ظهر الحراك الجمعوي بشكله الحديث (بمعنى وجود مؤسسات لها مجلس إدارة وتنظم انتخابات داخلية وتعقد جمعيات عامة)، في بعض الدول العربية كمصر ولبنان وتونس والأردن.. في نهاية القرن التاسع عشر. وعلى عكس ما حصل في أوروبا مثلا حيث كان الحراك الجمعوي نتاجاً لتفاعلات وصراع مصالح طبقية داخل هذه المجتمعات، فقد جاء هذا الحراك الجمعوي العربي كردة فعل على الهيمنة الاستعمارية.
ففي اطار ما سماه المؤرخون بالنهضة، التي شكلت حركة فكرية سعت من خلالها النخب العربية الى تحديث المجتمع العربي واسترجاع أمجاده، مع الحفاظ على الموروث الثقافي الإسلامي، بجانب تبنيها عدداً من المفاهيم الغربية كالمواطنة والحرية وتحرر المرأة، تم تأسيس عدد من الجمعيات الخيرية الممولة من طرف عائلات ميسورة أو عبر الأوقاف والحبوس، تسعى الى بناء نخب وطنية عبر التعليم ونشر أفكار النهضة ضمن مختلف عناصر المجتمع (بمن فيها النساء والأطفال)، والتوعية بطريقة حديثة مع الحفاظ على الهوية العربية الاسلامية. ركز الجيل الثاني من الحراك الجمعوي العربي على النضال الوطني ضد الاستعمار. شكلت الجمعيات أرضية للحشد والتعبئة ضد المستعمر، فانخرطت ضمن النضال السياسي سواء تحت راية التيارات الوطنية الاسلامية (جمعية الاخوان المسلمين) أو التيارات الوطنية العلمانية («الدستور الجديد» في تونس).
بعد الاستقلال، تركز جهد الأحزاب الوطنية بكل توجهاتها، البعثية والاشتراكية والليبرالية،على بناء دول حديثة قادرة على السيطرة على شعوبها. فكان أن قيدت هذه الدول النشاط الجمعوي أو محته كلياً.
أرقام ومجالات.. فصيحة
في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي ظهر مفهوم «الحكامة»، وأخد حيزا هاما في خطابات الوكالات الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) الموجهة لدول العالم الثالث، أو ما صار يسمى البلدان النامية: الدعم المالي مقيد بمدى استيعاب هذه الدول لمفهوم «الحكامة الجيدة». فاستبدلت سياسات التعديل الهيكلي بسياسات الحكامة الجيدة والتنمية ومحاربة الفقر. لكن الهدف لم يتغير وبقي تقليص نفقات الدول بما فيها النفقات الاجتماعية، وخلق البيئة المناسبة لتطور القطاع الخاص. الجديد هو بلورة هذه الأهداف في إطار النموذج الليبرالي لدولة الحق والقانون، وبشكل يبتعد عن التصور الكلاسيكي الذي يجعل من الدولة الفاعل الأساسي إن لم يكن الوحيد في عملية التنمية الاقتصادية والبشرية والتنمية المستدامة. فبمحاذاتها، يوجد القطاع الخاص والمجتمع المدني. فقد كان تحفيز الدول العربية على فتح المجال العام أمام منظمات المجتمع المدني من الإجراءات التي صاحبت إدماج مفهوم الحكامة الجيدة ضمن سياسات هذه الدول. فتزايد عدد تلك المنظمات بشكل ملحوظ وخصوصا «الجمعيات والمنظمات غير الحكومية» المحلية الحقوقية، بجانب تلك التي تعنى بالتنمية والعمل الإنساني.
