المشهد الأول
أنهت ربى (اسم مستعار) فنجان قهوتها سريعاً قبل الدخول إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت حيث تعمل ممرضة منذ 8 سنوات. الطابق هادئ جداً هذا الصباح كأنّ هناك اتفاقاً ضمنياً بألّا يكلّم أحدٌ أحداً. الرسالة التي وصلت ربى في اليوم السابق طلبت من الموظفين الوصول باكراً إلى دواماتهم، وها هي تنتظر خبراً يقيناً يُفهمها ما يحدث بالضبط. دخلت إلى بريدها الإلكتروني لعلها تجد رسالة أخرى تفسّر، لكن الانترنت غير شغال على جهازها. ضغطت زر "ريفرش". لا شيء. نادت زميلها سائلة عن حال الانترنت لديه، فقال أنه لا يستطيع الاتصال كذلك الأمر. أمرٌ مريب، لكنّ ربى أبعدت عن رأسها أشباح الأفكار. كسر الهدوء دخول زميلٍ ثالث يمشي في الرواق ويصرخ غاضباً "بدّن يقلّعونا! صار لي 15 سنة بهالمستشفى! كيف يتكلمون معي بهذا الشكل؟" ... لاحقاً في ذلك اليوم، وجدت ربى نفسها في مرآب سيارات قرب المستشفى، مع ورقة كانت قد استلمتها من الإدارة تتبلغ فيها بصرفها من العمل (إلى جانب ما يزيد عن 600 من زملائها [1] ). أخذت زاوية بعيدة عن ضجة الإعلام وغضب الزملاء وسمحت لنفسها بالبكاء. كان ذلك في 17 تموز/ يوليو 2020.
المشهد الثاني
كان يوماً عادياً في قسم رعاية الأطفال حديثي الولادة، حتى سمعت الممرضة باميلا زينون وزملاؤها صوتاً مدوياً. عرف دماغها تلقائياً أن هذا الدويّ لا يمكن إلا أن يكون انفجاراً. بعد برهة، شعرت بالأرضِ تتزلزل من تحتها، وبرياح تقبع كلّ شيءٍ من مكانه، المكاتب والزجاج والنوافذ والسقف... وجدت نفسها فجأة وقد رُميت إلى غرفة أخرى بفعلِ العَصف. نظرت حولها لتجد زميلتيها وقد غطّتهما دماءهما. حاولت باميلا الخروج من بين الركام الذي أحاطها من كل جانب، ولمّا تمكّنت من الانسحاب إلى غرفة حاضنات الأطفال، سارعت لمحاولة انتشالهم بعناية، بإزالة الحديد والركام الذي أحاط بحاضناتهم الزجاجية. نجحت في انتشال ثلاثة منهم سالمين، فيما زميلتها استطاعت - رغم إصاباتها انتشال طفل رضيع رابع. حملت باميلا الأطفال الثلاثة، ومشت مع زميلاتها في المستشفى التي لم تعد نفسها. وفيما هنّ سوياً يحاولن إيجاد مخرج، كان رأس باميلا مهجوساً بفكرة واحدة: بأنّ عليها أن تغطّي عيون الأطفال الثلاثة الذين بين ذراعيها "حتّى ما يشوفوا" [2]، لكي لا يبقى في ذاكرتهم الصغيرة التي ستكبر أيّ أثر من ذكرى ما حدث. كان ذلك يوم 4 آب/ أغسطس 2020 [3].
المشهد الثالث
ما كادت الدكتورة هبة تخلع بدلتها الواقية من الفيروسات بعد 12 ساعة متواصلة من العمل، حتى جاء الأمر الطارئ. "البسي بدلتك، علينا تفقد مريض يخسر الأوكسيجين بسرعة". باستعجال لبست الطبقة تلو الطبقة والقناع فوق القناع وهرولت نحو غرفة المريض. حاولت رفقة زميلها إنعاش المريض الأربعيني لخمسة عشر دقيقة، أُعلنت بعدها الوفاة. قالت لنفسها أن عليها العودة إلى البيت الآن، إلى ابنتها وابنها، بعد أن شاهدت أباً لأربعةٍ يفارق الحياة. لم تبكِ هذه المرة لأنها شعرت بالتعب يخدّر كلَّ شعور. عليها الآن أن تخلع البدلة الواقية مجدداً، وهذا وحده بدا مهمة شاقة عندما تقوم بها يدَين مرتجفتَين. كان ذلك بعد بداية السنة الجديدة 2021 بقليل.
***
عند تقاطع المشاهد الثلاثة تلك، يقع المشهد الأشمل الذي يشكّل مجموعة الظروف والأحوال النفسية والعاطفية والصحية والاقتصادية التي يعيشها آلاف العاملات والعاملون في القطاع الصحي في لبنان هذه الأيام. وهذا مثله مثل كل القطاعات الصحية في العالم، يتصدى لجائحة فيروس كوفيد-19 ويتحمل ضغطها، ولكنه، كما لا أحد في العالم، اضطر بالموازاة التعامل مع انفجارٍ هائل في عاصمة البلاد، طال دماره عدداً من المشافي وخلف مئات الضحايا والمكلومين، وهو يرزح إلى ذلك تحت عبءِ انهيارٍ اقتصادي غير مسبوق، ألقى بالعمال والجسم الطبي والصحي في المجهول.
