القرار الصادر من وزارة الأوقاف المصرية في 26 كانون الثاني/يناير 2014 بتوحيد خطبة الجمعة في جميع مساجد مصر لم يكن وليد لحظته، وإنما كان نتيجة لتراكم الأحداث والمعطيات السياسية المختلفة منذ "30 يونيو". بدأت ملامح القرار مع تصريحات محافظ بورسعيد في اجتماعه مع الأئمة، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، والتي أشار خلالها أن "من لم يتّبع التعليمات سيلقى أشد الصفعات على وجهه"، ما يشير إلى أن قرار الوزارة الأخير ليس سوى تقنينًا لتعليمات مُعدَّة ومُتبَّعة مسبقاً. أثار القرار الكثير من الجدل. فهل تسعى السلطة إلى تغيير مضمون الخطاب الديني بما يُبعده عن التطرف في الفكر، أم هي تسعى للسيطرة عليه وتوظيفه لخدمة أغراض القائمين على الحكم؟
في ثنايا البيان وما يحيط به
تلا نص القرار عبارة ملفتة تقول: "الأوقاف هي المسؤولة عن إقامة الجمعة والشعائر في جميع مساجد مصر. وبما أنها ماضية في ضم جميع مساجد مصر إليها، فإن الأولوية في الضم ستكون لأي مسجد لا يلتزم بالخطة الدعوية التي تحددها والمنهج الذي تلتزمه من الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة دون أي توظيف سياسي حزبي أو مذهبي أو طائفي للمنبر أو للمسجد". بعدها تطرق البيان لمبررات القرار مؤكدا أن "القياس والمصلحة يقتضيان الآن جمع الشمل وتوحيد الكلمة والاجتماع على كلمة سواء، ومن هنا قررت وزارة الأوقاف توحيد خطبة الجمعة على مستوى الجمهورية في جميع مساجد مصر ابتداء من الجمعة القادمة، علماً أن الوزارة ستكون مضطرة إلى سرعة ضم أي مسجد تابع لأية جمعية لا يلتزم بالخطبة الموحدة ومحاسبة أي إمام أو خطيب لا يلتزم بها"، فكأن الضم نوع من العقوبة إذا خرج أحد المساجد عن تلك التعليمات.قبل أسبوعين من صدور القرار، وفي الندوة التي عقدتها إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة في 11 كانون الثاني/يناير، أكد المشير عبد الفتاح السيسي أن تعديل الخطاب الديني يُعد المعركة الكبرى والتحدي الأكبر أمام الشعب المصري، مشيراً إلى ضرورة تقديم رؤية جديدة وفهم عصري وشامل للدين الإسلامي. الأمر الذي اعتبر وقتها كمؤشر على بداية مرحلة جديدة يتوقف فيها ذلك الخلط العشوائي بين الدين والسياسة. وهو ما يجب إتباعه من كل أطراف اللعبة السياسية وعلى رأسها الدولة، من اجل الانتهاء من مرحلة تدثير السلطة بخطابات دينية "ترويجية" إن جاز التعبير، تُضفي عليها مسحةً من الشرعية السماوية.
