يبدو أن هناك تعديلات وشيكة لقانون البناء رقم 119 لسنة 2008، بهدف تقنين التعامل مع البنايات المخالفة، التي تفاقمت على إثر ثورة الشعب المصري في كانون الثاني/يناير 2011. تباينت تفاصيل التعديلات المزمع إجراؤها مع تباين المصادر الناقلة للخبر، وإن اتفقت جميعها على وجود نية للتصالح مع المخالفات البنائية بشرط سلامتها الإنشائية مقابل توقيع غرامات مالية على المخالفين كثمن للمصالحة. وبغض النظر عن الجدل القائم حول قبول أو رفض فكرة المصالحة بذاتها، مع ما تحمله ضمناً من تركيع للقانون، فإن جدلاً موازياً قد انطلق: من الذي يدفع؟ الجاني أم الضحية؟ ثم ما مدى اهتمام مشرّعي القوانين بتوقيع العقوبة على مستحقّيها؟
استحالة القانون
لم يفلح النص الحالي «غير المعدّل» للقانون في درء المخالفات ولا الحدّ منها، ولطالما كان سندا تأسست عليه في معظمها. والمراقب عموماً يلاحظ أن الداء ليس وليد لحظة الانحسار الأمني الذي أعقب الثورة، بل تلك كانت لحظة لتمكّنه واشتداد عوده الذي كشف عن عضال الداء وغوره.
فكلما زادت المخالفات البنائية اتّكأ جديدها على القديم. و بدت المعدّات المتوفرة للهدم شحيحة أمام تصاعد أعداد البنايات المخالفة. ففي الإسكندرية وحدها بلغت جملة المباني المخالفة 19493 مبنى، وفقاً لما سجلته دراسة حديثة (2013) لمركز المعلومات التابع لمديرية الإسكان والتعمير. وكانت الاسكندرية صاحبة النصيب الأكبر من المخالفات نظراً لخصوصية المدينة كجاذبة للسكان، والمؤشر لم يثبت بعد على رقم، لأنّ الأعداد في تزايد جامح! وبكل لحظة يُرمى فيها أساس جديد لبناية جديدة، يتأكّد بأن الأمر ما زال خارج نطاق السيطرة.
مصالحة مشروطة
ركع القانون أمام قوة العشوائية على الأرض، وأفصح عن نوايا للمصالحة بالشروط التي خرجت بها المباحثات.
أُجريت عمليات حذف وإضافة وتعديل على قانون البناء الجديد. اقتصرت نية المصالحة على البنايات السليمة إنشائياً. أمّا تلك المقامة «على أراضي الدولة والمتعديّة على خطوط التنظيم، وكذلك المقامة على أراض زراعية وغير الآمنة إنشائياً» فتمّ الاتفاق على وجوب إزالتها.
وعن شروط المصالحة في البنايات السليمة انشائيا، وبغض النظر عن المرارة التي يتجرعها المواطن المصري للحصول على وحدة سكنية، ولو كانت مخالفة، فقد استحق توقيع غرامة مالية عليه تفاوتت (حسب المصدر) بين ضعف وضعفي قيمة الوحدة المخالفة نفسها (وهذا على الرغم من سلامتها الإنشائية!)، فيما الشارع هو مصير المواطنين الذين اتخذوا من بنايات القسم الثاني («الواجب إزالتها») مساكن لهم. هؤلاء لا نيّة لإجراء تسويات معهم، حيث أن «القانون الجديد» فوق الجميع ولا يحمي المغفلين! بيَّن هذا المنحى أن «توقيع العقوبة على غير مستحقيها» هو ما حسم به موضوع الجدل حول هذا المجال الثاني!
دورة المسؤولية
يجري تداول مسؤولية البنايات المخالفة كما يتمّ تداول لعبة ورق، حتى تتلبسها في الآخر يد الخاسر الذي تطبق عليه الأحكام. وفي لعبة البناء هذه، فالخاسر هو المواطن الذي لا يخضع للأحكام سواه.
يتحمل مقاول البناء وزر المخالفة في مهدها ثم سرعان ما يدفعها نحو موظف تعطيل المصالح ومعوّق استخراج الرخص. يدفع المقاول الرشوة لإنهاء حاجته، وبهذه الرخصة أو من دونها، يبدأ البناء الذي ينقل المسؤولية لمهندس الإشراف الذي، بالرشوى أيضاً، يتغافل عن فنيّات البناء وحدود الترخيص. وعلى المنوال نفسه، تنسحب المسؤولية نحو مهندس التفتيش الذي يتوانى عن إصدار قرار إزالة البناء في مهده. وحتّى لو حصل قرار الإزالة، فهو سيصل إلى يد المحافظ للاعتماد، ثم يُدفَع به نحو وزارة الداخلية التي تتباطأ في التنفيذ حتى تتمّ الجناية وتتلبسها الضحية. فكل وقت ضائع يزيد من فرصة إتمام البناء ونقل ملكيّته إلى المواطن، الذي لا تجد أحكام القانون مستقرّاً غيره بدعوى جهله وسذاجته!
