تتمتع مهنة الطب بمكانة خاصة في المجتمع المصري، إذ ترادف صورة الطبيب في الأذهان معاني العبقرية والاجتهاد، وبالأدق الاجتهاد المكلل بالتفوق والنجاح. ومن يوفق للالتحاق بكلية الطب يكتب له ولذويه أن يرفعوا الرأس عالياً "ان من بينهم طبيب"!
بين منطق يرفض استعلاء مهنة على أخرى، إذ كل المهن بالنهاية تخدم المجتمع، وآخر يمعن في قياس فرق الجهد المبذول بين أصحاب المهن المختلفة، يمتد جدل واسع بلا انتهاء. والحق أن نصيب الطبيب من حالة البؤس العامة في مصر لا يستهان به، مما يجعل تلك المكانة غالباً هي العائد الوحيد للطبيب. لذلك فإن ذعرا ألم بالأطباء سجلته صفحاتهم على فيس بوك على إثر خبر لم يلقَ انتشاراً واسعاً يتضمن: "أن يحظر استخدام لقب دكتور فقط على الحاصلين على دكتواره، وأنه غير مستحق للحاصلين على بكالوريوس الطب فقط"، فرد أحدهم "ما هو ده اللي ناقص.. يسحبوا اللقب اللي حيلتنا"، فيما علقت أخرى "ده الحاجة الوحيدة اللي مصبرانا. هو اللقب كمان عايزين يسحبوه"! عكست ردود الأفعال أن الأطباء ربما يتمسكون باللاشيء لغياب كل شيء، لذلك رد أحدهم ساخراً "موافق بس يزودنا 45 جنيها في الشهر بدل لقب"!
تخبط الإعداد
تبدأ إرهاصات تميز الطبيب من نجاحه في تجاوز مزانق المناهج المصرية التي تعرقل رفاقه قبل مرحلة الجامعة. ولكن معاناته الخاصة تبدأ في كلية الطب حيث تتضاءل قدراته أمام تحديات جديدة أصعب. وربما تنقذه مهارة الحفظ التي دأب عليه ليتجاوز الاختبارات في الجامعة والتي يصلح الحفظ أيضاً كمخرج منها، ولكن اكتساب الخبرات العملية يبدو التحدي الأكبر الذي لا يُحصِّله أغلب الأطباء ولا يسعفه الحفظ سبيلاً. ومن خلال محاورة بعض الأطباء الشباب بدا ان هناك إجماعاً على أن الخبرة العملية التي يتلقاها الطبيب من الكلية تداني الصفر، كذلك يندر إحراز درجة مقبولة من الاستفادة خلال سنة الامتياز التي تدفع بالأطباء في المستشفيات ليعايشوا أجواء العمل بصورة واقعية. لكن عدم وجود برنامج تعليمي محدد يُدار ويقيَّم بصدق، يَحول دون إكساب المتدربين خبرات عملية منظمة، حيث غالباً ما يكون الطبيب المكلف بتدريب أطباء الامتياز غارقاً في متابعة الحالات ومضغوطاً بدراساته ومسؤولياته الخاصة، ما يدفعه في النهاية للتوقيع الصوري على انتهاء تدريب مجموعة الأطباء المسؤول عنهم، وهو ربما لم ير بعضهم أن لم يكن أغلبهم!
بجمع التوقيعات اللازمة من الأطباء المدربِين لاجتياز سنة الامتياز للأطباء المتدربين، يبدأ الطبيب في استلام التكليف كطبيب معتمد في وزارة الصحة، ويتم إلحاقه غالباً بإحدى الوحدات الصحية ليبدأ في عمله كممارس عام مدة تقارب العامين، وهي "السنوات الضائعة" بحسب وصف الأطباء، إذ يفوق نصيب الطبيب فيها من الأعمال الإدارية ما يمارسه من المهام الطبية، حيث يجد نفسه محاصراُ بين كومة أوراق، بعضها صادر من الوحدة والآخر وارد إليها، وإذا به مسؤول عن المطالعة وتوقيع الختم المطلوب، والذي يعد مسؤوليته الأولى إلى جوار بعض الخدمات الطبية الفقيرة. وبنهاية فترة التكليف، يبدأ كل طبيب في اختيار التخصص الذي يناسبه ليصبح نائباً في أحد المستشفيات الحكومية، وحالما يتسلم الطبيب عمله في فترة النيابة، فإنه يوقن تماماً أنه يمر بأول مرحلة تعليم حقيقية، بينما يُنظر إليه كطبيب مختص، لذا قد يُوكل إليه تدريب أطباء امتياز! وهكذا يهملهم فتعاد الدورة من جديد.
