تكاد السياسة التحريرية للصحافة الأردنية أن تتمثّل في عدم تجاوز الخطّ الأحمر المرسوم بالحبر السرّي. في حين يتهمّ صحافيون الحكومة بعدم تقديمها دعماً ماديّاً للصحف، متجاهلين أن الشارع هو الحضن الأكثر أماناً، وأن عليهم مطالبة السلطات بتقديم هامش من الحرية يُمكّنهم من قول الحقيقة، وذلك كي لا يعيش المواطن مغترباً عن صحافته، لا يثق إلاّ بصفحات الوفيات والإعلانات.
خريطة الصحافة اليومية الأردنية
تُصنّف الصحافة الأردنية انطلاقاً من تغطياتها للأحداث السياسية الجارية في المنطقة، وليس من خلال مواقفها المتعلّقة بالقضايا الداخلية المفصلية. "العرب اليوم"، وهي صحيفة يومية، تتخذ طابعاً مُسانداً للنظام السوري. أمّا "السبيل"، التابعة للإخوان المسلمين في الأردن، فتتخذ موقفاً مُضادّاً له، والبقيّة تُقيم في الحيّز الرمادي مع الإبقاء على غزلها للسلطة السياسية والذوبان في موقفها المتأرجح حول الأزمة السورية. غير ذلك، تبقى الصحافة الأردنية تغرد بعيداً عن الشارع وقضاياه.
المال والحرية للموازنة
يعتقد بعض الصحافيين أن سبب أزمة الصحافة الأردنية يتلخّص في إحجام أصحاب المال عن الاستثمار في الصحافة الورقيّة، نظراً للتنافس مع الإلكتروني. لكنهم غافلون عن أنّ الحرية هي عمودهم الفقريّ، لا سيّما أنها القادرة على اعادة ثقة الناس بالإعلام، وهو ما يجعل المُعلن مؤمناً بقدرة الصحيفة على الوصول لأكبر شريحة ممكنة.لنتخيّل وُجهة المواطن صبيحة كل يوم لقراءة "ما يجري فعلاً في الأردن". هو ببساطة لن يُحجم عن الصحافة الورقية لا سيما أن الإعلام الإلكتروني الأردني ما زال ضعيفاً لا يُقدّم بديلاً فعليّاً. فغالبية المقالات التي يتمّ نشرها في المواقع الالكترونية مأخوذة من الورقيّ. وصحيح أنه قبل سنوات قليلة، بدأت بعض المواقع تعيين مراسلين لها، لكن عددهم وقدرتهم أقلّ من مراسلي الصحف اليومية. ترك هذا سؤالاً حول قدرة الحرية على رأب الصدع المالي للصحف اليومية. واقع الصحافة الأردنية خير من يوفر الجواب، ففي سبعينيّات القرن الماضي، عندما بدأت الصحافة باتخاذ طابع مؤسساتي (كـ"الرأي" صحيفة الحكومة)، لم يمنع ذلك رئيس الوزراء حينها، زيد الرفاعي، من العمل على التخلّص منها وتسميتها بـ"المصيبة"، فيما تندّرت بعض الأوساط بأن الحكومة ستوظف قراءً، نظراً لعدم الإقبال على الصحيفة المُتحدّثة بلسان الحكومة. وبكلّ بثقة، اشترى "المصيبة" شيخ الصحافيين الأردنيين جمعة حمّاد مع اثنين من أبناء المهنة، وكانوا جميعاً مدركين بأن ما سيحوّل هذه النقمة إلى نعمة هي الحرية ورفع سقفها.وفعلاً دخل بعض الألق إلى صحيفة الرأي مع انحيازها للشارع والناس، وأصبحت الصحيفة الأولى بفضل الثقة التي جلبت الإعلانات. واستثمر حمّاد، أكثر من مرة، في حوادث منع صدور الصحيفة ليقول للناس "كانت عينكم ولهذا أُغلقت".وكون عقد البيع الذي أُبرم بين الرفاعي وحمّاد أبقى الأرض المُقامة عليها الصحيفة ملكاً للدولة، تمكّنت الحكومة الأردنية من استعادتها بعد ما يزيد عن العشرين عاماً. وأصبحنا اليوم نسمع أصواتاً تقول إن "هذه الصحيفة تعود للحكومة فكيف تطالبونها بالانحياز للشارع أو الأحزاب؟".
