"كل واحد منا له دور في الفساد، نحن في لجنة النزاهة نفتح ملفات ويأتون ويعطوننا رشوة فنغلقها"، تلك كانت كلمات النائب المثير للجدل في البرلمان العراقي، مشعان الجبوري، في حوار تلفزيوني. ترجم هذا السياسي المتّهم بدوره بقضايا فساد عديدة ــ تمّت تبرئته منها تزامناً مع تخلّيه عن موقفه المعارض لرئيس الوزراء السابق ــ طبيعة علاقة التخادم القائمة بين الطبقة السياسية والمصالح المالية. يضيف النائب: "لقد أعطوني رشوة لأغلق ملفاً، وأخذت الرشوة"، ويسبق هذه الجملة بالقول "أي والله.. بشرفي!"، فيما يبدو كقسم عفوي يستقل بالشرف عن السلوك، ويقول ضمنياً إن من الممكن أن تكون لصاً وشريفاً في آن واحد.
اللصوص "الشرفاء"
تُستدعى كلمة الشرف اليوم، بمعناها الظاهري المستند على قراءة دينية ــ عشائرية وليس بالضرورة أخلاقية. فيمكنك أن تكون متديناً ولصاً، لكن مقياس شرفك هو مستوى التدين الظاهري الذي تعبر عنه، أو مستوى الالتزام بالقيم العشائرية وعصبياتها، حيث يختزل الشرف بمفاهيم مثل "العرْض"، وبمدى الضبط الذي يقوم به الرجل لنساء الجماعة حتى لا يتعرّضن للانتهاك من الجماعة المقابلة.
في دراستها عن الفساد وسياسات الهوية، ترى الأستاذة الجامعية والمختصة بمنظومة الهجرات كاميلا أورخويلا ((Camilla Orjuela أن طغيان سياسات الهوية في المجتمعات المنقسمة غالباً ما يرافقه تصاعد في مستوى الفساد، لأن هذا النوع من السياسات الذي يقوم على التمثيل الهويّاتي للجماعات، لا التمثيل القانوني للمواطنين، يسمح بإضعاف قيم المحاسبة والمسؤولية لأنه يقوّض قدرة المؤسسات المحايدة والوسيطة التي تراقب عمل المسؤول الحكومي على ممارسة دورها حيث تتحول تلك المؤسسات نفسها إلى مفرخ لهذا النوع من السياسات. كما أن تسييس التنوعات الاجتماعية - الثقافية يقود تدريجياً إلى تغييب الوعي المواطناتي لمصلحة الوعي الجماعاتي، وهذا الأخير يقوم على فكرة التربص بجماعتـ"هم" والتسامح مع جماعتـ"نا". يمكن عندها للمقاولين السياسيين لجماعتـ"نا" أن يسيئوا استخدام سلطتهم أو يسرقوا من أموال الدولة أو يرتشوا، لكنهم يستخدمون خطاب الدفاع عن الجماعة لتبرير هذا السلوك، خصوصاً إنْ اختلط فسادهم مع توزيع للعوائد على منتمين للجماعة ذاتها. في مثل هذا السياق، ينشأ تواطؤ جمعي يجعل من الشرف مساوياً للعصبية، ويُنحّي بالنتيجة القيم المواطناتية التي تريد استبدال شرائع وأعراف الجماعات بنسق قانوني - حقوقي ينْظم العلاقة بين مواطنين لا مجرد بين أرقام في جماعات، وبين هؤلاء ودولة يحكم عملها القانون، لا مجرد إطار لاستيعاب نخب تدّعي تمثيل العصبيات المتصارعة.
كيف يرتشون؟
تمثل القصة التي نشرت بالاشتراك بين موقع "هافينغتون بوست" و مؤسسة "فايرفاكس ميديا" عما أطلق عليه "أكبر فضائح الرشوة في العالم"، آخر مثال صارخ للكيفية التي جرت بها سرقة العراقيين والتلاعب بالمال العام. وستكون القضية على الأرجح مثالاً آخر للكيفية التي يمكن لفضيحة مستندة على وثائق وذات بعد دولي أن تُطوى بالنسيان العراقي، وأن لا يتعرّض المتهمون بها لأي محاسبة. ومن المهم أن نتذكر هنا أن النائب الذي بدأنا المقالة باقتباس تصريحاته كان متهماً في يوم من الأيام من قبل "هيئة النزاهة العراقية" بسرقة ملايين الدولارات عبر وضع قوائم أسماء وهمية في حماية المنشآت العراقية، حينما كان متعاقداً مع وزارة الدفاع.