وصل عدد هذه المنظمات اليوم الى ما يقارب 44 الفاً مسجلة بالمغرب، 38 الفاً بمصر، 20 الفاً بتونس. وبالطبع تشمل هذه الارقام منظمات جد صغيرة ذات ميزانية سنوية تقل عن 500 دولار، وأخرى لا تقوم على نشاط فعلي. يجدر الإشارة الى وجود تشجيع أكبر لهذه المنظمات، وخصوصا الحقوقية منها، من طرف الاتحاد الاوروبي والامم المتحدة ووكالات دولية اخرى التي جددت سياساتها فيما يخص المجتمع المدني بعد الثورات العربية، ربما لتفادي مفاجآت جديدة.
ومن جهة اخرى هناك اقطار عربية شهدت ازدهارا للقطاع الجمعوي وتكاثر للمنظمات غير الحكومية لأسباب تتعلق بتناقص سيطرة الدولة، وانهيار شرعيتها أو عدم وجودها. فبالنسبة للبنان والجزائر فقد تزامن ظهور عدد من المنظمات والجمعيات مع الحروب الأهلية، وكان هدفها الاول إغاثة المتضررين من الحرب. تطور المجتمع المدني في لبنان لتشمل منظماته اليوم كل المجالات، ومنها «الحكامة الجيدة» و«الدمقرطة» و«بناء السلام» و«التنمية» و«حقوق الأقليات» سواء القومية أو النوعية. وعرفت الجزائر كذلك حراكا مدنيا مهما، خصوصا بين الفئات التي كانت الأكثر عرضة للتهديد من طرف التيار الاسلامي، كالنساء والاقليات الامازيغية.
أما في العراق، فبعد الغزو الأميركي في 2003، وبعد أن كان في البلد عددٌ قليل جدا من الجمعيات، فقد صار عدد المنظمات غير الحكومية العراقية اليوم يقارب 10 آلاف منظمة، عدد كبير منها أسسته المنظمات غير الحكومية الدولية والوكالات الدولية لتجاوز عدم ثقة الاهالي بها. أما في فلسطين، فبعد اتفاقيات أوسلو ظهرت العشرات من المنظمات الحقوقية (حقوق الانسان، تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة، الديموقراطية)، وبما أن الجهات الداعمة الدولية صارت تتصرف كأن صراع التحرير قد انتهى، فقد صارت تعمل على تحويله الى عدد من المسائل المتعلقة بـ«بناء السلام» ودعم السلطة الفلسطينية. أما في دول الخليج فلا تزال منظمات المجتمع المدني قليلة جدا، وكذلك في ليبيا وسوريا، فالمجال العام كان شبه مغلق في وجه المجتمع المدني الى حين 2011.
بدل الدولة
فوِّضت للمنظمات والجمعيات غير الحكومية، (التي تعرَّف على أنها «تكتلات حرة لمجموعة من الافراد في اطار بنية لها نشاط غير متقطع وهدف غير ربحي»، بالاضافة الى «استقلاليتها عن الدولة والحكومات والحرية في اختيار توجهاتها») مهمة العناية بالشرائح المهشمة، بمن فيها المعاقون والأطفال المتخلى عنهم والنساء فيما يخص عددا من المسائل التي كانت تعد من واجبات الدولة كالصحة والتعليم والإدماج الاجتماعي ومحاربة التهميش والفقر. يمكننا القول اليوم إن نشاط هذه المنظمات في عدد من الدول العربية يشمل مجالات متعددة ومتنوعة: تطوير البنى التحتية والخدمات الحضرية في بعض المناطق، دعم انشاء مشاريع المقاولات، تطوير المشاريع الزراعية، تطوير برامج للتأهيل المهني، ثم الدفاع عن القضايا الاجتماعية والإنسانية كحقوق الانسان، حقوق المرأة، القضاء على الرشوة... وحتى السلام.
تلاقي النشاطات ذات الطابع الاجتماعي والإنساني قبولا كبيرا ودعما من قبل الحكومات، فهي تلبي احتياجات ضرورية لشرائح واسعة من المجتمع وترفع ثقلا كبيرا عن ظهر الدولة بإخماد الغضب الشعبي الذي يمكن أن يشتعل في حال غياب من يلبي هذه الاحتياجات.
