كانت الإمارات التقليدية موجودة ومهيمنة قبل نشوء الدولة الموريتانية الحديثة (الاستقلال عن فرنسا في 1960). إلا أن الحديث عن القبيلة وتغولها في المشهد الموريتاني ما زال حاضرا صاخباً في النقاشات المجتمعية والسياسية، بل تصاعدت وتيرته في الفترة الاخيرة. فوسائل الإعلام تزخر ببيانات القبائل وأخبار اجتماعاتها والتغيرات التي تحدث على قياداتها، وكذلك حفلات الدعم القبلي للمرشحين في الانتخابات ومطالبات بعضها بنصيب أكبر من الثروة والتمثيل في مناصب الدولة وشكايتها من التهميش من طرف السلطة، والحديث عن "سيطرة أخرى" على مقاليد الحكم في الدولة... ويحدث أن تتجدد في بعض الأحيان الصراعات القبلية القديمة على شكل نزاعات على الأراضي أو سوى ذلك.
كيف تجدد البنية القبلية نفسها
تتكون البنية القبلية في موريتانيا من مستويين أساسيين هما فئتي الزوايا والعرب المحاربين (بني حسان)، تهتم الأولى بالثقافة وبالعلوم الدينية والجانب الروحي، أما الثانية فبمهمة حمل السلاح والحماية. يضاف إلى هذه التركيبة طبقات أخرى أقل تقديرا في الهرم الإجتماعي، مثل أزناك إگاون(الفنانين)، المعلمين (الصناع التقليديين)، والحراطين (العبيد المحررين) والعبيد - والحديث هنا عن المكون البيظاني (مكون يضم العرب والبربر)، ولا يشمل المكون الزنجي- وتتميز البنية التقليدية بالطبقية الشديدة وكذلك بقدرتها على تجديد نفسها بشكل ديناميكي تلقائي. يقول الكاتب والباحث الموريتاني عباس ابرهام :"إذا كان جيل المصلحين الوطنيين الأول قد ارتأى تجاوز القبلية لصالح الدولة الحاضنة لكل مكوناتها الشعبية بدون تمييز قبلي، فإن هذا النوع من الأحلام أصبح صعباً في ظل استقواء القبيلة وتحولها إلى وحدة للتنظيم السياسي ولتوزيع الثروة وللتحزب وللتحليل السياسي والاجتماعي. وهذا تحول درامي من الوطنية الأولى إلى الدولة الطائفية والعشائرية. ومن السائغ القول إن هذا يحدث الآن بشكل متفاوت، ولكن بشكل محسوس، في كثير من الوطن العربي. غير أنه إذا كان ظاهرة عربية فإن ديناميكياته تختلف من قطر لآخر (...).
تقوّي القبيلة هنا حدث بسبب الاستثمار السياسي فيها من قبل الحكومة والدولة. العامل الأساسي في هذا يتعلق بالدولة الريعية التي تنظم التعدد العشائري في العهد الديمقراطي، والتحول من استدرار الشرعية من اقتصاد "مركزة الدولة" وبنائها لهوية واحدة، إلى "الشرعية الشعبية" ومعها تحوّل النظام الى المحاصصة. لقد حُلّت الدولة الوطنية لصالح العشائرية. ولا يعني هذا انتفاء المركزية، بل إن مشاريع البناء العام والتعيينات والاكتتابات تُصبح متوّسطةً بالمحاصصات أو التوازنات القبلية".
تغول القبيلة يوازي إذاً استقالة الدولة من دورها المجتمعي واكتفاء الحكام بنهب الثورة وعدم الاكتراث بالواقع العام للناس ولا بتطوير مؤسسات الدولة، فلا يجد المواطن سوى قبيلته ليحتمى بها من ضربات الزمن، فهي تساعده في البقاء حيا عبر برامج التكافل الإجتماعي بين أبناء العمومة، فتقدم له الدواء حين يمرض والمال حين يحتاج وتساعده في العمل فهي مصعد للتوظيف وللبروز السياسي. وهذا يجعل المنتفع منها تحت رحمة شيوخ القبيلة وقراراتهم. ويظهر أثر ذلك بشكل جلي في العملية السياسية الدائرة حيث تسعى السلطة من خلال شيوخ القبائل لمحاربة كل الأصوات المعارضة.
تكريس الطبقية
ترسخ القبيلة نظامها الطبقى وتتحكم في أدوار الفاعلين في المجال العام. يقول الصحفي والناشط المناهض للعبودية عبيد ولد إميجن: "يغيب النموذج والقدوة لدى أغلب قيادات الحراطين عندما يكتشف أن واحدهم يلوذ بمحيطه القبائلي التقليدي، فيما يزداد حجم الهوة بين هؤلاء والجيل الجديد من الحراطين الذين يتحسسون بشكل لافت ملامحهم الهوياتية المستقلة، ويرون في القبيلة وكرا للاسترقاق والظلم الاجتماعي للفئات المحرومة. إن القبيلة غالبا ما تعمل على كسب نتائـج المشاركة السياسية لكبار المسؤولين من الحراطين ممـن يلوذون بها طلبا لدور حمائي في وجه السلطة، وقد دأبت الحكومات على إعطاء الحراطين حقيبتين إلى ثلاث، بالإضافة إلى تمثيل ضعيف لهذه الفئة داخل المجالس التشريعية والبلدية، بينما يرى دعاة الحقوق أن هذا التمثيل السياسي قليل حيث تمثل هذه الشريحة الأغلبية الديموغرافية لسكان البلد. غيـر أن النفوذ القبلي يفرغ ممثليها من الأدوار المنوطة بهم تجاه الرفـع من هذا المكون الاجتماعي الهام. إن القبلية تجبر هؤلاء على تحقيق قفزات هرمية، على حساب شريحتهم التي تبقى في أسفل الهرم.
"خطر تغول القبيلة أنها عائق أمام تقدم الدولة وتحولها إلى المؤسسية والمدنية، كمثل ترسيخ دولة القانون ، إذ تسوى أغلب الخلافات خارج نطاق القضاء والقواعد القانونية، وحتى أن الأحكام القضائية تعرقلها الأعراف بين القبائل.
كما ان القبيلة عائق أمام بروز ديمقراطية حقيقية فهي تقوم على تراتبية صارمة، والولاء للقبيلة وشيخها أصبح أكثر قدسية من الولاء للالتزامات الدستورية والقانونية في الدولة.