هي من جيل سعى إلى موت هادئ في الستين من العمر، بعد أن يتزوج الأولاد ويمتلئ صحن الدار بالأحفاد، وبعد أن تكون هي و"الحجي" زوجها جالسين على شرفة مربّع "العلّية" (غرفة النوم)، يشربان قهوة العصر، وهي في ثوب نومها الفيروزي المستتر تحت "روب دي شامبر". لا تحب الخالة فطينة أن تتخلى عن هذه التسمية الفرنسية. تشعر أن فيها نوعاً من الرفاه والإيحاء، حيث تعتقد أن مصدرها عثماني من أيام "الحرملك"!
نشأت فطينة في عائلة حلبية فقيرة. لم تكن جميلة، لكنها كانت بيضاء وشقراء، ما يعني امتلاكها جواز مرور ربانيّاً باتجاه الترقي على درجات السلم الاجتماعي. فالخاطبات يعرفن ما الذي ينفع الذكور: وجه حلو ومؤخرة ناعمة. أما الحلاوة فهي بديهياً مرتبطة باللون الأشقر، أليست كل الحلويات الحلبية الشهيرة شقراء المظهر! لكن مطلباً آخر كان ضرورياً، أن يكون الفم للأكل وليس للكلام، وهو ما حرم فطينة من زواج ميسور، فقد مال قوامها للنحافة نظراً لنشاطها وكلامها ومخيلتها التي لا تنضب، وبسبب فقر أهلها أيضاً، فما كان يُسمى عشاء (فتة الخبز بالشاي) لم يكن في متناول جميع أفراد أسرتها، الذكور يتناوبون فيصيبون وجبة كل يومين، أما الإناث فيتعشون كل ثلاثة أيام.
لم تقنع فطينة بهذه القسمة يوماً، ولم تؤمن أن جوعها ورغباتها المقموعة منصوص عليهما في كتاب الله حسب ما يقول الرجال والأمهات. ولأنها مسؤولة عن البيت من بابه إلى "محرابه" في غياب أمها التي تطبخ في بيوت الأغنياء، كانت تتدبر أمرها بطرق عديدة، مثلاً بأن تقايض أبو عبدو الفوّال: بعض الخبز اليابس مقابل القليل من الحمّص تأكله قبل أن تصل البيت. لم تكن تشعر بالذنب وهي "تسرق"، فهي بحاجة إلى تقوية عصبها كما تقول، عصبها الذي يشمل عضلاتها اللازمة لطي اللحافات القطنية الثقيلة وترتيبها، ورفع الفرشات وتسوية "الدُشُكات" التي هي عبارة عن مستطيلات محشوة كيفما اتفق بثياب مهترئة وبقايا أقمشة وقصاصات يجلبونها من نفايات معامل الخياطة وتقوم مقام "الكنبة"، حتى أن لها مساند منفصلة محشوة بالقش! وكان عليها أيضاً تبييض طناجر الألمنيوم التي تصبح سوداء بعد طبخة العدس بحامض الحصرم، وعليها أن تتحمل عشرات اللكمات والرفسات من إخوتها الذكور كلما رأوها تستعد للخروج دون أن تسدل الحجاب على وجهها.
الخالة هشام
في الحارات الشعبية حتى الأسماء قليلة، هنا مجموعة عائشات ينادون الواحدة منهن عيشة، وكثير من الفاطمات، ومتفرقات من راضية وصبيحة وأمينة ونبيهة وفطينة.. بقية الأسماء مثل البنفسج في حقل قمح لا قيمة لها ما دامت صاحبة الاسم ستحمله بضع سنوات قبل أن يطويه النسيان، لأنه بعد أن تكون ابنة والدها، ستصبح حرم زوجها ثم أم ابنها. اذاً ما سرّ تسمية الخالة "هشام"؟ إنه الأب القوي الغني الذي يرتجف في حضرته الرجال وهو شيخ كار تجار "البرلون" (نوع من القماش) الذي لم يكن قادراً على ابتلاع إهانة الأقدار ومعاكستها له في زيجاته الأربع التي أخفقت في إنجاب "شقفة" ولد، فما كان منه إلا أن طلّق إحدى زوجاته، وتزوج العاملة الأرملة الجميلة أم الفتاة اليتيمة التي نُزع عنها اسمها، وأصبحت "هشام". فما دام الله سخّر له فرصة إرضاء رجولته أمام الناس، فما المانع من إضافة تمويه صغير ربما يزيل عنه بعض الغمّ والحرج!
