أغلب الشباب الذين كانوا يقارعون البوليس في الشوارع لم يكونوا يعرفون شيئا عن الباجي قايد السبسي عند عودته إلى المشهد السياسي التونسي في كانون الثاني/ يناير 2011. حينذاك، كان قد مضى على انسحابه من الحياة السياسية عشرون سنة بالتحديد، أي ما يعادل عمرَ كثير منهم. وهو يبدو الباجي قايد السبسي اليوم في مركز اللعبة السياسية في تونس الجديدة التي تحملها ثورةٌ هم من قام بها. مخاضٌ غريب ذاك الذي يتمّ عكس منطق الأجيال البيولوجية، فيجعل شبابا ثائرا ساخطا ماضي العزيمة يوصل إلى سدّة الحكم رجلا عمرُه 88 سنة، ارتاد كلَّ أروقة الجمهورية التونسية وتردّد على كل صالوناتها.
كذلك، لم يكن شبّان 2011 بالتأكيد يعرفون الكثير عن بورقيبة، ذاك الذي كان التلفزيون، في طفولتنا، يدعوه "المجاهدَ الأكبر"، وكان كل مساء يحكي لنا ذكرياتِه، وكنا نراه في فصل الحر يسبح في البحر. لم تهدهدهم مثلَنا عبارةُ "تحصل معناه" كفاصلةً لازمةً مميزةً تتخلل حديثَه، وكانت في آن واحد علامةَ إرادته في أن يفتن مخاطَبيه بسحر بيانه وأمارةَ تبرّمٍ طفيف. لا، لم يكن هؤلاء الشبان يعرفون الكثيرَ عن كلّ هذا، فجلُّه كان قد محاه نظام الحزب الدستوري الديموقراطي. ولهذا السبب، لم يكن الباجي قايد السبسي معروفا عندما برز على الساحة، فلا هو رجل الثورة ولا هو رجل بن علي، بل رجلٌ جديد في نظر أغلب من اكتشفوه حينذاك.
أرسم هنا بورتريه الباجي قايد السبسي من دون أن تغيب عن ناظري ظروف ظهوره الطاغي وغير المنتظر هذا. ليس الخطأ المطلق سمةَ المقاربة النقدية لحركته (نداء تونس) وللتصويت عليه كآيتين من آيات "عودة للنظام القديم"، لكنها في نظري مقاربة قاصرةٌ منقوصة: علينا أن نتفق أولا عما هو "النظام القديم" وعلى ما يستحضره منه الباجي قايد السبسي، عن وعي أو عن غير وعي.
قال الباجي قايد السبسي في تصريح للجريدة البلجيكية "لوسوار": "أنا تلميذ بورقيبة ونتاج مدرسته". لننطلق من هذا الانتساب. ما مدرسةُ بورقيبة يا ترى؟ هي، أوّلا، وبشكل بيّن، أسلوبٌ ليس من العسير التعرّفُ عليه: تحكّمٌ في ناصية العربية الفصحى والعامية وتناوبٌ بين الجلال والرصانة وبين حكي النوادر والحَمِلِ على الخصوم باللهجة التونسية (لهجة تونس العاصمة). عندما يظهر الباجي قايد السبسي في المشهد، تسمع آذانُ كلِّ من عرفوا بورقيبة لحنا صغيرا آتيا من ذلك العهد وما يلازمه من فكاهةٍ وعدمٍ تكلّف، ومن وقارٍ أيضا ومن نبرةٍ تهديدية في حالة الغضب. ويمكن أن نحس خشيةَ الأب (وما يُدان له به من احترام) لدى الصحفيين وهم يغطون ندواتِه، كما لدى محاوريه السياسيين.
وينبغي أن نضيف إلى الأسلوب حذقاً سياسيا يعترف هو بأنه من صفاته. يعرف الباجي قايد السبسي أنه رجلا استراتيجيا ويشير إلى ذلك بانتظام. وهو باسم الخبرة، يقرّ ببراغماتيته منافحا عنها كثابت من ثوابته. ومثل بورقيبة، يأخذ واقعَ ميزان القوى بعين الحسبان فيجد لنفسه مكانا فيه ولا يتردّد في اللجوء إلى القوة، قوةِ مهابته وسطوةِ الدولة أيضا إن اقتضى الأمر. الدولةُ، لا ريبَ، هي ما يحتلّ مركزَ تفكير الباجي قايد السبسي، فرفعةُ شأنها وهيبتُها كانا في قلب خطابه عند بروزه على المشهد السياسي التونسي بعد الثورة. وتتوقف هيبةُ الدولة ويتوقف حسنُ صورتها المعنوية والمادية على من يمثلّها، وهما يتماهيان لديه مع مظهرٍ عام بورجوازيٍّ بل قل ارستقراطيٍّ. ويعبّر عن رأيه هذا في كتابه عن بورقيبة قائلا: "تأتي رفعة شأن الدولة من توازن وتماسك مؤسساتها، وبنفس القدر، من أناقة نُصُبها وجلالها وجاذبيّة رموزها وسلوك ممثيلها سلوكا لا شيَة فيه". ليست المسألة في نظره محضَ مسألة نزاهة، هي أيضا مسألةُ حسنِ مظهر وحتى أناقة أيضا. وإذا كانت الدولة تحتلّ مركزَ تفكيره فلأنّها رمزُ الاستمرارية، وهي أيضا رمزٌ يمكِّن الباجي قايد السبسي من أن يبدوَ كمنقذ للبلاد.