كما أن عددا من هذه المنظمات أو الجمعيات يعد وسيلة لبناء السمعة والشهرة السياسية، فغالب التيارات الإسلامية في البلدان العربية شكلت قواعدها عبر هذه الطريقة، كما أن عددا من السياسيين يكونون هم أو أقرباؤهم رؤساء لجمعيات. أما في ما يخص التنمية والمنظمات الحقوقية ومنظمات التوعية المدنية، فهي غالبا ما تلجأ للتمويل الدولي. فمشاريع التنمية غالبا ما تحتاج إلى تمويل كبير لا توفره الدول. أما بالنسبة لمنظمات حقوق الانسان وحقوق المرأة أو مؤخرا تلك التي تهتم بالبيئة، فهي تعمل في مجتمع ليس له اهتمام واسع بهذه القضايا، ويكون من الصعب عليها الاعتماد على موارد خاصة بها، كما أن بعضها يتعرض للتضييق من قبل السلطات التي ترى في نشاطها تهديدا لمصالح سياسية أو اقتصادية.
التمويل والخبراء
تعتمد المنظمات غير الحكومية بنسبة كبيرة على التمويل الآتي من الوكالات الدولية للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الأجنبية عبر الصناديق والمؤسسات التي تخصصها للمجال الإنساني والتنموي، وبعض المصادر الخاصة كالشركات والمؤسسات الخيرية الدولية. لكن هذه الجهات المانحة لا تعطي تمويلها بالسهولة التي يتخيلها بعض من تذهلهم كمية الأموال التي تضخ في ما يسمى بالمجتمع المدني. تضع الجهات المانحة شروطا صارمة تشمل كل التفاصيل سواء تعلقت بتنظيم نشطات الجهة المستقبلة للتمويل أو بنوعية هذه النشاطات وميادينها.
في سعيها للحصول على تمويل لنشاطاتها ومشاريعها، أو حتى لضمان بقائها في بعض الأحيان، تضطر المنظمات غير الحكومية إلى إدماج معايير ومبادئ تمت صياغتها من طرف موظف أو سياسي أو تكنوقراطي بمكتب في إحدى العواصم الشمالية، ومن دون النظر في كل حالة على حدة. مهما كان تاريخ المنظمة غير الحكومية وحجمها وإمكانياتها البشرية والإستراتيجية ومكان تواجدها (بالمدينة أو بالريف) ونوع نشاطها... فهي تضطر للانصياع لقائمة من الشروط المعدة مسبقا والمختلفة حسب المؤسسة المانحة. تبدأ هذه الشروط بمنهج صياغة طلب التمويل، وتنتهي بالتدقيق بكل المصاريف ومحاولة تقليصها قدر الإمكان. وفي إطار علاقة التبعية التي تربط المنظمات غير الحكومية بمموليها، هناك عدد من السلوكيات التي تنهش استقلاليتها. فالجهات المانحة تصدر إعلانات التمويل محدِّدة نوعية المشاريع التي تنوي تمويلها، والفئات التي ترغب باستهدافها، ومدة التمويل...
ويبقى على المنظمات بلورة برامجها لتدخل ضمن هذه الاطر. وكجزء مما يسمى بعقلنة المصاريف وتقليصها، تلجأ الجهات المانحة بشكل متزايد لتشجيع أو حتى فرض العمل المشترك بين المنظمات التي تعمل على مشاريع، أو لها نشاطات متقاربة في البلد نفسه أو المنطقة. بالفعل يمكن ان يكون لهذه الشراكة فائدة في ما يخص فاعلية وجودة الخدمات المقدمة من طرف المنظمات، لكن هذا النوع من الشراكة يمكن ان يكون له أثر على نوعية العلاقات بين المنظمات، حيث غالبا ما تتموضع واحدة منها أو احدى المنظمات الدولية كرائدة، عندما يتم اختيارها من طرف الممول كمخاطب رئيسي مسؤول عن التنسيق والمراقبة.