يا لجمال هشام! عينان عسليتان تضيئان بشرة بيضاء شمعية، حزنها الشفيف يضفي على حضورها مسحة ملائكية محببة، تخفي مبسماً حلواً ظهر مرة عندما سُئلت عن الطاسة النحاسية المفضضة: هي طاسة حمام عرسي! امرأة مثل هشام كانت خليقة برجل له روح شاعر، لكن نصيبها سار بها، وهي من قلائل المتعلمات في "مدرسة نابلس للبنات"، إلى بيت تاجر أغنام لم يعرف قصتها وقتذاك وقد بهره نسبها و"جهاز العروس" الذي كان عبارة عن قافلة سيارات غصّت بحمولاتها فأضحت فرجة وحديثاً ينتقل على ألسنة الناس لأعوام.
هشام وفطينة التقيتا في صحن الجامع الأموي، المكان الذي أخذ يشبه "العيادة النفسية" حيث التطبب بالروحانيات المشفوعة بالماديات طبعاً، فالشيوخ الذين يفكّون السحر ويكتبون الحجابات ويقرؤون الموالد على نيّة التوفيق في السفر والزواج والعمل وشراء العقارات وإنجاب الذكور، هؤلاء الشيوخ القادرون على تيسير أمور النساء خاصة، وتقريب البعيد وطلب الصفح من الله لأجل كذبة هنا وسرقة من جيب الزوج هناك، كانوا يدعون الله أن يرزق أزواج النساء. لكن رزقهم هم لم يكن يطيق انتظاراً، فهم يأخذونه نقداً مستحقاً دون جدال!
القاصي والداني يعرف لوائح طلبات فطينة (ومثيلاتها) من الله. فمصائبها كبيرة وكثيرة، لكن ما يفتك بقلبها منذ "أحداث الإخوان المسلمين" في الثمانينيات، هو ابنها البكر الذي قُتل في العاشرة من عمره حينما كان منهمكاً مع أقرانه في منافسة على جمع فوارغ الرصاص المنهمر أمام جامع النصر. طوال تلك السنين وفطينة تحاول إنجاب أخ لوحيدها المتبقي وتفشل. تشتري وتبيع، تجّهز الخضار لسوق الخوانم، تقطع وتقشر، لتترك كل شيء وتخرج فجأة إلى أرض الدار طلباً لهواء يبرّد نارها، وأملاً في رؤية وجه الله بشكل أفضل لتتوسله أن يفصح لها: لماذا اخترتني أنا لهذا الامتحان؟ وعندما تتذكر أنها ليست الوحيدة، تقول له معاتبة: أخذْته ولم تعوضني عنه! توشك أن تكفر، فتبكي وتستغفر وتستعيذ من الشيطان. ولكن صدرها انشرح أخيراً عندما لاح لها خاطر عظيم: لقد أخذ الله ابنها البكر حتى لا يأتي يوم يقف فيه ولداها طالبين دم بعضهما مثلما حدث لجارتها، حين قنص أحمد العسكري في جيش النظام أخاه المنضم إلى إحدى الكتائب المسلحة في حي الزبدية. يا إلهي! كم أنت رحيم وكم هي واسعة حكمتك! كنت أعرف أنك تحبني وتشفق عليّ.
ولكن ما ذنب أم أحمد لتعيش هذا الجحيم؟ وهكذا بدلاً من أن يهدأ خاطر فطينة، تعود لتنشغل بمئات الفجائع وتعود إلى ربها محمّلة بلوائح متخمة بالطلبات. فحلب مدينتها وعالمها كله تتعرض لقصف وتدمير، لا ماء ولا كهرباء ولا طعام، الأسواق تهدّمت والمعامل نُهبت والرجال يهربون خارج البلاد أو يذهبون ليقتل بعضهم بعضاً، وقد أصبحت تخشى هؤلاء الغرباء القتلة الذين لن يتوانوا عن رجمها أو نحرها لأنها تكشف وجهها! وكلما ازدادت طلباتها كلما اكتشفت عجز المشايخ عن التوسط لتلبيتها، لذا نقمت عليهم وصرخت: هؤلاء يأخذون أموالنا ولا يفعلون شيئاً لأجلنا، يجب أن نغيّرهم.
في هذه اللحظة وقعت عيناها على هشام، المرأة الوحيدة التي تأتي إلى الجامع دون أن تبوح بمصيبتها أو شكاويها فسألتها بنفاد صبر: وأنت لماذا تسكتين؟ ماذا تريدين؟
وكأن هشام انتظرت دهراً هذا السؤال، فسال جوابها مختصراً بديهياً: أريد تغيير النظام!
وسط الذهول، لاحت ابتسامتها وأشرقت عيناها العسليتان وأفصحت: أريد أن أغير اسمي، وببطء وغموض وتصميم أكملت: أريد أن أعيش!
هذه الجملة فتنت فطينة، التي لم تفطن إليها من قبل، وظلت تردد مسحورة: أريد أن أعيش!