في كل صباح، تخرج مجموعة من أطفال مدينة نواكشوط، عاصمة موريتانيا، لا لذهاب إلى المدارس بل للتسول! وتسمى هذه المجموعة "ألمودات"، ينتشرون بثيابهم الرثة وأشكالهم المتعبة وعلبهم المعدنية الفارغة، و يبدؤون باستدرار عطف المارة عند إشارات المرور وأمام مطاعم ومقاهي وأسواق العاصمة.هؤلاء الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و12 عاما لا يتسولون من أجل أنفسهم، بل تلبية لرغبة الشيوخ الذين يدرسونهم القراَن في المحاظر. ويتم الأمر بمعرفة أهلهم وبموافقهم، فهم يتسولون من أجل حفظ القراَن، وأهلهم يقبلون ذلك نتيجة لفقرهم. يظلون طوال النهار يتسكعون في الشوارع حتى يحققوا الحد الأدنى المفروض من طرف شيخهم ،وهو خمسمائة أوقية، أي دولار ونصف الدولار، حسب أحد الأطفال. وهم يقتاتون أثناء مسيرتهم اليومية على الطعام الذي يجود به أصحاب المطاعم والمارة، لأنه ليس من حقهم لمس ما يحصلون عليه من نقود .ويأتي هؤلاء الأطفال في الغالب من مدن الداخل الموريتاني، وأحيانا من دولتي السنغال ومالي.
هذه الظاهرة ليست جديدة على المجتمع الموريتاني، لكنها خاصة بالمكون الزنجي. وهي في الاصل كانت نوعاً من"التكافل الاجتماعي" بحيث يتكفل المجتمع بطلبة العلم، وهو ما يعتبر بمثابة الواجب الأخلاقي، ولبث قيم التواضع والأخوة لدى طلاب العلم، حيث كان الشيخ الذي يدرس القراَن (المرابو) يتكفل بالأولاد ويسكنهم في محظرته، ولا يتقاضى أجرة على تدريسهم. وتسولهم يقتصر على طلب وجبات الطعام لأنفسهم، وهي فلسفة لدى مدرسي القراَن اَنذاك، حيث يعتبرون أن الأمر سيجعل الطلبة متواضعين وغير متكبرين، وهذا بحسب رأيهم هدف نبيل. ومن خلال هذا الفعل يريد أباء الطلاب أن يثبتوا أن أبنائهم قد ضحوا من أجل تعلم القراَن وعلوم اللغة. ولم يكن الأمر يرتبط بالفقر أو بالغنى .وقد خرّجت هذه المحاظر في الماضي علماء وحتى مثقفين أصبحوا لهم شأن في بلدانهم.لكن مع وجود الدولة الحديثة وهجرة الكثير من سكان الريف إلى العاصمة، بسبب الجفاف والفقر والجوع، تغيرت الأوضاع وتحولت الظاهرة إلى تجارة وانتهاك لطفولة الأطفال.وتحولت بعض المحاظر التي تدرس القراَن للزنوج في نواكشوط إلى مراكز لنشر المتسولين في الشارع، وتحول بعض مدرسي القراَن إلى مجموعة من المجرمين الذين يفرضون على الأطفال الموجودين لديهم أن يتسولوا و أن يحصلوا مبالغ محددة، وإلا يتعرضون للضرب والتنكيل، بحيث يوجدون على الطرقات في ساعات متأخرة من الليل وهم ما زالوا يبحثون عن المبلغ المطلوب.
وجود هؤلاء الأطفال في الشارع لفترات طويلة وتعودهم على التسول وحرمانهم لسنوات من رؤية أهلهم، حوّل الكثير منهم إلى مجرمين في عصابات، يمارسون النشل وكل أشكال اللصوصية، ويتم استخدامهم أحياناً في تجارة المخدرات، ويصبح مصير الكثير منهم التورط في جرائم والسجن.وهم يتعرضون في الشارع إلى الاغتصاب وشتى أنواع الاعتداءات الجسدية، وذلك من قبل أقرانهم وأطفال الشوارع الآخرين الأكبر منهم سناً.المفارقة الكبيرة هي أنه بينما يفترض بأن هؤلاء الأطفال ذهبوا عن أهلهم من أجل دراسة القراَن واللغة العربية، فأغلبهم لا يحفظ شيء من القراَن ولا يفهم اللغة العربية، والسبب أن نشاط هذه المحاظر تحول من تعليم القراَن إلى تخريج المتسولين والمجرمين.
ظاهرة "ألمودات "جعلت الكثير من الأصوات الحقوقية والشخصيات والمنظمات العاملة في المجتمع المدني تطالب بتحرك جدي من قبل السلطات الموريتانية لإنقاذ الأطفال، حيث يطالبون بوضع برامج حقيقية فعالة من أجل دمجهم في الحياة الطبيعية، والوقوف في وجه المشايخ المتاجرين بهم باسم تدريس القراَن، ووضع قوانين واضحة تجرم فعلهم، وأن تقوم بحملات توعية في المجتمعات التي ترسل أبنائها إلى محاظر تحفيظ القراَن هذه، وتقنعهم بالتوقف وتنبههم إلى خطورة ما يحدث لأولادهم .ظاهرة "ألمودات" لا تقتصر على موريتانيا فقط، فهي موجودة في أغلب دول غرب إفريقيا... وانتهت الى أن تمارس بالطريقة نفسها.