لم تكُن ثورة الإمام الحسين سنة 61 للهجرة - وهي من أعظم الثورات في التاريخ البشري ومن أكثرها مأساوية - في منأى عن وعّاظ السلاطين وخَدَمة البلاط، الذين عملوا بدورهم على تجريدها من محتواها ومضامينها العالية، وحرفها عن مسارها، المتمثل بمحاربة الظلم والفساد وتحقيق مبادئ الحق.
اشتدت محاولات مسخ القضية الحسينية بشكل منظم في عهد الدولة الصفوية، التي كانت تحيي شعائر الحسين بشكل طقوسي فقط. ولا تزال السلطات الحاكمة في وقتنا الحاضر تتعامل معها باستحضار الجانب التراجيدي في القصة، وهو في عرْفهم يتلخص باللطم والبكاء...
هذه الطقوس محل جدل كبير، لكونها تمزج بين التدين الشعبي والأداء الديني، فضلاً عن انقسام أراء الناس بين متسائل عن جدواها في الوقت الحاضر، والسلبيات المترتبة عليها، مثل قطع الطرق وتعطيل حياة الناس، وبين آخرين يرون فيها تجسيداً للدين والموروث الشعبي.
البكاء المموسق.. ورقة الحزن العراقية الخضراء أبداً
09-06-2017
النجف اليسارية
01-12-2016
ويعد عالم الاجتماع الإيراني علي شريعتي أول من وجه سهام نقده الى هذه الطقوس والشعائر، التي عدها من "تمخضات الدولة الصفوية" الحاكمة باسم التشيع، إذ يقول في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي": "سوف ينهض هذا الشيعي ساخطاً على الجور والظلم وغصْب الحق وسفك دم الحسين، ويثور ويتأجج الغضب في روحه وكيانه، ويسترخص نفسه، ويشهر سيفه بيده عالياً ليضرب بكل صلابة وعنف... رأسه! كيف استطاعت الصفوية أن تنتج تشيعاً يشبه التشيّع في كل شيء وليس فيه شيء منه؟". وفي موضع آخر من الكتاب يقول: "إنّ هذه الشعائر والطقوس المذهبية لم يعهد لها بسابقة في الشعائر الدينية الإسلامية.. ومن بينها النعش الرمزي والضرب بالزنجيل والأقفال والتطبير، واستخدام الآلات الموسيقية، وأطوار جديدة في قراءة المجالس الحسينية جماعة وفرادى، وهي مظاهر مستوردة". فيما يرى عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"، إنَّ تلك الطقوس ذات أثر بليغ في جذب الناس الى التشيع.
طقوس عاشوراء بعد 2003
كُبتت هذه الطقوس في العراق زمن النظام السابق، لدواعٍ شتى، جميعها بعيدة عن الاعتبارات المذهبية والدينية، وقد أملاها على الارجح التحسب من إمكانية التمرد على النظام من أناس يجمعهم مذهب واحد وعقيدة واحدة، وعُرِفوا طوال تاريخهم بإحداث الثورات والرفض للحكام... وهي أصبحت بعد 2003 أداةً لتحشيد الناس طائفياً، وصار الغضب - بدلاً من أن يوجه الى المسؤولين - يوجه الى الطوائف الأخرى!
انتفع السياسيون كثيراً من توظيف المذهبية والقضية الحسينية وفقاً لصراع الهويات، وغذوا اتباعهم بالتعصب والطائفية، حتى تحولوا في نظرهم الى منْقذين مدافعين عن المذهب وحراس عقيدة. وينتج عن ذلك كسب أصواتهم الانتخابية، وتحشيدهم في الحروب الطائفية، بالإضافة الى افراغ هذه الشعائر من محتواها، فتصبح هذه الكتلة البشرية قانعة بما يجري، وزاهدة، مكتفية بممارسة الطقوس الشعبية. أما المطالبة بالحقوق والعيش الكريم، فمؤجلة، ولن تتحقق إلا بالقضاء على الطوائف الأخرى في نظر هؤلاء.. وهذا ما أعلنه أحد خطباء المنبر الحسيني [1] علناً وصراحةً، داعياً لانتخاب أي كان من الطبقة الحاكمة الشيعية بصرف النظر عن فساده، معللاً ذلك بالقول المهم ان يُرفع اسم علي بن ابي طالب في الاذان ويسمح لنا بممارسة الشعائر الحسينية!
