حراك الأمهات والدولة المنهارة في العراق

"أنا عراقية، ونِعمَ العراقيات. أنا مو جبانة ولا إيرانية ولا أجنبية. أنا عراقية وأريد حقي وحق ابني".. هذه كانت صرخة أم الشهيد إيهاب الوزني المتحدية، وهي تتحدث مع محافظ كربلاء من مكان اعتصامها من أمام محكمة كربلاء. ومثلها كانت "ثنوة"، و"أم مهند" والعشرات ممن أعلنّ في فيديوهات مؤثرة تضامنهنَّ مع السيدة.
2021-07-06

ديمة ياسين

كاتبة صحافية، من العراق


شارك
السيدة سميرة الوزني، أم ايهاب.

جلست السيدة بلاخارست، مندوبة الأمم المتحدة في العراق، بشعرها الفضي المصفف، تسحبه إلى الوراء بين حين وآخر، تمسح بمنديلها فوق شفتيها، وملامح وجهها واحمراره تدلان على أن بالها مشغولٌ بحرارة صيف العراق اللاهبة أكثر من انشغالها بما تسمع. كانت تهز برأسها بينما مترجمتها تنقل لها الكلمات الغاضبة التي وجهتها إليها عائلة الناشط المدني المغدور إيهاب الوزني، الذي أثار اغتياله التظاهرات والاحتجاجات الواسعة في عدة مدن عراقية، تحت شعار "مَن قَتلني؟"، للمطالبة بالكشف عن قتلة النشطاء والمتظاهرين.

انعدام الثقة تجاه الأمم المتحدة هو السائد في العراق منذ سنوات الحصار الاقتصادي الجائر في تسعينيات القرن الماضي، وسببه فساد صفقات "النفط مقابل الغذاء" التي أدارتها الأمم المتحدة، وأدت إلى تكوين ثروات هائلة لبعض موظفيها على حساب العراقيين الذين كانوا يتضورون جوعاً ومرضاً. ثم جاء الاحتلال الأمريكي، وازدادت أزمة الثقة بسبب مواقف الأمم المتحدة الضعيفة حيال كل ما يحدث في العراق. وفي السنوات الأخيرة، لم يكن العراقيون مرتاحين إزاء مواقف جنين بلاخارست خلال احتجاجات "تشرين 2019" وما بعدها، حيث شاعت شبهة تورطها في الفساد والرشوة ومجاملة أحزاب السلطة، خاصةً بما يتعلق بملف قتل المتظاهرين، وتغييب واغتيال النشطاء المعارضين للأحزاب، وسياسات التدخل الإيراني في العراق.

أتت زيارة بلاخارست لبيت الشهيد الوزني بعد غضب شعبي واسع ومتجدد، سببه تجاهل بعثة الأمم المتحدة محاولات والدة الشهيد التحدث مع مبعوثي الأمم المتحدة، وهم يغادرون مكان لقائهم مع قياديين في "حزب الله العراقي" وفصائل الحشد الشعبي في مدينة كربلاء. خاصةً أن ذلك اللقاء جاء بعد إطلاق سراح قاسم كريم محمود مصلح الخفاجي (المعروف بقاسم مصلح)، قائد عمليات الأنبار في قوات الحشد الشعبي، بعد أيام قليلة جداً من اعتقاله بتهمة قتل الوزني، وذلك بحجة عدم كفاية الأدلة. وعلى الرغم من أن عائلة المغدور كانت قد قدمت الكثير من الأدلة، بعض منها مصور، تثبت تورط قاسم مصلح بعملية الاغتيال.

لم يكشف عن أي من قتلة المتظاهرين والناشطين إلى يومنا هذا، ولم يجرِ أي تحقيق جدّي في الموضوع، في الوقت الذي كانت أولوية مجلس النواب العراقي أن يعمل بجدية ونشاط غريبين لإقرار قانون تعديل مادة 57 لقانون الأحوال الشخصية العراقي، ليسلب بهذا التعديل حق الأم في حضانة أطفالها في حال حصول الطلاق.

الأمهات العراقيات كنَّ حاضرات في ساحات الاحتجاجات جميعاً منذ عام 2011 وما بعده، وبالأخص احتجاجات تشرين 2019، التي شهدت حراكاً نسوياً غير مسبوق، شمل جميع الخلفيات الثقافية والاجتماعية والفئات العمرية. فتعرضت النساء المشاركات للاغتيال والخطف والتهديد والترهيب من قبل المليشيات والفصائل المسلحة. 

ومثلما فعلت قبلها السيدة شهلاء يونس، والتي عرفت بـ"أم مهند"، في إثارة قضية قتل ابنها الشاب المتظاهر مهند القيسي، وجعلها قضية رأي عام، قامت السيدة سميرة الوزني، "أم إيهاب"، بإعلان اعتصامها أمام محكمة كربلاء حتى الحصول على حق ابنها المغدور، مطالبةً بأن يكون الاعتصام فردياً، أي أنها لم تطالب بالتظاهرات المساندة لاعتصامها. لكن ما إن حاولت نصب خيمتها أمام محكمة كربلاء، بعد أن أعطت القضاء مهلة 12 يوماً للكشف عن قتلة ابنها، حتى تم الاعتداء عليها بالضرب من قبل القوات الأمنية، ومنعها من الاعتصام في محيط المحكمة. رفضت عائلة الشهيد أخذ العزاء حتى تتم محاسبة القتلة، ورفضت أم إيهاب دعوة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي للقائه في بغداد، موضحةً أنه جزء من المشكلة. فقد فشل كسلطة تنفيذية عليا في الكشف عن أي من القتلة. ثم بدأت بتشكيل حراك الأمهات، عندما ناشدت أمهات الشهداء أن يضمّن أصواتهنَّ إلى صوتها في المطالبة بالقصاص من القتلة، فتوالت رسائل التضامن المصورة من أمهات الشهداء، سواء من قُتلوا في ساحات التظاهر، أم الذي اغتيلوا خارجها على أيدي المليشيات.