مركزية الدولة مفتاحٌ لفهم الكيفية التي تنطرح بها قضية النظام القديم والنظام الجديد في نظر الباجي قايد السبسي، فمن قمّة سِنِيه الثمانية والثمانين، وبشكل أخصَّ من موقعه في المجتمع كبورجوازيٍّ من بورجوازيّي العاصمة ،تعود أصولُه إلى نبالة عهد البايات (وقع أب جده، أصيل سردينيا، في الأسْر ثم احتضنته الأسرة الحاكمة فعاش في كنفها)، لا معنى للقطيعة الثورية لديه إذا ما قورنت باستمرارية تونس المؤسساتية والإدارية والترابية.
وبوقوفه على هذه المسافة الارستقراطية من مسائلَ يعتبرُها معاصروه "مستعجلة"، يبدو الباجي قايد السبسي في أحيان كثيرة كأنّه يدرج الخصوماتِ السياسيةَ الحالية في سياق أشمل، سياقِ الاستمرارية التاريخية. لذا يتبنى بسهولة أطروحةَ وجود استقطاب ثنائي للمجتمع والحياة السياسية في تونس، ناظرا إليه كإرثٍ وكإعادة إنتاج للصراع بين أهمّ تيارين عرفتهما مرحلة النضال من أجل السيادة الوطنية. وفي إطار هذا السيناريو، يجسّد الإسلاميون وحزبُ منصف المرزوقي، "المؤتمر من أجل الجمهورية"، عودةَ التيار "اليوسفي" (نسبة الى صالح بن يوسف، أحد قادة النضال من اجل الاستقلال الذي اختلف مع بورقيبة حول قبول الأخير بالاستقلال الذاتي قبل إقرار فرنسا بالاستقلال التام، واتهمه بورقيبة بالتواطؤ مع عبد الناص وقطع على اثر ذلك في 1958 علاقات تونس الدبلوماسية مع مصر قائلا "تونس عندها شخصيتها". وقد اغتيل اليوسفي في 1961 في المانيا من قبل الأجهزة التونسية)، بينما تُصوَّر حركة نداء تونس حاملةً للمشعل التحديثي. وبشكل ما، فإن تفعيلَ خطوط الانقسام القديمة صورةٌ من صور ترسيخ دعامة وطنية و"هوية تونسية" يُعَدُّ بموجبهما الخصومُ في عِداد خونة الوطن. وعلينا أن نتذكر هنا أنّ أوّلَ منصب سياسي رفيعٍ تقلّده الباجي قايد السبسي كان منصبَ مديرِ الأمن الوطني لتسيير الأزمة التي تلت اكتشافَ "مؤامرات" ترمي إلى الإطاحة ببورقيبة (كانون الثاني/يناير 1963)
عدا هذا الأسلوب واقتران الترغيب بالأبوية التسلطية، فالباجي قايد السبسي تلميذُ بورقيبة من زاوية جوهرِ استراتيجيته السياسية، تلميذٌ من الوفاء بدرجة إعطائنا الانطباع بأنّه لا يزال يعيش في خصومات الخمسينيات رغم كلّ كلامه عن الحداثة وسياسة القرن الواحد والعشرين.. هذه الخصومات كثيرا ما تضع جانبا مظهرا آخر من مظاهر ثقافته السياسية، وهي علاقاته باليسار الراديكالي. فبدافع من البراغماتية والحذق السياسي، لا تتطرق تصريحاتُه إلا في ما ندر إلى القوى الاجتماعية الثورية وإلى حلفائه الجدد المابعد شيوعيين. وهو كثيرا ما يستحضر ذكرى حكومة الوحدة الوطنية وسيادةَ مناخ هذه الوحدة في البلاد حسب قوله غداة الاستقلال.. ناسيا دورَه هو في قمع التيار القومي العربي وحركات 1968 التونسية بعده. وفي هذا الصدد، لا يسعنا إلا أن نلاحظ ما يحظى به من دعم من قِبل ضحاياه السابقين المجتمِعين على فوبيا الإسلاميين وجوٍّ من الخوف يبرّر في نظرهم كلَّ الاستثناءات ويلخِّصه بمنتهى البلاغة الفيلمُ الدعائي لحملة نداء تونس المتمحورُ كليةً حول خشية الإرهاب الإسلامي.