فضيحة الرشوة في قطاع النفط تركز على نشاط شركة "يون أويل" التي تقدّم نفسها بوصفها شركة مختصة بـ"الحلول النفطية"، وهو تعبير تجميلي ومراوغ لشركة عملها الأساسي الوساطة بين الشركات النفطية الغربية والحكومات العالم ــ ثالثية، وبتعبير أدق، إقامة علاقات مع مسؤولين في تلك الحكومات للحصول على معاملة تفضيلية وعقود لمصلحة وكلائها من الشركات، وتَقاضي نسبة متفق عليها من العقد الذي يتم إبرامه. نجح ممثل الشركة في العراق بإقامة علاقات مباشرة مع عدد من المسؤولين في القطاع النفطي العراقي، وابتدأ نشاطه برشوة أحد موظفي "شركة نفط الجنوب" بدفع فاتورة تبضعه خلال وجوده في لندن، بما في ذلك معطف قام بشرائه من هناك، لينتهي بها الأمر وبحسب الوثائق المسرّبة الى رشوة أكبر مسؤولين عن قطاع النفط في العراق، إلى حد دفع مبلغ 16 مليون دولار إلى نائب رئيس الوزراء السابق، حسين الشهرستاني، ووزير النفط السابق، عبد الكريم لعيبي، لقاء تلزيم عقد لتشييد أنابيب نفط بقيمة 600 مليون دولار.
وبحسب التقرير، فإن هناك شركات غربية كبرى متورّطة بالتعامل مع هذه الشركة التي يوجد مقرّها في موناكو (يقول أحد الخبراء إن مجرد معرفة مقر الشركة كان يجب أن يدفع تلك الشركات للشك بنشاطها، فيما لو كانت، كما تزعم، لا تعلم بنوع هذا النشاط). ومن بين هذه الشركات "هاليبرتن" الأميركية (ومقرها العام في هيوستن ومقرّها الثاني في دبي) والتي صارت أشهر من أن تعرّف، "كي بي أر" (المدرجة في بورصة نيويورك، والتي تعرّف عن نفسها بأنها "شركة عالمية متخصصة في مجال الهندسة والبناء والخدمات وتعمل على دعم أسواق الطاقة والصناعات الهيدروكربونية، والخدمات الحكومية، والمعادن، والبنى التحتية المدنية، والكهرباء، والأسواق الصناعية والتجارية".. وقد تعاقدت معها مؤخراً شركة البترول السعودية آرامكو، وهي تقدم كإحدى أجنحة هاليبورتن)، و "إيني" الإيطالية (التي تعرّف عن نفسها بأنها "شركة متعددة الجنسيات وتعمل في 76 بلداً، وتملك الحكومة الإيطالية 33 في المئة من أسهمها"، وهي أعلنت مؤخراً عن اكتشاف "حقل غاز عملاق" في مصر)، و "رولز رايس" (البريطانية والمتعدّدة الجنسيات والمسجلة في بورصة لندن وواحدة من الشركات التي يتكون منها مؤشر فاينشال تايمز، وهي لم تعد تنتج السيارات الفخمة فحسب، بل تعمل وفق موقعها في مجال أنظمة الطاقة و "المعدات الدفاعية".. وهو التعبير المهذب للسلاح). وقال التقرير إن الشهرستاني نفى التهم الموجهة إليه ودعا إلى إحالة الملف إلى "هيئة النزاهة العراقية"، وهو ما عاد إلى تأكيده في بيان أصدره مكتبه داعياً "الحكومة العراقية الى مطالبة الصحيفة الأجنبية بتزويدها بكل ما لديها من مستمسكات ووثائق وأدلة لتتسنى لها محاسبة المفسدين. وبخلافه فإن الحكومة ملزمة بمقاضاة الصحيفة على التشهير بموظفي الخدمة العامة والشخصيات التي خدمت العراق".
.. الشرطة الفيدرالية ووزارة العدل الأميركيتان وشرطة مكافحة الفساد في بريطانيا وأستراليا فتحت تحقيقات متعلقة بملف أكبر رشوة في قطاع النفط. ومن الصعب الجزم في ما الذي سيحدث عراقياً، بل وللمفارقة، ربما يكون العراق هو أكثر الأماكن أماناً للمتهمين إنْ جرى اتخاذ إجراءات ضدهم من قبل جهات التحقيق الغربية.
