منتصفَ هذا الشهر ، دخل"العنف" في سوريا عامه السادس. معظم الاحصاءات تتحدث عمّا يفوق 220 ألف قتيل منذ بداية الاحتجاجات المناهضة للسلطة، وآخرها إحصاء المرصد السوريّ لحقوق الانسان الذي يقول أن ثلثهم من المدنيين وأنه من ضمنهم ما يفوق 11000 طفل و7000 امرأة.
نظرتان
لم يخضع مفهوم العنف، عموما، لدراسات مستقلّة. إنه مفهومٌ ظلّ يُقارَب، في أشكاله التاريخية، ومن داخل الاجتماعات البشرية، باعتباره من مستويات السلطة أو أحد تمظهراتها البنيوية. هنا، من العسير التفريق نظريا بين مفهوم العنف ومفهوم السلطة. بكلمة أخرى، يمكن وصف السلطة، بحسب هذه الدراسات، أنها عنف بالقوّة وأن العنف هو سلطة بالفعل. في المقابل، تتمايز دراسات قليلة ولامعة عن هذه الرؤية التقليدية إلى العنف (دراسة حنة أرندت "في العنف" مثالا لا حصرا). إنها دراسات ترى إلى العنف، كماهية، من جهة كونه يحتمل سمات أكثر جوهريّة، ويتمتع في المقاربة، باستقلاليّة عن موضوعة السلطة الى حد بعيد، باعتبارهما مفهومين يتدافعان ويستثمران بعضهما البعض وقد يصلان حد التناقض. وحد التناقض يعني أنّ العنف في حضوره الفادح والعاري والمطلق قد لا يكون، في مستوى من مستوياته، شكلا او تمظهرا من تمظهرات السلطة بل هو، في مكان ما، تعبير عن غياب كامل للسلطة. وإن حضور السلطة الفاقع، بما هي استقرار نظامٍ من الانظمة بأدوات القهر، وهيمنته على شبكة التقييمات الاجتماعية والسياسية هو، بالمقابل، تغييب كامل للعنف.
لمحة مختصرة
ليس العنف المحدث في سوريا، على فداحته وهمجيته، عنفا طارئا أو منقطعا عن تجذيرات له تتصل بمستوياتٍ متراكبة من التحوّلات الاجتماعية العميقة. وهي مستويات تحيل بشكل غير مباشر إلى سياقات تاريخية بلورت الاجتماع الاثني/ الدينيّ السوري. فبنظرة تاريخية سريعة، يمكن استخلاص فكرة أن السلطة السورية بشكلها الحالي أو ما يصطلح على تسميته "النظام" إلى ما قبل 2011، هيَ العسكريتاريا التي قد شكل العنف طيلة عقود خلت، وتحديدا منذ الجلاء، شكلا من أشكال استثماراتها، باعتباره وسيلة مركزية للجهاز الامنيّ في تقرير هيمنته وترسيم حدود هذه الهيمنة. ترسيماتٌ واقعة بالضرورة في تناقض جوهريّ مع نزوع الطبقة السياسية التقليدية السورية ("البورجوازية الوطنية" تحديدا) لإرساء شكل جديّ وهشّ في آن، من التداول الديمقراطي للسلطة التي تتأثر بينويّا بمسارب توزيع الثروة (الانتخابات الديمقراطية المتعددة التي نظمت في الحقبة بين الاستقلال الفرنسي حتى 8 آذار/مارس 1963 باستثناء استفتاءات حسني الزعيم وأديب الشيشكلي واستفتاءات الوحدة مع مصر. تم تنظيم انتخابات ديمقراطية عام 1943، 1949، 1954، 1957 (انتخابات جزئية) وفي الأول من كانون الأول 1961). ولا نغفل أن السلطات الانقلابية في التاريخ السوري الحديث، في سطوتها على الحكومات قبل سلطة حزب البعث، وفي استقرارها بالبعث، هي في مستوى من مستوياتها، تعبيرٌ عن وضعية وبنية الجيش السوريّ التركيبية في تبلورها منذ ما قبل الجلاء (مناقشات إدماج جيش الشرق الذي أنشئ تحت اشراف الفرنسيين وأغلبه من الاقلية، بالجيش الوطني ــ انظر كمال ديب "تاريخ سوريا المعاصر"). ونعني تبلوره التشكيليّ بعيدا نسبيا عن ثقل البيئة الواسعة من لون واحدٍ والتي تتصل بالبرجوازية المدينية التقليديّة ("الحزب الوطني" و"حزب الشعب"). إذ في حين كان أبناء المدن يشقون طريقهم إلى الوظائف الحكومية والمهن الحرّة، جذبت الكلية الحربية أبناء المناطق المحرومة الذي وجدوا في الجيش ملاذا، في غياب إمكانات تمويل الدراسة الجامعية، أو المباشرة بمشروع تجاري لغياب التمويل. وإذ دعت الحكومة الشباب إلى التطوع في الجيش الوطني، لبى النداء أبناء الارياف في المحافظات المختلفة من دروز وعلويين واسماعيليين وبدو وأكراد وأرمن، وليس أبناء المدن.