وهنا تحديدا يتجلى وجهٌ آخرُ من وجوه الباجي قايد السبسي، ذلك أن "عودتَه" لم تكن، كما ألمح إلى ذلك بعضُهم، انبثاقا عفويا. وأنا هنا أبعدُ ما يكون عن اعتباره مجرد دميةِ "تحرك خيوطَها" من وراء الستار اصابعُ خفيةٌ. والحقيقةُ أن ما يفاجئ الملاحظ هو الطريقة التي تبدو بها مزاياه علامةً فارقة فتطبع شخصيتَه بطابع الجِدَّة مقارنة بمجمل الطبقة السياسية. وبصورة ما، فإن سنّه المتقدمة وثقافتَه وما يمثّله من استمرارية في تاريخ تونس المعاصر عواملُ قطيعة في سياق الخروج من نظام "بن علي"، ما انفكّ يكسر كل ما اصطُلح عليه من قواعدَ خلال العهد البورقيبي. نظام كانت سماتُه البادية لغةً جامدة وذوقا رسميا مبتذلا ومحسوبيةً من نوع جديد مبنيةً على تفشٍّ واسع للفساد. وبالتباين مع هذا النظام، بدا ظهورُ الباجي قايد السبسي في حوار أذاعته قناة نسمة التلفزيونية في 17 كانون الثاني /يناير 2011 وكأنه إنقاذ لما يمكن إنقاذه.
لا مفاجأةَ إذاً إن تحوّل الباجي قايد السبسي إلى مدلّل الإعلام والنخب الجديدة، نُخب "مقاولي السياسة" - وهي بالمناسبة، في كثير من الأحيان، من نفس وسطِه الاجتماعي. ففي جعبته ما يبيعه في السوق السياسية: شيءٌ من الحنين (يا لنبرته المميَّزة!) وسطوةٌ يفترض توافقُها مع التطلعات الديموقراطية والحداثةُ مقرونةً بالإرث البورقيبي. وتتركز حملتُه الانتخابية على استخدام هذه الأدوات. لذلك صوّرت حال انطلاقها أمام ضريح المجاهد الأكبر. وعدا ذلك، يتعلّق الأمر بالنسبة إليه باللعب بلا انقطاع على وتر التضاد بين "قبلٍ" (غيرِ محدّد المعالم) وبين ما تلاه، ودون أن تساوره الخشية من الإدلاء بتصريحات فيها شيء غير قليل من التعالي على الشعب الذي لم تُحسِن قيادتَه، على رأيه، الترويكا (لا بن علي ونظامه، فلا يكاد يأتي لهما ذكرٌ في خطابه، والموضوع حساس بالطبع لمن أصبح رئيس أول برلمان بعد "الانقلاب الطبي" الذي اطاح بمعلمه في السياسة). وفي نطاق صناعة صورته هذه، ليست الآفاتُ الرئيسية لا التفاوتَ الاجتماعي ولا الفقرَ بل تراكمَ الأوساخ في الشوارع والعنفَ الإرهابي المفترض وعللاً اجتماعية تُدرج في عداد الأمراض الأخلاقية كالكحول والتعطل عن العمل، أو بمختصر العبارة، "العقلية الجديدة" (مؤتمره الصحافي بتاريخ 6 ايلول/سبتمبر 2011)، التي يندرج تحت مسماها الانحرافُ الأخلاقي والكسل والعزم على مغادرة البلاد (خلال هذا المؤتمر الصحافي ذاتِه، وصف الباجي قايد السبسي الراغبين في الهجرة بـ "قطاع الطرق").
وبالنظر إلى ما سلف، فإن القول بأن الباجي قايد السبسي يفتح الباب لعودة النظام القديم ليس صحيحا كلَّ الصحة: الادق انه لا يمارس قطيعة مع الماضي، بينما هو يفتح طريقا يبدو وكأنه جديد لأنه يرتكز على فكرةُ استمرارية الدولة التونسية بغرض إعلاء كلمة "سياسة حديثة" قوامُها النظام والأمن والليبرالية الاقتصادية. هذه هي" الوصفة السحرية" التي يدافع عنها المقربون منه، وهي وصفة ما كانت لتصبح ممكنةٌ لولا شخصيته وما بلغه من العمر.
وأساسُ هذه الوصفة توليفةٌ ذكية لاجتذاب الأجيال التي عرفت عهد "ما قبل بن علي" (أي تلك التي ترتاد مراكز التصويت) ولكنها مبنية أيضا على جهل الأجيال الشابة بما تدور عليه رحى الصراعات التي تحمل موجتُها اليومَ رجلا يدلّله المعجبون به فيسمّونه "بجبوج" ويلقبُّه الطاعنون عليه بـ "الغول". والحقيقةُ أن الباجي قايد السبسي يستغلّ سياسيا وجهيْ شخصيته هذين بما يليق بتلميذ نجيب لبورقيبة، أي كجدٍّ طيّب وكغولٍ في ذات الوقت.
(ترجمه من الفرنسية ياسين تملالي)