إهدار الثروة العقارية بما تحمله من أموال طائلة هو أقلّ ما تهدّد به البنايات المخالفة، فيما تستعر الفاتورة لتصل لاغتيال أرواح بريئة. فقد يكون التعامل الحادّ والقوانين الرادعة مسلكاً محموداً لا غبار عليه، لكن الغبار يتكاثر ليعمي العيون حين تكون الضحية هي وحدها محطّ سلطة القانون وسطوته. ومن هنا، ربما تستمدّ العشوائية المصرية قوتها، فَعَدْلُ بعضِ قضاياها يَغْلِبُ جُورَ القانون.
لهذا لم تنته المباحثات منذ تفجّر الأزمة بعد كانون الثاني / يناير 2011، والمخالفات البنائية لم تتوقف للحظة. تستوجب بديهيّات العدل توجّه التعديلات أولاً نحو تجفيف منبع الداء، عبر توقيع عقوبات مجدية على سلسلة الجناة الحقيقيين، كلٌّ حسب دوره وموقعه، ثم بعد ذلك تقدر غرامات مالية بنسب «ممكنة» على المواطنين ساكني المباني. هذا طبعاً مع إجراء تسويات مع «المواطنين الضحايا» المقرّر إزالة مساكنهم. ربما هذا من شأنه أن يضرب جذوراً لقوة القانون المبتغاة، فالعقاب يستمدّ أثره من عدله أولاً ومدى تناسبه مع الخطأ الواقع ثانيةً.
دراسة حديثة... الحاضر والمستقبل
قدّمت دراسة حديثة مقترحاً للحلّ، راعي التفرقة بين المفروض في الحاضر والمأمول في المستقبل. انطلقت الدراسة من مظلومية المواطن، وأسست في مقدمة طويلة على ضرورة حسم القرارات لتجاوزها، معتبرةً الحفاظ على الثروة العقارية وتحقيق أرباح لشركات الكهرباء والمياه والصرف الصحي أهدافاً عامة لها. وتضمنت اقتراحاً للمصالحة مع البنايات السليمة إنشائيّاً مع تحصيل رسوم سيادية (1 في المئة) من قيمة كل وحدة مخالفة في سبيل إدخال المرافق لها، على أن تسهم المبالغ المجموعة في تحسين شبكة الكهرباء والماء والصرف الصحي.
ولتجنّب تكرار الظاهرة مستقبلاً، اقترحت الدراسة إصدار قانون من مادتين، الأولى: مصادرة ملكية الأرض التي تتم عليها المخالفة البنائية لمصلحة الدولة (على أن يتم ذلك الإجراء في بداية أعمال البناء). وهي ارتأت في هذا سبيلاً للقضاء على ظاهرة «الكَحُول» الذي تسجل باسمه الأراضي زوراً. أمّا المادة الثانية، فهي «إنشاء شرطة متخصصة للمباني المخالفة تكون تبعيتها للمحافظ»، لوقف المخالفات في مهدها.
ولمّحت الدراسة ألى ضرورة تشارك العقاب تماماً كمشاركة الجناية. وفي تعليق لمُراجع الدراسة ومدير إدارة البحوث في مديرية التنظيم والإدارة بالإسكندرية، سعيد خالد، قال إن «حل الأزمة إداري قبل أن يكون قانوني».
صور خاصة بكاميرا الأزمة
«الكَحُول» واحد من الصور التي كشفتها أزمة البناء في مصر، وهو سبيل مغالبة القانون. «الكَحُول» واجهة للمساءلة في حال الوقوع تحت القانون، وهو شخص لا علاقة له تسجل باسمه العقود وعلى ظهره تلقى أوزار المخالفات. يشتريه المقاول ليفدي به نفسه، حيث يبقى الكحول للعقاب وينطلق المقاول للثراء. ومع الوقت صارت اللفظة هجاء يسبّ به كل «غشيم»، وعلى الرغم من انكشاف السر منذ زمن بعيد، إلا إن القانون دفن رأسه بالرمل راضياً بالمجرم البديل. أمّا الذريعة فهي غياب الدليل المادي ضد المجرم الحقيقي.
والصورة الأهمّ التي كشفتها الأزمة، هي شراء المال لكلّ ما يشتهيه. فبرأس المال يشتري المقاول كل متطلبات بنائه المادية والبشرية، وإن استعلى الضمير أمامه متمنّعاً فقد هُزم حين تعلّق الفقر بذيله يشاغله!
وَاهِمٌ هو من يظن أن الجهل وحده هو سبب آفة «الكحول». ففي اللعبة متعلمون كُثر لم ينفعهم علمهم. الجميع أمام الفقر سواسية، والمال يشتري كل الأشياء وأغلاها، «الضمير» بالمال يُشترى! هكذا تخبرنا الصور.