حسين الشعب وحسين السلطة
لكن نتيجةً للوعي الذي تبلور في السنوات الأخيرة على الرغم من كل التوتير الطائفي، وبسبب ملاحظة عموم الناس لفساد هؤلاء المشتغلين بالدين، سادت قراءة عقلانية لقضية كربلاء، ولم يعد يجري التعامل معها على إنها حادثة وقعت وانتهت، كما تريد لها السلطة ووعاظها. بل ظهرت ممارسات تكسر هذه الفرضية، حيث شاع التعامل مع شخص الإمام الحسين على أنه "حيٌ"، وينبغي أن تطبق مبادئه العالمية والمتمثلة بمحاربة الظلم والفساد والمطالبة بالحقوق، فـ"الحسين لا يحتاج إلى من يبكيه بل يحتاج إلى من يسير على دربه"، كما يقول علي شريعتي.
منذ سنة 2009 بدأت هذه الفكرة تتمظهر بشكل واضح على شكل ممارسات تناقلتها وسائل الإعلام، بعد أن كانت حبيسة صفحات الكتب، حيث أخذت المواكب التي تدخل حرم الإمام الحسين وأخيه العباس، ترفع شعارات تطالب بمحاكمة المفسدين، وتندد بالأحزاب الحاكمة، فضلاً عن المطالب الأخرى المشروعة، ممزوجة بشعارات حسينية قديمة. ولا تزال هذه الشعارات موجودة إلى اليوم وفي تزايد، بعد أن تبنتها بقية المحافظات العراقية.
هذا الوعي الذي تشكل، تجسد على مختلف الأصعدة. فعلى مستوى الفنون، صار الإمام الحسين يُرسم وهو يمتطي صهوة جواده وخلفه نصب الحرية في بغداد، وهو المكان الذي تنطلق منه الاحتجاجات، متأهباً لإعلان الثورة ضد الفساد.
وفي رسمة أخرى يَظهر الامام الحسين وهو مكبل بالأصفاد وعلى يمينه تمثال الشاعر العراقي البصْري بدر شاكر السياب، في إشارة إلى إن الإمام الحسين، لو كان مع متظاهري البصرة الذين يشربون الماء المالح، فسيلقى المصير ذاته الذي لاقوه هم من السلطة الحاكمة.
في زمن النظام السابق، كانت ممارسة الشعائر بحد ذاتها عملاً ثورياً، يربك السلطات. فنظام صدام حسين كان يمنع الشعائر ويقمع أي تجمع يرفع شعارات لا تتماهى مع شعارات حزب البعث المعروفة، حيث كان رجال الدين وقادة الأحزاب المعارضة، يحاولون قيادة الجماهير وتحريضها على الثورة عن طريق هذه الشعارات القابعة في المخيال الجمعي.
أما السلطة الحاكمة اليوم فتتعامل مع قضية الإمام الحسين بمثل تعامل الدولة الصفوية تماماً، وهدفها هو الحفاظ على الحكم عن طريق دغدغة المشاعر الدينية، وخلق أعداء وهميين يهددون الهوية المذهبية التي كانت مقموعة. لكن الواقع المرير دفع الشغوفين بأداء الشعائر من الطبقة المحرومة للبحث عن شعارات ومرتكزات وممارسات جديدة تتناقض مع ما ذهب إليه رجال السلطة ووعاظها، والذين هم أيضاً يؤدون الشعائر، ويذرفون الدمع. لذلك كانت مواكب الناس وشعاراتهم تمزج بين التنديد بالسلطة الراهنة وأحزابها، وبين استذكار الجانب المأساوي في قضية كربلاء.