تحفظات موضوعية
هناك أولا أن توحيد الخِطبة سيحدّ من قدرة الخطيب على الإطلاع والاجتهاد، بما سيؤدي إلى تهميش دوره في النهاية، فضلا عن أن الإمام يجب أن يتفاعل مع المُستجدات حتى لا يكون في واد والجمهور في واد آخر. وثانياً، فمعظم الموضوعات التي تختارها وزارة الأوقاف لخطبة الجمعة غير ملائمة للظروف والأوضاع التي تمر بها البلاد، الأمر الذي يثير التساؤل حول معايير اختيار موضوعات الخطبة، والتي بدا واضحا أنها تُحدد بمعزل عن مشكلات المواطنين المعاصرة. فحينما تحدد الوزارة موضوعات كـ"العقل والعلم" و"الأمل والعمل" و"الحفاظ على البيئة ودوره في التنمية" الخ... في مجتمعٍ يعاني أفراده من نقص في احتياجاتهم الأساسية وغلاء الأسعار وتدنى مستوى منظومتي التعليم والصحة، فكل هذا يؤشر الى أن الهدف ليس تنقية الخطاب الديني من شوائب السياسة، بقدر ما هو إبعاده عن حياة المواطنين ومشكلاتهم، بحيث يُحيَّد تأثير الخطباء أو على الأقل لا يُستخدم إلا في الوقت المناسب. ثم أن توحيد الخطبة يقتل الحافز لدى الناس الذين يتنقلون من مسجد لآخر لسماع الخطب، فحينما تصبح خطبة الجمعة روتينية مكررة ومتشابهة، فمن الأوْلى أن تُذاع في الراديو ويستمع إليها جميع المُصلين!وتلك التحفظات، في مُجملها، موضوعية إذا أمعنا النظر في الهدف من خِطبة الجمعة، حيث يتفق العلماء على أن علاج المشكلات المعاصرة هو بمثابة شرط أساسي للخِطبة. ويزداد الأمر صعوبة مع الدول ذات المساحات الشاسعة والتي تختلف مشكلاتها من مكان إلى آخر. فليس من المنطقي أو المقبول أن يقف الإمام ليخطب مثلاً في قرية يعاني معظم أهلها من جرائم الثأر، أو تضربهم الأوبئة والأمراض من كل حدب وصوْب، أو يفتقرون لأبسط مبادئ العيش الكريم من مياه نظيفة وصرف صحي ومسكن ملائم، ويتحدث عن العقل والعلم أو عن الحفاظ على البيئة وغيرها.
تأييدُّ مُبطن بدواعي "الظروف الراهنة"
فيما تبرز على الناحية الأخرى آراء تؤيد ذلك القرار وتصفه بـ"الجيد" في ظل العنف الذي تشهده البلاد، فضلا عن أن "الظروف الراهنة تحتم على الجميع التعاون لانتشال الدولة من حالة الضعف". وفي هذا الصدد، فثمة تساؤلات من قبيل: هل حديث الخطباء والأئمة في مشكلات العصر سيؤدي للفوضى؟ هل الظروف الراهنة تمنع مناقشة الخطباء في المساجد لمشكلات مثل انقطاع الكهرباء والمياه وغلاء الأسعار وزيادة نسبة البطالة والفقر؟ هل لو دعا الخطباء في المساجد للجيش في حربه على الإرهاب سيُعد توظيفًا للدين في السياسة؟ هل دعوة الخطباء للمواطنين، من خلال منابر المساجد، للتصويت بنعم على الدستور سيدخل ضمن نطاق عقوبة مخالفة تعليمات الوزارة؟ هل سيكون للأئمة دور في الترويج لمرشح معين في الانتخابات الرئاسية القادمة؟ وإذا حدث ذلك فهل سيُعاقب المخالفون؟ منذ فترة وجيزة لوَّح لاعب الكونغ فو المصري محمد يوسف بإشارة "رابعة" خلال تسلمه الميدالية الذهبية في دورة الألعاب القتالية الدولية لمنافسات تلك الرياضة بروسيا، وعُوقب بتحويله للتحقيق وسحب الميدالية الذهبية منه، في واقعة غريبة وملفتة. وتكرر الأمر كذلك مع لاعب النادي الأهلي أحمد عبد الظاهر عندما لوَّح بالإشارة نفسها احتفالا بإحرازه لهدف، في حين نجد على الجانب الآخر أنه لم يُعاقب أيُّ ممن لوَّح بإشارة "السيسي" أو وضع صورته على قميصه الرياضي. وهو ما يؤكد وجود خلل يضرِب في جذور المعايير التي تُطبق، بحيث يجعلها تسير طبقًا للأهواء وليس طبقًا لتساوي المبدأ.والأمر ينصرف على ما يحدث في أمر خِطبة الجمعة، فتصبح سياسة انتقائية أكثر منها ارتقائية، وتمارس السلطة السلوك الذي طالما رفضت استخدام المعارضين له، وكأنها حرّمته على غيرها وأجازته لنفسها طالما يخدم أهدافها وسياستها العامة ويرسِّخ وجودها، حيث يبدو هذا القرار في ظاهره منطقيا، لكنه يحمل دلالات معبأة بالأغراض السياسية التي تهدف، في مُجملها، إلى تعميق ملامح السُلطوية والسيطرة على الخطاب الديني لتوجيه الجمهور في اتجاه سياسي مُحدَّد يصُب في صالح السلطة.