يهتمّ هذا النص بالتحديد بالنساء العاملات في القطاع الصحي والمهن الرديفة له في لبنان، وبالأخص بالأعباء النفسية والعاطفية التي واجهنها في السنتين الأخيرتين. من جهة، لكون انتشار وباء كورونا أسهم في عرقلة مسار تقدمهنّ في مجال عملهن، واضعاً عليهنّ مزيداً من الأعباء التي تُضاف على الصعوبات المعتادة التي قد تواجهنها لجهة تكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق والتواجد في بيئات عمل آمنة لهن. ومن جهةٍ أخرى، لكونهنّ مستمرات بالعمل عند "تقاطع الأزمات" في لبنان بالتحديد، حيث يصحّ السؤال عن حجم الأعباء التي يتحمّلنها كنساء في هذا القطاع، إذ وجدن أنفسهن أمام ضغوط متعددة المستويات، كلها لها تداعياتها الجدّية على صحتهن الجسدية والنفسية والعاطفية.
***
تشكّل القطاعات الصحية والاجتماعية أكبر المجالات المهنية للنساء عالمياً، حيث تُظهر الأرقام أن أكثر من 70 في المئة من العاملين في هذه القطاعات حول العالم هنّ من النساء. في الدول العربية، لا تصل النسبة إلى هذا الرقم، إلّا أنّها تبقى ضعف نسبة النساء العاملات في سواها من القطاعات، وتصل لـ38.3 في المئة من مجمل العاملين والعاملات فيه، حسب إحصاءات منظمة العمل الدولية (ILO) [4]. بل أن الأرقام في عدد من الدول العربية لافتة من حيث مشاركة النساء في هذا القطاع بالتحديد، بما يتجاوز سائر مجالات العمل، إذ جاء في تقديرات منظمة العمل الدولية النموذجية لعام 2019 أن نسبة النساء العاملات في القطاع الصحي في مصر جاوزت 60 في المئة من مجمل العاملين، كما أن النسبة تجاوز النصف من العاملين في كل من قطر (51 في المئة ) والبحرين (55 في المئة) والكويت (59 في المئة) والسودان والمغرب (58 في المئة) [5]. أما في لبنان، فتشكّل نسبة الطبيبات النساء المسجلات في نقابة الطب نحو 30 في المئة من مجمل الأطباء [6]، وفي القطاع التمريضي، فمن بين 17 ألف منتسب ومنتسبة لنقابة الممرضات والممرضين في لبنان [7]، تصل نسبة النساء الممرضات إلى 80 في المئة، وهي نسبة مرتفعة جداً. 50 في المئة من مجمل الممرضين والممرضات تتراوح أعمارهم بين 35 و40 عاماً، فيما تعمل غالبيتهم العظمى - بنسبة 85 في المئة - في القطاع الاستشفائي [8].
القطاع الصحي في لبنان، مثله مثل كل القطاعات الصحية في العالم، يتصدى لجائحة كوفيد-19 ويتحمل ضغطها. ولكنه، كما لا أحد في العالم، اضطر بالموازاة الى التعامل مع انفجارٍ هائل في عاصمة البلاد، طال دماره عدداً من المشافي وخلّف مئات الضحايا والمكلومين، وهو يرزح إلى ذلك تحت عبءِ انهيارٍ اقتصادي غير مسبوق، ألقى بالعمال والجسم الطبي والصحي في المجهول.
تبين هذه الأرقام بوضوح، في لبنان وسواه من الدول العربية، الصفة الوازِنة التي تمثّلها النساء العاملات في القطاع الصحي والتمريضي، وتؤكّد تواجدهنّ العمَلي في الخطوط الأمامية بمواجهة جائحة كورونا ومصاعبها. هذا بدون احتساب الأدوار الرعائية الأخرى الكثيرة التي تقوم بها النساء عادة في مجالات مرتبطة ورديفة بهذه القطاعات، كعاملات النظافة والتعقيم في المشافي (وهنّ أيضاً على تماسٍ مباشر مع المرضى وضغوطات العمل في المستشفى في ظلّ الجائحة) والعاملات في الجمعيات الأهلية والمؤسسات غير الحكومية المعنية بالنساء وحمايتهنّ من العنف الأسري، (واللاتي عملن بشكلٍ مضاعف أثناء فترات الحجر المنزلي إذ سُجّلت حالات عنف أسري متزايدة في البيئات المنزلية المعزولة بفعل الإغلاق العام، كانت النساء أبرز ضحاياها [9]. ومما لا ينبغي نسيانه في هذا السياق أنّ هؤلاء النساء مرتبطات بسياقات أخرى منزلية وأسرية إلى جانب حياتهن المهنية، تشكل مجالاً خاصاً ممتداً يؤثّر ويتأثر بعملهنّ ذي الطبيعة الضاغطة أثناء الجائحة.
للطاقة على التحمّل حدود
تقول الدكتورة صفا ياسين، التي أنهت مؤخّراً اختصاصها في الطب الدّاخلي، وكانت قد عملت منذ بداية الأزمة في الفريق الطبي بقسم كورونا في مستشفيين اثنين في بيروت، أنها قررت أن تأخذ سنة فراغ (gap year) بعيدةً عن العمل في المستشفى. تدرك ياسين، الطبيبة العشرينية، خطورة التوقف طوعياً لسنة في هذه المهنة، وتعبر عن قلقٍ على مستقبلها، لكنها حسمت قرارها واختارت أن تسعى إلى التقديم على برنامج ماجستير في علم الأوبئة قبل متابعة تخصّص فرعي في مجالها. "أنا أكدُّ طوال الوقت، لا أتواجد في البيت إلا قليلاً، لا أرى أهلي بشكل طبيعي.