وجوه العنف العاري
بمعزل عن تقاطعات التيارات والحركات الخارجية التي ترتبط جوهريا أو مصلحيا بالسلطة الحاكمة في سوريا (حزب البعث) فإنا نميل إلى فكرة أن العنف، اليومَ، كمفهوم، يتجه بعد خمسة أعوام من انفلاته إلى أن يكون عنفا مستقلا بطاقته التفجيرية الافقية والعشوائية. إنه، في سياق كهذا، يتجه ليناقض مغزى ورغبة السلطة بالمطلق، في تقرير أنظمتها، حتى أثناء تنفّسه في كنفها. السلطة، هنا، بما هي قدرة مفروضة ساعية إلى احتلال الفضاء المدنيّ العام وفرض آلياتها التنظيمية والتفسيرية الواحدة، بالقوة والقسر، على مجمل تقسيمات الاجتماع. في هذا الحيز، يسعى العنف كمقابل للسلطة أو كآكل لمساحاتها، نحو تدمير لا واع وطبيعي لطبقات الجهاز التفسيريّ والتنظيميّ القديم. وهو العنف المتوثّب على "الايديولوجيا" في صيَغها الاكثر سطحية وتلقائية. إنه، في العمق ومن خارج سطوح الايديولوجيا او في تلبسه لبوس الايديولوجيا (ايديولوجيا دينية في الحالة السورية..)، يصير عنفا أصيلا وعاريا وبدائيّا وجافا بقدر حاجته العشوائية إلى جذب الواقع الارضيّ إلى دوائره التدميرية المتفلتة التي لم تعد تنتظم في جداول استثمارات هذه السلطة.
عنف - ثورة
ظلّ مصطلح "الثورة" مصطلحا إشكاليّا في الحالة السورية. وفي تفصيلاته حاجة داهمة للتعامل مع "الثورة" كمفهوم ذي جذور تتصل جوهريا بأشكال تبلور هذا المفهوم في التنظيرات التي ساوقت وتلت الثورات الكبرى في العصر الحديث. على أن ما يهمنا القول فيه، هنا في هذا الحيز، وتحديدا في موضوعة ارتباط العنف الراهن بالمتغيّر السوري هو محاولة الإجابة عن سؤال حول ماهيّة السمات التي قد تمكن من وصف العنف، أيّ عنف، بكونه إما عنفا "ثوريا"، أم إن محرّك الاجتماع أو الانتفاضة، أو الهيجان الاهليّ العام إذ يتدرّج ويتعقد ويتشعب، ليس سوى تمظهر حاد للعنف باعتباره مكبوتا جماعيا في بيئة اجتماعية طوائفية معينة ولا يمتّ إلى تجذيرات مفاهيم ثورات العصر الحديث بصلة.
من نافل القول، أن المسألة الاجتماعية - المعيشية، وكما فصلت في دراسات متعددة، هي مسألة مركزية في مسار ومآل الحدث السوري. تتبدى أحيانا ظاهرة عل سطح الحدث أو تكون كامنة في مستوى غير ظاهر من مستويات الحدث. على أن مفهوم الثورة كتصنيف، من هذه الناحية، يتصل إلى حدّ بعيد في العصر الحديث، عصر الدولة الوطنية، بوعي المسألة الاجتماعية - الحقوقية عند المواطنين لجهة اجتماعهم في كيان سياسي واحد. نتكلّم عن تثوير الشرط الاجتماعيّ في سبيل تأسيس إمكانات بالغة الجدة يتاح عبرها وبالتدريح نسج شروط إجتماعية – حقوقية مغايرة تغذي بالنتيجة مفهوم الحرية السياسية في الكيان السياسي- الدولة. بهذا المعنى، يظل العنف وسيلة ثورية طالما هو واقع، في العمق، في المستويات التي تلجم تفلته نحو مربعات تفتيت الشكل الدولتي الجامع، إذ يكون ثبات هذا الشكل، في الغالب، ككيان عقدي جامع للمكوّنات شرطا لاستثماره كوسيلة في التغيير التأسيسيّ. في المقابل، يصير العنف في تفلّته خارج الشرط أو الدائرة عنفا ارتكاسيا (دينيا في الحالة السورية) بمعنى أنه بتضخمه وفداحته المشتتّة، يغدو قابلا للانقلاب حتى على أيّ منجز ولو ضئيل من منجزات المواطنة القديمة أو من منجزات الانتفاضة الاجتماعية.
....
في الخلاصة، يتحرك العنفُ/السلطة/النظام القائم بشراسة. إنّه يتغذّى على الخواء القيميّ إذ تؤول إليه هياكل السلطة المتهالكة بفعل جمودها تارة وبفعل تفلته تارة أخرى، وبما هي سلطة (شعاراتية) متماهيةٌ مع شكل الدولة (الادارية) السورية الراهنة. زد على ذلك كلّه، وهو الامر بالغ الاهمية، أنه، في العمق، يبقى عنفا عاكسا للطاقة التفجيرية المحقونة والمتراكمة في مسارب الفضاء الاجتماعيّ - السياسيّ المختلّ حول السلطة وبها.