع إليها ويتركني وحيدة؟ ألم ينزل من الجنة لأجل حواء؟
نخرج من البيت بدافع البحث عن مكان ومكانة في العالم، وغالباً ما ننسى لِما خرجنا. نتوه في الالتزامات والواجبات ولا نتذكر أنفسنا إلا عند نهاية العمر، أو على أعتاب غياب مفاجئ: سجن، هجرة، مرض، قتل، حرب، خطف، اغتصاب! فَقْد الجسد أو التهديد بفَقْده هو من يذكرنا بأن حياتنا مهدورة من دون طائل!
يوماً ما عندما سترى جثثاً مهشمة ستدرك كم كانت تتوق إلى الحب وكم تكره الحرب! مثلما أفصح جسد "البوعزيزي" وهو يشتعل متمرداً على أنظمة الطغيان، ساخطاً على حكمة طأطأة الرأس وحفظ اللسان.. حين استطاع في لحظة كبرياء تراجيدية مُطهّرة بالنار أن يعرض علينا صورة كرامتنا الجريحة وذل عيشنا بروح كسيرة وضمير معذّب وحياة بلا أمل. فكان فاتحة موجة "الربيع العربي"، موجة الأجساد الغفيرة المهملة البسيطة الموجودة على هامش الحياة وفي ظلال الصورة، التي لم يكن لديها لا أفكار كثيرة ولا شعارات ولا مقولات ولا أسلحة ولا خطط ولا أهداف.. لديها صرخة عارمة: لم نعد نطيق العيش في عالم يشظّينا ويمتهن تمزيق كياننا الواحد. وها نحن نغامر بتقديم تمريننا الأول على بناء الحياة المتجددة لا المؤبدة: عندما نكون بكامل ذواتنا ونجتمع معاً سنعرف كيف نجمع مواردنا ونستثمرها ونتشاركها.
التشارك في الحياة
في كل الساحات العربية قدم المنتفضون "بروفاتهم" الفريدة لتنظيم الحياة اليومية ومستلزماتها، تقاسموا المهام وأوجدوا شرطة وحرساً وأعلاماً ومشافي ومطابخ واحتفالات ومنتديات وخططاً "ساذجة" لمواجهة عدوان السلطات. استطاع المسلمون أن يصلوا تحت حماية المسيحيين والعكس بالعكس، تمكن ابن الريف من مجادلة بنت المدينة من دون خجل أو وجل، وتشابكت أيديهم في الرقص كما امتزجت أصواتهم في نداء الحرية وركضوا معاً لإسعاف الجرحى ورعاية الأطفال والعناية بنظافة المحيط. كان الناس يتملكون حياتهم لأول مرّة، يُشغلون فضاءهم بجماع كيانهم الواحد المتحد بالتراضي والتوق إلى الاجتماع الفطري مع الآخرين في حضن بيئتهم. وهكذا في الزمن الثوري المشحون بالأفكار والمشاعر والإرادة، لا تجد فصلاً بين الفكرة وصاحبها/ أصحابها، بين الشعار وتطبيقه، بين التصور والممكن، بين كل قضايا الحياة اليومية والمصيرية ومعالجتها. الحياة هناك كانت برلماناً دائم الانعقاد للنقاش والتصويت والتطبيق والتصويب وبهجة المشاركة. غالباً ما تصعب الكتابة عن لحظات الثورة من دون اختزال، لأن كل كتابة ستكون عاجزة عن ملاحقة زخم العصف الذهني والعاطفي والجسدي، عن تتبع الخلطة العجيبة من الموروث والحداثة، من الحلم والخيال والواقع وسرعة الاستجابة والتجاوب مع معطياته، مع كمية الممكنات المتاحة والأخرى التي كانت على وشك الولادة والنمو.. الجسد ليس وسيلة الثورة وفاتحتها ومطلق شرارتها وحسب، هو مغزاها وهدفها، على اعتباره حاضن الروح والعقل والضمير والوجدان، وعلى اعتبار حياته وسلامه ورفاهيته وإبداعه هو جوهر الحياة وغايتها.
ولهذا يبدو السؤال عن حال الجسد مفتاحياً لمعرفة أحوال البلد وتحولاته ومآلاته. بل ربما أصبح التعميم ممكناً، أنَّ حال الجسد في بلدان "الربيع العربي" بات يكشف أحوال بلدان العالم وتحولاتها ومآلاتها إلى خذلان الضعفاء، برغم أننا سكان "قرية صغيرة" على حد زعم حماة حمى حقوق الإنسان.