أصيب أبي السنة الماضية بحادث استدعى اجراء عمليّة ليده، لم أستطع أن أكون بجانبه كما يلزم لتواجده في القرية وعدم قدرتي على ايجاد من ينوب عنّي في المستشفى في هذه الفترة. الضّغوطات كانت كبيرة عليّ وعلى زملائي مع أزمة كورونا والأزمات الاقتصاديّة والأمنيّة التي يواجهها البلد. وعلى الرّغم من حبّي الكبير لمهنتي، أسال نفسي دائماً هل يستحق الأمر كل هذا؟ أن أتخلّى عن الكثير وأضحّي برؤية من أحبّهم والتواجد معهم مقابل أن تحترق أعصابي بهذه الطريقة المدمّرة ومن دون أن أرى أفقاً واضحاً لمستقبلي في نهاية كل هذه السنين؟ لذلك كلّه قرّرت أن أبتعد لفترة عن عمل المستشفى لآخذ قسطاً من الراحة قبل أن أكمل مسيرتي". تقول ياسين.
تشكّل القطاعات الصحية والاجتماعية أكبر المجالات المهنية للنساء عالمياً، حيث تُظهر الأرقام أن أكثر من 70 في المئة من العاملين في هذه القطاعات حول العالم هنّ من النساء. في الدول العربية، لا تصل النسبة إلى هذا الرقم، إلّا أنّها تبقى ضعف نسبة النساء العاملات في سواها من القطاعات
اضمحلّت الأجور في لبنان إلى مستويات غير مسبوقة نتيجة الانهيار المتدحرج لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، بعدما كان المصرف المركزي قد اعتمد سياسة تثبيت سعر الصرف ب1500 ليرة مقابل الدولار الواحد لسنوات. بدأ الأمر بالانفلات منذ أواخر عام 2019، ووصل السعر في أسوأ أيامه – حتى الآن - إلى نحو 25 ألف ليرة لبنانية مقابل الدولار الواحد خلال شهر تموز/ يوليو 2021. هذا يعني أن الأجور بالليرة اللبنانية التي كانت تساوي ألف دولار أميركي على سبيل المثال، باتت في أحسن الأحوال تساوي أقل من مئة دولار [10]. بالتوازي مع ذلك، ترتفع الأسعار في الأسواق اللبنانية إلى أضعاف ما كانته، وتُبقي المصارف على أموال المودعين بالدولار محجوزة لديها وتضع قيوداً مستحيلة على التحويلات البنكية، ما جعل اللبنانيين في موقع الرهائن، أمام ما وُصف بـ"أكبر أزمة اقتصادية في القرن".
تلحظ الدكتورة ياسين أن معظم الفريق الطبي العامل في قسم كورونا كان مكوناً من طبيبات مقيمات (resident doctors) نساء، وتذكر أنها عندما انتقلت إلى المستشفى الثاني الذي عملت به، كان الفريق المكون من ثمانية أشخاص بأكمله من النساء، وهنّ مَن كنّ على اتصال مباشر ودراية كاملة بأوضاع مرضى كورونا. "كنا جميعنا نتأثر عاطفياً بالحالات التي نتعامل معها بشكل خاص (...) لا يسعني القول إلّا أنها كانت تجربة مليئة بالبكاء. أن ترى شخصاً أمامك يختنق ولا أحد من أهله بقربه، أمرٌ صعب جداً التعود عليه. ربما يستطيع بعض الأطباء التجاوز عن بعض المشاهد ودفعها من رؤوسهم، لا أعلم. لكنني لم أستطع. أنا بحاجة لهذا الفراغ الآن لكي أنسى هذا الجو قليلاً". تسترجع ياسين حادثة وفاة طبيبة كانت صديقتها، جراء إصابتها بفيروس كورونا، كحادثة مفصلية في مسيرتها بالعمل في القسم، أنهكتها نفسياً بشكل كبير.
"كانت الطبيبة فردوس صفوان [11] مخلصة في عملها، تعمل كطبيبة مقيمة في العلوم المخبريّة في مستشفى في البقاع، بينما أنا كنت أعمل في بيروت. بعد وفاتها تأزمت حالتي النفسية كثيراً (...) أظنّ أننا في العمل اليومي مع الفيروس، أحياناً ندخل في حالة إنكار تام. قد أبدأ بالاعتقاد أنه لن يصيبني الفيروس بحالة خطيرة وأتابع عملي متجاهِلةً إياه. جاء موت فردوس ليذكرني بأن هذا ممكن. من الممكن أن أخسر شخصاً عزيزاً أعرفهُ مثلها، أن أصاب أنا، أن يصاب أحد أفراد عائلتي - لا سمح الله - وتتدهور حالته الصحيّة. كان هذا السيناريو مرعباً بجدّ بالنسبة لي". تتكلم ياسين بوضوح عن حالة إجهاد تعرف أنها لن تستطيع الاستمرار بتجاهلها طويلاً، مؤكدةً أنها بعد انفجار "الرابع من آب" (2020) وبعد تجربتها مع كورونا، باتت تشعر لأول مرّة بأنها ضعيفة. "تخيلي أن أمامك ناس يموتون وأنتِ عاجزة عن القيام بأي شيء لإنقاذهم..."، تختم.