اجتثاث الفاسدين
هل سينتهي الأمر بهذا الملف إلى نتيجة تشبه تلك التي انتهى إليها ملفّ التحقيق بأجهزة كشف المتفجرات المزيفة.. والتي لا زالت تستخدم في العديد من نقاط التفتيش العراقية؟ الجواب على هذا السؤال بكلمة واحدة: لا يهمّ. فالتعامل الاستثنائي مع قضية فساد كبرى لمجرد أنها ظهرت في الإعلام الغربي ليس حلّاً للمشكلة. فلربما هناك قضايا فساد أكبر بحجم متورطين أوسع يتم التغاضي عنها طالما أنها لم تجد صحافياً غربياً يستقصي عن تفاصيلها.
القيمة الأساسية لهذه القصة هي أنها تروي لنا بالتفاصيل الدقيقة كيف يعمل نظام الرشوة في العراق، وتلقي ضوءاً مهماً على الطريقة التي تنشأ وتنمو فيها شبكات الفساد ونمط العلاقة بين الطبقة السياسية وأصحاب المصالح المالية. الأسماء بذاتها، على "علوّ مقامها"، ليست الشيء الأهمّ، ولا يوجد سبب للاعتقاد أن مسؤولاً آخر في الموقع نفسه كان سيتصرّف على نحو مغاير، ما دام الجبوري قد قال صراحة "جميعنا نرتشي". المهم هنا هو الصدمة التي يجب أن تجعلنا مدركين أن معالجة الفساد لا تقوم ببساطة على "ضرب المفسدين بيد من حديد"، كما جاء في خطبة لممثل المرجع السيستاني في معرض دعوته للعبادي كي يكون حازماً (على أهمية ما يمكن أن ينتجه الحزم من قوة ردع)، ولا عبر تخليصنا من الحرامية كما يتردد على لسان المحتجين العراقيين، بل بإدراك أن الفساد هو منظومة معقدة ترفدها عوامل سياسية واقتصادية وثقافية، لكنها تعمل بفاعلية حيثما توفرت لها البيئة المناسبة. وهل هناك بيئة أنسب من الوضع العراقي، حيث تغرقنا سياسات الهوية باستقطابات زائفة، وحيث يسقط حكم القانون يومياً عبر ممارسات مَن تمّ إيكالهم بمهمّة حمايته؟
ليس الفساد سوءاً في الطباع يتم حلّه عبر طرد "السيئين". فمعظم من تصدّر المشهد العراقي هم أخلاقويون من الطراز الأول، تغلب صفات الوعظ والتدين عليهم، ويجيدون ترداد آيات القرآن الأخلاقية ومقولات الإمام علي عن العدالة، وربما يحفظون عن ظهر قلب رسالته لمالك الاشتر، ويعرفون تماماً قصته مع أخيه عقيل الذي طلب ما لا يستحق من بيت المال. لكن الطباع والأخلاق شيء، والبيزنس شيء آخر. فالقصة أعلاه تقول لنا إن الشركات الغربية التي تخشى كثيراً من عواقب خرق القانون في بلدانها، لا تتردد عن القيام بذلك في بلد عالم ــ ثالثي يغيب فيه حكم القانون. تأتي عندها "يون أويل" وأمثالها لتدير العلاقة بين تلك الشركات والمسؤولين المحليين، وتلعب دوراً في إفساد هؤلاء ومن ثم دفعهم ليصبحوا وكلاء لها في بناء شبكة فساد أوسع. وتشير المقالة المذكورة إلى أن ممثل "يون أويل" كان عليه أن يلازم مسؤولاً عراقياً في دبي لمدة 4 أو 5 أيام وكأنه يجالس طفلاً بحاجة للعناية، فقط لضمان ألاّ يأتي منافس آخر للشركة ويتواصل مع هذا المسؤول.
نحن أمام منظومة تعيد إنتاج نفسها، بغض النظر عن شاغلي مواقعها. وهي منظومة تستثمر قطعاً بالجشع الإنساني وبرغبة الإثراء السريع، لكنها تستثمر أكثر بنظام يخضع فيه القانون لمطاطية عالية في التفسير، وتُنتهك فيه بنوده من أجل ما هو "أسمى". ولا تعود أي مؤسسات تنشأ لغرض حمايته تملك قدرة مقاومة مَن لديهم قوة أعلى من القانون يمتزج فيها المقدَّس بالهوية بالسلاح.
في عام 2011 كتب ممثل "يون أويل" متفاخراً أن شركته على وشك أن تمسك تماماً بكل هرم القطاع النفطي في العراق. كم "يون أويل" تمسك اليوم بقطاعات أخرى؟