فأين هي الاستقلالية التي هي من أهم العناصر في تعريف المنظمات غير الحكومية ان لم تكن هذه الأخيرة حرة، هي وأعضاؤها، في صياغة وتنسيق نشاطاتها واختيار شركائها؟ السعي لجلب مزيد من المنخرطين غالبا ما يُهمَش أمام السعي وراء التمويل والانهماك في توظيف خبراء واختصاصيين، أغلبهم من الأجانب أو ممن تعلموا في الدول الغربية، ما يجعلها أكثر استيفاء لشروط الجهات المانحة والتحول الى منظمات ذات مهنية عالية. تفقد المنظمات غير الحكومية والجمعيات المحلية بذلك قدرتها على التجديد والابتكار، وتفقد صلتها المباشرة مع المستفيدين واحتياجاتهم، مبتعدة عن الهدف التنموي أو الإنساني الأولي.
الاستيراد الأخطر: المفاهيم
وفي إطار علاقتها مع الجهات المانحة أو المنظمات الدولية التي تلجأ إليها لاكتساب الشرعية، ممن لا يؤمنون إلا بالخبرة الأجنبية، لا تستورد المنظمات والجمعيات المحلية عناصر وطرق عمل وتدبير في غاية المهنية فقط، بل هي تستورد كذلك مجموعة من المفاهيم كـ«عالمية المعايير الأخلاقية» الليبرالية، و«الحياد» الإيديولوجي والسياسي. برامج التنمية المستدامة ومحاربة الفقر تأتي لتعالج أضرارا ناتجة عن سياسات اقتصادية ليبرالية، من دون أن تتساءل بشكل جدي عن الأسباب. فإن لم تطالب المنظمات والجمعيات المحلية بالعدالة الاجتماعية فهي بذلك تضع نفسها في محل ما يسميه البعض بالوجه الإنساني للرأسمالية، الضامن لاستمرارية الوضع القائم. ففي آخر الأمر، «التنمية المستدامة» ما هي الا وسيلة للحفاظ على اقتصاد السوق.
وكذلك المنظمات التي تعمل على نشر ثقافة حقوق الإنسان والسلام، تجرد حقوق الانسان من كل بعد اجتماعي أو سياسي، وتحصر بناء السلام في تدريب الأفراد على تقنيات التواصل وحل النزاعات الفردية. وهي يمكن أن تنفع على المستوى الفردي، العائلي أو حتى العشائري، حيت تقْدم بعض المنظمات على تدريب بعض أعيان العشائر أو حتى على إنشاء مجالس صلح . لكن، ولاحترام مبدأ الحياد، يتم تجاهل دور الدولة أو الأحزاب السياسية في هذه العملية. فاذا كان الحياد في بعض الحالات ضروريا، ويضمن تقديم الإعانة والخدمات من دون تمييز، كما هو الحال بالنسبة للأزمة السورية، فهل يمكن القول إن الالتزام بالحياد ضروري ومناسب في كل الحالات؟ عدد قليل جدا من المنظمات غير الحكومية تتمكن اليوم من ترسيخ نشاطها وفق منطق مساندة حركات المجتمع المدني (النقابات، الحركات النسائية، الحركات الشبابية، وجمعيات الحفاظ على الزراعة وحقوق الفلاحين...) والتفاعل مع متطلباته. أغلب هذه المنظمات تدافع عن حقوق الانسان والمرأة وبعض الاقليات كالامازيغ في المغرب والجزائر، وتجمع بين صفوفها عددا من الذين ناضلوا بالتيارات الماركسية بسبعينيات القرن الماضي والذين خاب أملهم من العمل الحزبي. وتشكل هذه الجمعيات قوة ضغط فعلية في عدد من الدول العربية، كما انها كانت جزءا من الثورات العربية بتونس ومصر بشكل خاص، ومن الحراك الاجتماعي الذي وقع بالمغرب والاردن.