مستويات القلق اليومي
تتشعّب مستويات القلق المُرافِقة للعمل اليومي في بيئة الوباء المباشرة، فمن جهتها، تعبّر الدكتورة ولاء شريف، التي عملت أيضاً في قسم كورونا في إحدى مستشفيات العاصمة، عن توتر من نوع آخر رافق عملها، متعلّق بكونها زوجة وأماً لطفلين، فرافقتها فكرة إمكانية أن تلتقط فيروس كوفيد-19 وتحمله معها إلى داخل البيت، إلى أطفالها وزوجها، لذلك عمدت إلى الالتزام بأقصى درجات الحيطة، لكنها على الرغم من هذا لم تستطع تفادي الإصابة في نهاية المطاف.
تبين الأرقام في لبنان وسواه من الدول العربية، الصفة الوازِنة للنساء العاملات في القطاع الصحي والتمريضي، وتؤكّد تواجدهنّ العمَلي في الخطوط الأمامية. هذا بدون احتساب الأدوار الرعائية الأخرى الكثيرة التي تقوم بها النساء عادة في مجالات مرتبطة بهذه القطاعات، كعاملات النظافة والتعقيم في المشافي، وهنّ أيضاً على تماسٍ مباشر مع المرضى وضغوطات العمل في المستشفى في ظلّ الجائحة.
"عندما أصبتُ وزوجي وأولادي بفيروس كوفيد-19، جمدت (خفت)، بالذات لأن كورونا فيروس لئيم وأحياناً غير متوقع، ومن موقع عملي في المستشفى، فأنا أعلم أنه قادر على أن يؤدي لتدهور صحة إنسان كان سليماً تماماً، وأعلم أن لا قاعدة تحكم من سينجو ومن سيعاني". عانت ابنة شريف من حرارة مرتفعة لخمسة أيام متواصلة، ما عَنى للأم والطبيبة خمسة أيام من القلق المتواصل، قبل أن تبدأ الابنة بالتماثل للشفاء. هذا الخوف من نقل الجرثومة من بيئة العمل، حيث تحيط بالعاملين من كل حدب وصوب، إلى بيئة البيت الذي مثّل أثناء انتشار الحائجة الوِحدة المكانية الأكثر أماناً من أي مكان آخر (مع شعارات وحملات حملت عنوان "خلّيك بالبيت" وغيرها من المعاني المشابهة) هو خوف أساسي يتشاركه العاملون في المستشفى.
محنة لبنان
03-09-2020
توافق الطبيبة صفا ياسين زميلتها في ذلك، وهي التي تشارك المنزل مع والديها واخوتها، تقول أنها كانت تطلب بعصبية منهم ألّا يقتربوا منها وألّا يلمسوا أيّاً من أغراضها. "أحياناً أكون مشحونة جداً فأصل إلى البيت وأبكي. يكون خلقي ضيقاً، فإذا كلمني أحد أفراد عائلتي من الممكن أن أنفجر به"، تقول ياسين، "كنت أشعر أنني أنقل لهم بعض هذا الشحن والتوتر الذي أحمله معي من العمل. أما هم فتحملوني كثيراً وكانوا بغاية التفهم لحساسيتي وعصبيتي لادراكهم لمدى الضغط الذي كنت أعيش تحته". ومن جهتها، تصف الطبيبة ولاء شريف كذلك أهمية الدعم الذي تلقّته من زوجها وأهلها: "لم يقف أحد في طريقي عندما قررت أن أنضمّ لفريق قسم كورونا في المستشفى، بل أنهم كانوا داعمين للغاية، وحتى أنني لمست مِن محيطي الامتنان على عملي". هذا الجو شجّع شريف على أخذ المهمة على عاتقها، معتبِرةً أنّ قرارها كان منسجماً مع قناعاتها من جهة، ومن جهة أخرى متناسباً مع طبيعة المهنة الإنسانية التي تعمل بها والتي تعرّض بحكم طبيعتها أي عامل فيها إلى جراثيم ومصاعب متعددة. بالنسبة لها، كانت تعلم أنّ مشوار مجابهة كورونا سيكون شاقاً لكنها وجدته "أصعب بكثير" مما كانت تتوقع عندما بدأت تجربتها معه.
تبدّل في نمط العمل وبيئته
تعمل زينب سلام في مستشفى خاص بضواحي بيروت كعاملة تنظيفات منذ 19 عاماً، شهدت فيها مختلف ظروف العمل وعايشت واقع المستشفى ومرضاه وأطبائه، لكنها تؤكد أن لا شيء مما شهدته يُقارَن بفترة جائحة كورونا وبالأوضاع الاقتصادية الحالية في البلاد. كانت زينب سلام أوّل عاملة في قسم النظافة (المؤلّف بكليّته من النساء) تُصاب بفيروس كورونا، ولذلك فإنها عندما تعافت من الفيروس طلبت منها المستشفى أن تكون أول عاملة نظافة في القسم المخصص لكورونا الذي افتتحه المستشفى حديثاً في أيلول/سبتمبر 2020. كان جوابها الأول "لا! لم نصدّق كيف تعافينا من كورونا في البيت حتى أعود إليه!"، لكنّ مسؤوليها قالوا أنها الوحيدة التي أصيبت من القسم، وبالتالي هي أول من كوّن نوعاً من مناعة تتيح لها دون زملائها التصدي لهذه المهمة، فقبلت سلام، "لم أرِد أن أكون أنانيّة في وقت مثل ذلك. لقد كان وباءً كبيراً وكان على الجميع أن يعمل كيَدٍ واحدة" تقول سلام. في البدءِ دخلَ مريضان فقط إلى القسم، فشعرَت أنّ الموضوع "مقدورٌ عليه"، ثمّ بدأت الأعداد بالازدياد وبدأ المشوار الصعب، وسط خوفٍ مترقّب.