صراع الأقطاب ومعادلة حرية الصحافة
انفتحت طاقة فرج جديدة بعد هبّة نيسان/أبريل من العام 1989، فازدهرت الصحافة الأسبوعية التي قدّمت حالة يصعب تجاوزها، حيث بقي الطابع العام هي جرأة الصحافي، الذي يكتب في أغلب الأحيان منتهزاً فرصة صراع القوى والأقطاب السياسية، وليس بناءً على قانون يحمي الحريّات.في التسعينيات، سلبت الصحافة الأسبوعية البريق من تلك اليومية، عبر تناولها قضايا كان من الصعب على الأخيرة التطرّق لها. وهكذا شكّلت الأسبوعيات مساحة مهمة في وعي جيل كامل.استمر هذا الحال لسنوات، من ثمّ بدأ تراجع السلطة في الأردن عن "الانفتاح السياسي" الذي أُجبرت على تقديمه أواخر الثمانينيات، متوجة تراجعها بقانون انتخابي (1993)، هو "قانون الصوت الواحد" ( حيث يفوز مرشح واحد في دوائر صغيرة) الذي يقطع الطريق على تطور الأحزاب ونضج الحياة السياسية، كما يوسّع دائرة الفئوية والعشائرية الضيقة. وتلا ذلك إقرار قانون المطبوعات والنشر في العام 1997، وعلى أثر بنوده الساعية إلى التضييق على الصحف الأسبوعية، تمّ إغلاق 13 صحيفة أسبوعية.لكن العاملين في الأسبوعيات كانت بانتظارهم صحيفة يومية جديدة هي "العرب اليوم" التي بدأت بتقديم ما هو جديد. وعلى مدى سنوات، استطاعت "العرب اليوم" فتح ملفات سياسيّة لم يتجرأ أحد عليها، معتمدةً على سياسة صراع الأقطاب في الدولة لضمان الحماية الكافية. وعلى الرغم من إعلان مراقبين بأن صفقة بيعها التي تمّت في العام 2011 كانت بسبب أعباء مالية للمالك رجائي المعشر، إلاّ أن الظرف السياسي الذي تمت فيه الصفقة يعكس غير ذلك، لا سيما أن عملية البيع جاءت مباشرةً بعد توقيف مدير المخابرات السابق الجنرال محمد الذهبي (وهو أحد الأقطاب التي حملت رأياً في قضايا سياسية انسجمت معها "العرب اليوم"، ومنها التقارب مع حماس وتيار المقاومة في المنطقة خلال الفترة الواقعة بين 2007-2010، من باب توسيع خيارات الأردن السياسية). كما تبع عملية البيع استقالة أعمدة الصحيفة من واضعي سياستها التحريرية. ومنذ العام 2012، لم ير الشارع الأردني ملفاً جريئاً منشوراً في "العرب اليوم" ينسجم مع سياستها التي كانت قبل العام 2011، بل شهد شارع الصحافة مأساة فصل صحافيين وعاملين في الصحيفة، ما زالت قضاياهم منظورة حتى اليوم في المحكمة.
الخاسر الأكبر في الربيع العربي
ثمة رابط منطقي بين تراجع الحريات السياسية وتراجع الصحافة. ففي ظلّ تناقضات المنطقة السياسية، وانقسام الحراك الأردني بين مؤيد لـ "الثورة السورية" ومعارض لها، ومع نجاح عملية تصفية الحسابات بين الأقطاب المتعددة في الأردن، تعزّزت سياسة القطب الواحد، ممّا سهّل السيطرة على الصحافة.ولا وجود لقانون مطبوعات يحمي، وبالأصل كان الهدف من قانون المطبوعات وتعديلاته في مراحل متعددة (1997-2007-2012)، تقييد حرية الإعلام لا صونها. فكان الإعلام هو الخاسر الأكبر منذ بدء الثورات العربية. حتى المواقع الإلكترونية التي كان الجسم الصحافي بانتظار تنظيمها بما يحمي ازدهار المهنة، صمّمت لها الحكومة ضمن التعديلات على قانون المطبوعات والنشر في العام 2012 قفصاً من البنود للتضييق عليها.