لقد عمد رجال الدين الموظفين لدى السلطة، إلى جعل قضية كربلاء حدثت في وقتها، وأعطوها البعد "الآخروي" فقط، الذي ينفع الإنسان يوم القيامة. فحينما تسقط دمعة من أحدهم فإنها كفيلة بإطفاء نار جهنم له، كما هو موجود في السردية الشيعية التي ترفل بمثل هذه الأحاديث والأفكار.. وحينما يلطم أحدهم صدره تتساقط ذنوبه مثل تساقط أوراق الشجر. وهكذا أصبح لا علاقة لثورة الحسين بالواقع المعاش. هذا الخطاب التخديري لم يعد مهيمناً اليوم على أذهان الشباب بعد أن أدركوا أن الترديد "الببغائي" لتلك الشعارات لم يجدِ نفعاً. أضف إلى ذلك أن مكانة رجال الدين وخطباء المنابر تضعضعت وصاروا محط سخرية الناس.
تبلور الوعي وتحول إلى ممارسة وعمل، نتيجة للاحتجاجات المتوالية التي شهدها العراق وآخرها انتفاضة "تشرين 2019"، وما لا ينفك يليها. وقد خرجت القضية الحسينية من بلاط السلطة وعادت إلى الفقراء والمحرومين والمنكوبين والذين ترزح نفوسهم تحت ثقل المصائب. وأدركوا أن لا قيمة لتلك الشعائر حينما يمارسها الظالم والمظلوم على صعيد واحد.
فحينما نرى من ضيّع ثلث العراق، وارتكب من الجرائم ما يوازي جرائم النظام البائد، وأغرق العراق إبان فترة حكمه، التي استمرت ثمان سنوات، في دوامة من الفساد والفشل على مختلف الأصعدة.. نراه يعقد المجالس ويحي شعائر الحسين، فهذا يعني أنه ينبغي السير عكس تلك الطقوس، مثلما فعل الإمام الحسين حينما ترك شعائر الطواف بعد أن وجد الظالم والفاسد يؤديها. حينها اتجه إلى وجهة أخرى. وهذا هو التغيير الذي حصل في ذهنية أغلب الممارسين لتلك الشعائر فعمدوا الى ادخال الشعارات التي تدين الأحزاب الحاكمة والمحسوبية، والتي تندد بقتلة المتظاهرين وتطالب بمحاسبتهم، وصارت من ضمن الشعارات التي اخذت الصدارة ضمن الشعائر الحسينية. ففي شهر محرم الماضي، رفعت شعارات [2] تندد بالسلطة داخل مراقد الاماميين الحسين والعباس في كربلاء، وهي امتدت الى بقية المحافظات.. والمواكب التي رفعت شعارت نددت بالسلطة وفسادها، مُنعت وهوجمت من قبل رجال الأمن الذين هم أيضاً يعقدون مجالس الحسين!
لافتات تمنع دخول السياسيين والمسؤولين الى مواكب العزاء..
خلال هذا العام من شهر محرم انتشرت بكثافة، لافتات تمنع دخول السياسيين والمسؤولين المواكب الحسينية. وبذا خسر هؤلاء بعض أهم الأدوات التي كانوا يوظفونها للتحشيد الطائفي، فاصبحت المواكب الحسينية ترفع صور شهداء احتجاجات تشرين الذين قتلهم أمراء المذهب، وأصبحت الشعارات مناسبة للتذكير بأزمات البلاد الراهنة، عبر رفع لافتات وشعارات تندد بالوضع الحالي، مثل الفساد وسوء الإدارة، وسقوط الشهداء خلال الاحتجاجات الشعبية، فضلاً عن المطالبة بالكشف عن مصير المختطفين والمغيبين.
[1] الشيخ صلاح الطفيلي في احد المناسبات الحسينية
[2] فيديو يوثق اطلاق هذه الشعارات داخل مراقد الأئمة في كربلاء