تلحظ الدكتورة ياسين أن معظم الفريق الطبي العامل في قسم كورونا كان مكوناً من طبيبات مقيمات resident doctors، نساء، وتذكر أنها عندما انتقلت إلى المستشفى الثاني الذي عملت به، كان الفريق المكون من ثمانية أشخاص بأكمله من النساء، وهنّ مَن كنّ على اتصال مباشر ودراية كاملة بأوضاع مرضى كورونا.
مع أن أغلب الطبيبات تتم "معايرتهنّ" بفائض إظهار العاطفة في بيئة العمل، فإن هذا العاطفة نفسها أحياناً ما يتمّ استغلالها ضدهنّ في تبرير تحميلهن فوق طاقاتهن. "انظروا إلى وضع البلد"، "وَلَو! (في معنى العِتاب) ألا تملكين حساً وطنياً وإنسانياً؟"... وغيرها من العبارات التي تسمعها بعض الطبيبات من إداريين يعرفون كيف "يمسكون باليد التي تؤلم".
تغيّر نمط عمل زينب بشكل كبير، فكان هناك إجراءات جديدة عليها تعلّمها، من التعقيم بشكل صحيح وكامل، إلى كيفية اللباس. "اللباس بالأخص كان صعباً جداً علينا. يمكنك تخيل كم هو مرهق أن نكون بكامل اللباس الواقي (PPE)، الذي يُلبس فيه كل شيء مضاعَفاً طبقة فوق الأخرى، فيما نمسح الأرض وننظف ونعقم. وقد كان ذلك في الصيف فكنا نشعر بحرّ شديد". لكنّ هذا لم يكن أصعب ما في التجربة، فهناك كذلك الحاجة إلى التعقيم المستمر في أي مكان يتواجد به مصاب، مما يعني أنها باتت ترافق المرضى إلى غرف صور الأشعة والفحوصات لو احتاجوها لكي تتابع التعقيم، ويعني كذلك أنها صارت - لأول مرّة منذ 19 عاماً عملت فيها في المستشفى - مجبرةً على النزول إلى برادات الموتى بحال توفي أحد المصابين واحتاجوا إلى نقله. كل هذه التغييرات في متطلبات وشروط العمل جاءت بشكل مفاجئ ومرة واحدة، تماشياً مع ظروف المرحلة، واضطرت سلام إلى التعامل مع تبعاتها الجسدية والنفسية بالتعود والصبر. ما ساعدها على التأقلم كان إحساساً عاماً لديها، شاركها به آخرون، بأن فريق العمل في قسم كورونا بات يشكل "عائلة" متعاضدة: "في تلك الفترة، لم نشعر بفرق بين عاملة نظافة وطبيب أو طبيبة أو ممرضة، بل كنا نشعر أننا جميعنا نمر بأزمة واحدة وفي قسم واحد وعلينا التكاتف، فكلنا مسؤولون بالنهاية".
تحكي زينب سلام عن أوقات عَمّها التعب والحزن، فشهر كانون الأول/ ديسمبر 2020 مثلاً كان "شهراً للبكاء"، إذ توفي عدة مرضى مصابين بفيروس كوفيد-19، كما كانت أعداد الإصابات كثيرة في البلاد، وبالتالي في المستشفى. تتذكر: "ثمة مممرضة شابة كانت حبلى، وضعت مولودها وتوفيت جراء إصابتها بكورونا. هذه الفتاة "أهلكتنا" حزناً، فقد كنا نعرفها لمدة، وكانت صغيرة السن (...) نبكي طبعاً ونتأثر، لا يمكن للإنسان أن يفصل عاطفته ويقولُ أنجزُ عملي وأذهب للبيت..." وتتابع: "في الوقت نفسه هناك فرح كبير يعمّ حين يخرج أحد المرضى من القسم إلى بيته. كنا نقف مصفّقين حولهم ونحن نودعهم، خاصة أولئك الذين كانوا يصِلون إلى حالات حرجة، ثمّ يتعافون بعدها". وهذا التورط العاطفي الذي تصفه سلام تقرّ به كذلك الممرضات والطبيبات اللاتي استطُلِعت آراءهنّ بلا استثناء.
"مطالَبات بالتضحية"...
إذا كانت أغلب الطبيبات تتم "معايرتهنّ" بفائض إظهار العاطفة في بيئة العمل، فإن هذا العاطفة نفسها أحياناً ما يتمّ استغلالها ضدهنّ في تبرير تحميلهن فوق طاقاتهن. "انظروا إلى وضع البلد"، "وَلَو! (في معنى العِتاب) ألا تملكين حساً وطنياً وإنسانياً؟"... وغيرها من العبارات التي تسمعها بعض الطبيبات من إداريين يعرفون كيف "يمسكون باليد التي تؤلم". تصف الدكتورة صفا ياسين ما كان يحصل في أثناء التصدي لموجات كورونا في المستشفيات بأنه يصل إلى مشابهةِ "الاستعباد" في العمل من حيث عدد الساعات وكمية العمل وضغطه مقابل قلة عدد الأفراد العاملين في القسم وحمولة العمل الهائلة على كلّ منهم. "بحكم كوننا أطبّاء متمرّنين مُرسلين من قبل الجامعة الى المستشفيات المتعاقدة معها، تقوم كل مستشفى في نهاية فترة التمرين بارسال تقييم الأطباء الذين مرّوا بها الى الجامعة. وعادةً نكون مُجبرين خلال هذه الفترة على الالتزام بما تُمليه علينا الادارة من مهمّات، حتّى لو كانت في بعض الأوقات مُجحفة بحقّنا، وذلك خوفُا من الحصول على تقييم "تدريب غير صالح (stage invalidé)"، تقول ياسين. كذلك الأمر، تضاعفت ساعات عمل الدكتورة ولاء شريف، وازداد عدد الليالي التي تقضيها في المستشفى من 1 من كل 4 ليالي إلى 1 من 3 أو 1 من 2.5، لكي تتمكن وزملائها من تغطية كل الطوابق، إذ أنّ عمل المستشفى بأكمله بات متمحوراً حول كورونا، كما أنّ لا عطلة نصف سنوية أو سنوية في فترة الأزمة، فيما كان الأطباء يستحقون 15 يوم عطلة كلّ ستة أشهر قبل كورونا.
