انتشرت في الفترة الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي عدة مقاطع فيديو تُظهر بعض المعلمين المصريين، وخصوصاً معلمي اللغة العربية، يشرحون المادة العلمية للطلاب عن طريق الغناء و "التطبيل" والرقص أحياناً إن لزم الأمر. وهو ما أثار ردود فعل متباينة، بين من يرى أنها دربٌ من الابتكار والتجديد، ومن يراها نوعاً من التسطيح وتقليل هيبة المعلم وصورته أمام الطلاب.
تداعيات سلبية
التعليم يمثل حائط الصدّ المنيع تجاه قيم مجتمعية مختلة ومتدهورة، والمُعلِّم يمثل الركن الأساسي للعملية التعليمية في مصر، وهذا يستدعي منه الحفاظ على ذلك التوازن الصعب بين ابتداع طرق جديدة وسهلة للتعليم، والحفاظ على هيبته.
وعلى الرغم من أن تلك الطريقة الشيِّقة التي ابتدعها بعض معلمي اللغة العربية قد تُسهِّل بالفعل على الطلاب حفظ قواعد النحو والصرف، إلا أن لها تداعيات سلبية. فهي أولا تعتمد على الحفظ والتلقين أكثر مما تساعد على الفهم، لأن الطلاب يرددون الأغنية وراء المُعلم كما حفظوها دون فهمها الصحيح. وهي ثانيا تدعو إلى تحويل ساحة الدرس إلى مسرح غنائي لا يؤهل الطلبة لتعميق الفهم اللُغوي الفعّال.
أما من ناحية هيبة المُعلِّم، فإن الأمر مرتبط بثقافة المجتمع المصري المتأصلة في الجذور، التي أنتجت صورة ذهنية عن المُعلم تتسم بالجدية والوقار، حتى انه "كاد أن يكون رسولا". وبالطبع لن يكون التأثير إيجابيا على الطلبة ولا على العملية التعليمية برمتها إذا وجدت الرسول يغني ويتمايل كما يظهر في تلك المقاطع المُصوّرة، من أجل توصيل المعلومة للطالب، بل إن هذا سيساهم كثيرا في إزالة كل الحواجز الضرورية والتي تصنع نوعا من الاحترام للمُعلم لا الخوف منه، بما يؤثر سلبا على العملية التعليمية والقيم المجتمعية ككل.
السياق الثقافي مُحدِّد رئيسي
ظهور الأمر في الفترة الأخيرة أكثر من مرة دفع إلى تسليط الضوء على تلك الظاهرة، وما تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي ربما أقل بكثير مما هو عليه الوضع في الواقع، الأمر الذي يدفع إلى ضرورة تنظيم تحقيق المعادلة التي تضمن التوازن بين الابتكار وتحافظ في الوقت ذاته على الاستيعاب وعلى الاحترام والوقار للمدرس.
فقديما كان يُستخدم الشعر لتيسير فهم القواعد النحوية ربما لأنه يساعد أكثر على التذكر، فنجد أن قواعد النحو قد وضعها ابن مالك في أبيات شعرية، كذلك حروف الإخفاء في علم التجويد وُضعت في أبيات شعرية، لكن ما يجب التنبيه إليه أن السياق الثقافي الذي وُجد فيه ابن مالك مختلف تماماً وربما متناقض مع السياق الثقافي الحالي. ومن ناحية أخرى فإن الشعر يعد أحد الفنون الأدبية المعروفة والوقورة في بنيانها وتركيباتها، أما الغناء والتمايل الذي ظهر عليه المعلمون في تلك المقاطع المصورة فأمر مختلف كلية. الأمر إذاً جزء من منظومة التعليم الكلية التي يجب إعادة النظر فيها.
ظاهرة تحتاج إلى احتواء
إن طرق التعليم المبتكرة عديدة ومتباينة، لكنها كلها ترتبط بالثقافة المجتمعية، والتعليم في الدول المتقدمة يعتمد على أساليب برغم أنها لا تخلو من مرح يُضفي على أجواء التدريس مذاقاً شيقاً، هي أيضا مبتكرة وتحافظ على المجتمع وتدفع نحو ترسيخ قيمه الثقافية الأصيلة في عقول الطلاب، كما أن العملية التعليمية في تلك الدول تعتمد على المتعة والترفيه واكتساب المهارات في المقام الأول، كالأنشطة الثقافية والمجتمعية، أكثر من اعتماده المسار الروتيني المتمثل في الحصص الدراسية المُكررة الخانقة للتطور وللخيال والإبداع والمُرهقة للعقول بحشوها بمناهج صمّاء.
من المعلوم أن الدولة لن تمنع الدروس الخصوصية الآن لأنها تعلم أن هذا من شأنه أن يدفع بمزيد من المطالبات ضدها من جانب المدرسين، كما أنها في الوقت ذاته لن ترفع ميزانية وزارة التربية والتعليم في الفترة الحالية نظراً لسياسات التقشف المتبعة. لذا فإن احتواء الظاهرة يجب أن يتم على نطاقين، أولهما ثقافي مجتمعي يدفع نحو رفض مثل تلك الطرق السطحية المبتذلة. وثانيهما حكومي، ويرتبط بالأول مباشرة وربما يسبقه، بحيث تقوم وزارة التربية والتعليم بتنظيم دورات تدريبية للمدرسين للتعرف على طرق التعليم المبتكرة في الخارج وتنوعاتها، وكيف يمكن ربطها بالإطار الثقافي المصري.
نماذج من الفيديوهات المتداولة:
1- مقطع فيديو لمدرس خصوصي يُلقن طلبة في مرحلة الإعدادية أو الثانوية قواعد النحو والصرف
2- مقطع فيديو لأحد المدرسين يُلقن طلاب المرحلة الابتدائية قواعد النحو وأساليب النطق