أجور الأطباء
يتوق الطبيب الشاب فور تخرجه لأن يرفع عن عاتق أهله أعباءه ومصروفاته، عقب رحلة طويلة من الجد والاجتهاد، ويود لو يلقى حصاداً، إلا أنه سرعان ما يفطن لأن رحلته لم تبدأ بعد، وأن الطريق ما زال كاملا لم يبرح منه إلا القليل. فعليه وحده تأهيل نفسه علمياً ومهنياً ومادياً، وقد أبدى بعض الأطباء إجماعاً - خلال الحوار الذي جمعنا بهم - على عدم الرضا عن الأجور رغم ما أُلحق بها من زيادات. وتباينت طرق التعبير عن ذلك، فبينما رد أحدهم بضحكة عالية متعكزاً بالسخرية لتخفيف مرارة الواقع، رد آخر "ان الطبيب في مصر يعتبر معدوم الدخل"! إذ ما يتقاضاه من أجر لا يسعفه لتحقيق أي إنجاز على أي مستوى من المستويات الحياتية المتباينة. بدا واضحاً أن الأمر كله (مادياً وعلمياً) يتلخص في المهارات الخاصة بكل طبيب، وهي وحدها ما يمكن أن تجعل منه طبيباً ملء السمع والبصر، أو قد تودي به جانياً خلف القضبان! يتوقف ذلك على قدرة الطبيب على تشغيل نفسه في الأماكن الخاصة، بجانب عمله الأساسي. وبالطبع لن يقبل العمل الخاص طبيب مرتعش اليدين بحاجة للتمرين والتعليم، فالتظاهر بالمعرفة والتعالم هو أول ما يكتسبه الطبيب كضرورة لاستمراره في العمل، والثمن لا يدفعه المرضى فحسب من صحتهم ومالهم، بل كذلك يدفعه الطبيب من خلقه ومن ضميره.
"سبوبة" شركات الأدوية
يتجاوز الطبيب مشاكله رويداً رويداً، وبقدر ما لاقى من مصاعب لينجح ويعلو، بقدر ما قد يكتسب من غلظة وقسوة تعدمه القدرة على الشعور بآلام المرضى ومعاناتهم، مثلما يحدث لكثير من كبار الأطباء. بل وقد يندفع نحو المتاجرة بالمريض والاستثمار فيه، وذلك علاوة على انتشار أجواء المنافسة الشرسة وأحياناً غير الشريفة بين الأطباء أنفسهم. فكل طبيب يحقر ما يفعله غيره، وقد بدا ذلك علناً مع ما انتشر مؤخراً من أنباء عن احتدام النزاع داخل اتحاد المهن الطبية، الذي يضم النقابات الأربع: الطب البشري والأسنان والبيطري والصيدلة. وقد تصدر النزاع نقيب الصيادلة بمطالب جريئة، منها حل صندوق المعاشات وزيادة مستحقات الصيادلة، مبدياً اعتراضه على نمط إدارة الاتحاد، كما لوح بوجود فساد مالي في الإدارة. وعلت على إثر تلك الأزمة مطالبات للصيادلة تضمنت دعوة الأطباء لكتابة الاسم العلمي (المادة الفعالة) للدواء في الروشتات للمرضى بدلأ من كتابة الاسم التجاري. وأبدى الأطباء اعتراضاً حاداً على تلك المطالب. وبينما برر كل فريق موقفه بحجج تدعي مراعاة حقوق المرضى وأخلاقيات وبروتوكلات المهنة، ظلت أصوات خافتة تردد أنه صراع على "السبوبة"! حيث تغدق شركات الأدوية في العطاء للأطباء مقابل وصف منتجهم للمرضى. ومن تلك العطايا على سبيل المثال: دعوة الأطباء لحضور مؤتمرات في أماكن فخمة، والحجز بفنادق غالية بخلاف تقديم الهدايا القيمة لهم، بينما يظل الصيدلي أسير اختيارات الطبيب، ما يُوقِع عليه عبء توفير أعداد كبيرة من الدواء نفسه باسماء مختلفة تبعاً لاختلاف الشركات، حتى إذا ما أتاه المريض وجد الاختيار الذي رشحه له الطبيب. ومع ذلك، فإن تبدل الحال يعني توجه شركات الأدوية بعطاياها نحو الصيدلي لا أكثر!
ولا عجب. فلم تستطع أي مهنة في مصر أن تعصى على استشراء الفساد فيها، وأن تمنعه من التمكن من مخابئها. وصار عادياً أن الناس في مصر تقتات على بعضها البعض. ولكن لأن الطبيب يلتقي الإنسان في أشد لحظات ضعفه وأكثر مواطن وجعه، ونظراً لما للأطباء من رصيد شعبي في نفوس الناس، فإن الصدمة فيهم تكون دوماً أشد وأعتى.