تعبّر الطبيبات عن استعداد لخوض الدوامات الشاقة لو أن بيئة العمل تساعد على شعورهنّ بالاطمئنان دائماً. حسب تجربة شريف، "في أوّل مستشفى عملتُ بها وجدتُ شكراً ودعماً ومحبة، مع العلم أننا نقوم بعملنا وواجبنا بدون طلب أي تقدير من الآخرين. في المستشفى الثاني [12]، كان هناك بعض المشاكل، ولم أشعر أنهم كانوا على قدر العطاء الذي قدمناه لهم. فأنا وزميلاتي أول من حضَر لقسم كورونا الجديد في هذا المستشفى، وبالتالي فالخبرة التي صنعوها من تجربة كورونا كانت خبرتنا نحن، إلا أنّ تعاملهم الإداري لم يكن جيداً معنا. في الآخر غضضنا نظرنا عن ذلك وأكملنا عمل واجبنا كما يجب"، تقول.
ما كان يحصل أثناء التصدي لموجات كورونا في المستشفيات يصل إلى مشابهةِ "الاستعباد" في العمل لجهة عدد الساعات وكمية العمل وضغطه مقابل قلة عدد الأفراد العاملين في القسم وحمولة العمل الهائلة على كلّ منهم. "بحكم كوننا أطبّاء متمرّنين مُرسَلين من قبل الجامعة الى المستشفيات، تقوم كل مستشفى في نهاية فترة التمرين بارسال تقييم الأطباء الذين مرّوا بها الى الجامعة".
هناك بعض الأطباء الأعلى درجة وظيفياً وإدارياً يتعاملون بمنطق أن لا علاقة لهم بأمر كورونا. وهذا يصيب بالضيق الشديد، وكأنّ القسم المكوّن من طبيبات أمراض داخلية مقيمات وشابات وأدنى وظيفياً وأقلّ أجراً من الأطباء خارج قسمهن، يعني تلقائياً أن لا مشكلة في تعرّضهنّ لخطر الإصابة على الدوام - دون غيرهنّ - فيما هناك أطباء منسحبون من هذه المواجهة.
بالنسبة لياسين، هناك بعض الأطباء الأعلى درجة وظيفياً وإدارياً يتعاملون بمنطق أن لا علاقة لهم بأمر كورونا. "حتى لو احتاج المرضى لتخصصات أخرى، مثل فحوصات معينة من اختصاص أحدهم، يشعرونك بأنه ليس عملهم طالما أن المريض مصاب بكورونا" تقول، مستعيدةً حواراً دار مع أحد الأطباء الذي فاجأها بقوله "بسببكن أصبت بالفيروس!" لمجرد أنهن طلبوا منه الذهاب إلى مريض كورونا من أجل أمر معيّن من تخصصه. تقول ياسين أنّ هذا النوع من التعامل كان يصيبها بالضيق الشديد، وكأنّ قسمها المكوّن من طبيبات أمراض داخلية مقيمات وشابات وأدنى وظيفياً وأقلّ أجراً من الأطباء خارج قسمهن يعني تلقائياً أن لا مشكلة في تعرّضهنّ لخطر الإصابة على الدوام – دون غيرهنّ - فيما هناك أطباء منسحبون من هذه المواجهة. ومن جهة أخرى، فهذا النوع من الانسحاب يؤثر حتماً على المرضى. "المريض فعلاً مسؤوليتي، ولكن بسبب تأخر البعض عن المساعدة فهذا يعيق قدرتي أنا على مساعدته وتقديم الرعاية التي يجب أن يحصل عليها. وهو أمر محبط للهمة والنفسيات عندما يحصل"، تقول الطبيبة.
خسارات كبيرة.. ومتزايدة
كما هو متوقّع في الأزمات وأمام صعوبة الاستمرار بأجور خسرت نحو 95 في المئة من قيمتها نتيجة تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية وانعدام تصحيح الأجور، كانت زيادة الهجرة من لبنان لِمن استطاع إليها سبيلاً. حسب نقيب الأطباء في لبنان الدكتور شرف أبو شرف، فإن أكثر من ألفِ طبيب وطبيبة غادروا لبنان منذ عام 2019 حتي أوائل عام 2021[13]. ومع صعوبة رؤية أي أفق لحلٍّ قريب في البلاد، فإن هؤلاء قد يكون قد خسرهم القطاع الصحي اللبناني إلى غير رجعة، كما أن النزف متزايد باطّراد كل يوم. أما رئيسة نقابة الممرضات والممرضين في لبنان الدكتورة ريما ساسين قازان فتقول أن النقابة خسرت نحو 1600 ممرض وممرضة بعد انفجار الرابع من آب والتداعي الاقتصادي، وهؤلاء من أصحاب الخبرات والكفاءات الذين هاجروا لتأمين مستقبل أفضل لهم ولعائلاتهم.
في القطاع التمريضي الذي تشغله النساء بنسبة تزيد عن 80 في المئة، أصيب نحو 200 ممرضة وممرض بفيروس كورونا أثناء تأديتهم لعملهم، حسب الأرقام التي شاركتها ساسين [14]. تقول، "وبالموازاة مع ذلك، فالممرضات والممرضون أحياناً يتعرضون لإجحاف في حقوقهم، حيث طالتهم حسومات الرواتب، مع العلم أن النقيبة السابقة الدكتورة ميرنا أبي عبد الله ضومط، والنقابة الحالية، سعت ألّا يطال الجسم التمريضي هذا الغبن وأن تكون حقوقهم محفوظة"، حسب ساسين [15].
تؤكد النقيبة على الدور الأساسي الذي لعبته الممرضات كعاملات في الخطوط الأمامية أثناء الجائحة، لكنها تقرّ بأنّ التحدي الأكبر الآن يكمن في استبقاء الكفاءات على الرغم من الوضع الصعب. ففي حين أنها تعتبر أن مسألة الهجرة من الجسم التمريضي والطبي إلى خارج لبنان ليست حديثة العهد أبداً، إلا أنها تقارن بين الأعداد السابقة للأزمة والتالية لها، بحيث تلحظ أنّ أعداد المهاجرين والساعين إلى الهجرة من بين الممرضات والممرضين "قد تكون قد ازدادت إلى عَشرة أضعاف ما كانت عليه قبلاً".
لبنان: طلاب طب الجامعة "المتروكة" لا يتركون مواجهة "كورونا"
28-02-2020
ما معنى أن "لا دواء"؟!
02-09-2021
وحول إذا ما كان ثمّة دعم صحي ونفسي رافق الجسم التمريضي أثناء هذه المرحلة الصعبة، أجابت ساسين بأن النقابة ساعدت عبر التعاون مع جمعية Embrace [16]، والأخيرة منظمة غير حكومية تعمل من أجل زيادة الوعي بأهمية الصحة النفسية وتقدم الدعم النفسي المباشر. حسب النقيبة "كان هناك عدة لقاءات مفتوحة مع الممرضات والممرضين الشاعرين بعبء نفسي كبير إمّا نتيجة عملهم المرهق أثناء الجائحة أو من جراء تبعات انفجار "الرابع من آب" والوضع الاقتصادي. فُتح المجال ليأتوا ويتحدثوا إلى علماء نفس وأشخاص متخصصين استمعوا لهم ورافقوهم خلال أزمتهم". كما تؤكد ساسين أن المستشفيات كذلك نظّمت عدة لقاءات وورش عمل مع أطباء نفسيين، إلا أنّ الطبيبات المستطلَعة آراءهنّ في هذا المقال أكّدن انعدام الدعم النفسي والعاطفي من الجهات الإدارية والرسمية، ويؤكدن في أكثر من مناسبة أنّ الدعم الوحيد الذي تلقينه كان الدعم المتبادل بين أفراد القسم نفسه والزملاء فيما بينهم في أوقات الشدة.
أكثر من ألفِ طبيب وطبيبة غادروا لبنان منذ عام 2019 حتي أوائل عام 2021، كما أن النزف متزايد باطّراد كل يوم. وهناك نحو 1600 ممرض وممرضة غادروا البلد بعد انفجار "الرابع من آب" والتداعي الاقتصادي، وهؤلاء من أصحاب الخبرات والكفاءات..
"رأيت فعلاً أن النقطة الأهم هي تحسين شروط العمل في المقام الأول لكي يستطيع الممرضون الاستمرار بعطائهم وليعطوا عناية تمريضية ذات جودة"، تقول النقيبة ساسين، راجِعةً إلى الأساسيات التي تضمن استمرار أي مهنة، وذلك يتضمن "مراجعة سلسلة الرتب والرواتب ومراجعة جميع بنود العمل، من حيث عدد ساعات العمل، بدل النقل، التأمين الصحي والعلاوات على أجورهم بحال كانوا يعملون في دوام ليلي أو دوام في أقسام الإنعاش أو الكورونا". تقول النقيبة أنها تخطط لزيارة وزيرَي الصحة والعمل للتباحث في هذه النقاط وطرح موضوع ضرورة الاستبقاء والتشجيع، لكن على الأرض، تبدو أية خطوات مرهونة تماماً بأوضاع البلاد الهشّة للغاية على كلّ المستويات والتي لا تنبئ بتصحيحاتٍ قريبة للأوضاع، إن كان في القطاعات الصحية أو في سواها.
خاتمة
من المؤكد أنّ أعباء الجائحة لم تقع على أكتاف الجميع بالثقل نفسه، ومن الضروري الإشارة إلى التبعات غير المتكافئة والضاغطة بشكل خاص التي تحملها الفئات الهشة (كاللاجئين والمواطنين الأكثر فقراً والنساء المعرضات للعنف وسواهم). كما أن انعدام التساوي في الأعباء في أماكن العمل، وفي القطاع الصحي تحديداً، واضح في واقع النساء العاملات في المجالات الصحية والرديفة لها والخطوط الأمامية التي تحمل تماساً مباشراً مع المرضى وخطر الإصابة، خصوصاً لجهة أن التفاوت الجندري في أضرار الفيروس يلاحقهن خارج العمل وإلى البيت، حيث يُتَوقَّع من النساء في غالب الأحيان متابعة الأولاد في تحصيلهم العلمي على سبيل المثال، إذ باتوا يقضون أوقاتاً أكبر في المنزل نتيجة إقفال المدارس لفترات طويلة. ثمة أمثلة كثيرة عن توقعات/ أدوار جندرية تخصّ بها المجتمعات (عالمياً وعربياً وفي لبنان) النساء، وإذا أضفنا هذه إلى لائحة من يتوقّع منهنّ العمل مع فيروس كورونا بشكل يومي، يصير من الممكن رسم صورة لما يعنيه هذا العبء المجندر المكون من طبقات فوق طبقات من التعب.
أخيراً، ينبغي وضع هذا النقاش في سياقه الخاص الذي لا يشبه سياقات دول المنطقة، أي في سياق الواقع الحالي في لبنان، حيث كل القطاعات الحيوية آيلة فعلياً إلى الاندثار. فالقطاع الصحي يتهالك بسرعة وخطورة غير مسبوقة، ومعه تنفرط بيئة العمل وحقوق العاملين أيّاً كانت درجتهم الوظيفية. غير أنّ أولئك الذين في أسفل السلم الوظيفي يأكلون النصيب الأكبر من الانهيار والغبن. يمكن القول بلا تردد أن فداحة الكارثة الاقتصادية في لبنان – حيث الآن لا وجود فعلياً لأدوية الالتهابات والاوجاع الاعتيادية حتى في الصيدليات، وحيث تنقطع إبر ومواد علاج أساسية من المستشفيات - تتجاوز فداحة أزمة كورونا بأشواط.
[1] يوم 17 تموز/ يوليو 2021، قامت مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت بصرف أكثر من 600 موظف وموظفة بحجة الأزمة الاقتصادية التي تعانيها، كما ويستمر التخوف من موجة تسريح أخرى توصل عدد المصروفين إلى نحو 25 بالمئة من موظفي الجامعة. إلا أن رئيس نقابة موظفي الجامعة الأميركية، جورج جردي، كان قد صرح بأن النقابة وقفت بوجه قرار تسريح 1500 موظف، وأن التحكيم بين الجامعة والموظفين أفضى إلى صرف 650 شخصاً لمرة واحدة بدون "جولات صرف أخرى".
[2] مِن حديث باميلا زينون لبرنامج "صار الوقت" على قناة MTV بتاريخ 7 آب/ أغسطس 2020. وكانت قد انتشرت صورة للمرضة يوم الانفجار في الرابع من آب/ أغسطس حامِلةً الأطفال الثلاثة وهي تحاول الاتصال بالهاتف لطلب المساعدة.
[3] يوم الرابع من آب/ أغسطس 2020، انفجر 552 طناً من مادة نيترات الأمونيوم المخزنة في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، القريب من المناطق السكنية في المدينة. أودى الانفجار الهائل بحياة أكثر من 200 ضحية وجرح أكثر من 7000 شخص، كما طال دمار عصفِه أكثر من نصف العاصمة في ما وصفته بعض وسائل الإعلام بـ"أكبر انفجار غير نووي في التاريخ".
[4] المصدر:ILO WESO database, 2015.
[5] إحصاءات منظمة العمل الدولية لعام 2019، المزيد في هذا الجدول المفصل.
[6] حسب دراسة بعنوان "النساء اللبنانيات في المواقع القياديّة: مسح للتصورات الوطنية"، نشرت عام 2019 عن جمعية Hivos.
[7] أنشأت نقابة الممرضات والممرضين في لبنان عام 2002، والانتساب إليها إجباري، وهي تضمّ حالياً حوالي 17 ألف منتسبة ومنسب.
[8] بحسب آخر إحصاءات نقابة الممرضات والممرضين في لبنان – من مقابلة خاصة مع النقيبة ريما ساسين قازان بتاربخ 29 حزيران/ يونيو 2021.
[9] سجّل الخط الساخن 1745 المخصّص لتلقّي شكاوى العنف الأسري في قوى الأمن الداخلي اللبناني زيادة في التبليغات بنسبة 100 بالمئة في شهر آذار/مارس 2020 أثناء إغلاق البلاد.
[10] للمقارنة، كان الحد الأدنى للأجور في لبنان قبل بدء تدهور الليرة المحلية مباشرةً يساوي 675 ألف ليرة، أي ما يعادل 450 دولاراً قبل تشرين الأول/ أكتوبر 2019. أما في شهر تموز/ يوليو 2021، فقد خسرت الأجور أكثر من 95 بالمئة من قيمتها وصار الحد الأدنى للأجور لا يتجاوز الـ40 دولاراً أميركياً فقط ـ في ظل غياب كامل لمسألة تصحيح الأجور حتى الساعة.
[11] الدكتورة الشابة فردوس صفوان، طبيبة مختبر في مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك. هي أم لطفل، وقد توفيت عن عمر 28 عاماً.
[12] أسماء المستشفيات في النص غير مذكورة نزولاً عند رغبة الطبيبات والعاملات.
[13] حتى شهر آذار/مارس 2021، حسب أرقام النقابة
[14] مقابلة خاصة
[15] انتُخبت ساسين رئيسةً للنقابة في حزيران/ يونيو 2021 (قبل شهر فقط من هذه المقابلة).
[16] تأسست جمعية Embrace عام 2017. هي جمعية غير حكومية ولا تتوخى الربح، وتشرف على الخط الساخن للدعم النفسي والوقاية من الانتحار (على الرقم 1564)،بالشراكة مع البرنامج الوطني للصحة النفسية ووزارة الصحة اللبنانية.