تزامن ذلك مع حملات تشويه وتحريض ضد والدة إيهاب الوزني من قبل شخصيات مرتبطة بالأحزاب أو المليشيات المسلحة.

الأمهات العراقيات كنَّ حاضرات في ساحات الاحتجاجات جميعاً منذ عام 2011 و ما بعده، و بالأخص احتجاجات تشرين 2019، التي شهدت حراكاً نسوياً غير مسبوق، شمل جميع الخلفيات الثقافية والاجتماعية والفئات العمرية. فتعرضت النساء المشاركات للاغتيال والخطف والتهديد والترهيب من قبل المليشيات والفصائل المسلحة، وما زِلن إلى يومنا هذا مستمرات في المطالبة بحقوقهن وحقوق أولادهنَّ، وما زال التهديد والترهيب مستمرين.

أتت زيارة مندوبة الأمم المتحدة في العراق لبيت الشهيد الوزني بعد غضب شعبي واسع ومتجدد، سببه تجاهل بعثة الأمم المتحدة محاولات والدة الشهيد التحدث مع مبعوثي المنظمة الدولية، وهم يغادرون مكان لقائهم مع قياديين في "حزب الله العراقي" وفصائل الحشد الشعبي في مدينة كربلاء. 

في الصورة التي حملتها والدة إيهاب الوزني، كان إيهاب يقف، وخلفه صورة مرسومة لصفاء السراي الذي أطلق على نفسه اسم "ابن ثنوة". كتب صفاء واصفاً أمه بعيد المرأة العالمي عام 2018 "أمي - ثنوة - كانت تبيع المواسير والصحون وأغراضاً من البيت في نهاية التسعينيات، لتدفع قسط أخي، لأن أبي لم يكن يعلم بأنه يدرس في كلية الفنون الجميلة مسائي. الاسم الكامل: ثنوة حسن فرحان". توفيت ثنوة، التي كانت ترافق ابنها صفاء في المظاهرات، بعد صراع مع مرض السرطان، وقُتل ابنها صفاء في ساحات الاحتجاج في تشرين الأول/أكتوبر 2019، فصار هو وأمه ثنوة أيقونةً للثورة.

لم يتم الكشف عن أي من قتلة المتظاهرين والناشطين إلى يومنا هذا، ولم يجرِ أي تحقيق جدّي في الموضوع. في الوقت الذي كانت أولويات الأحزاب والسلطات الحاكمة أن يسارع جهاز الاستخبارات العراقي برفع دعوًى قضائية ضد الشهيد صفاء السراي بتهمة رمي القوات الأمنية بالحجارة، وهي القوى الأمنية ذاتها التي رمته بقنبلة غاز استقرت في جمجمته فقتلته. وأن يعمل مجلس النواب العراقي بجدية ونشاط غريبين لإقرار قانون تعديل مادة 57 لقانون الأحوال الشخصية العراقي، ليسلب بهذا التعديل حق الأم في حضانة أطفالها في حال حصول الطلاق. وتكون أولوية ممثلة الأمم المتحدة استمرار علاقاتها مع الفصائل المسلحة، والاطمئنان على سير "الانتخابات" التي تعيد تدوير وجوه الفساد والمحاصصة، بينما ترفع السيدة بلاخارست تقاريرها وتوصياتها الضعيفة في وقتٍ يعاني العراق فيه من فشل وانهيار تامين في جميع قطاعات الخدمات والأمن والاقتصاد والصحة والتعليم.

ما إن حاولتْ "أم إيهاب" نصب خيمتها أمام محكمة كربلاء، بعد أن أعطت القضاء مهلة 12 يوماً للكشف عن قتلة ابنها، حتى تمّ الاعتداء عليها بالضرب من قبل القوات الأمنية، ومنعها من الاعتصام في محيط المحكمة.

"أنا عراقية، و نِعمَ العراقيات، أنا مو جبانة ولا إيرانية ولا أجنبية، أنا عراقية وأريد حقي وحق ابني" هذه كانت صرخة أم الشهيد إيهاب الوزني المتحدية، وهي تتحدث مع محافظ كربلاء من مكان اعتصامها من أمام محكمة كربلاء. 

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

نخلات غزة تشبه نخلات العراق

ديمة ياسين 2024-02-09

يمسك الميكرفون رجل ستيني يتحدث بإنجليزية مثقلة بلكنة عربية واضحة، تشبه ثقل عناقيد التمر في نخل بلادنا، بطيئة، بل متمهلة، مثل ثمار الزيتون وهي تكبر وتعمّر في أرض فلسطين "لا...

جيل الفراق

ديمة ياسين 2023-09-14

أنا من جيل احتفل بنهاية الحرب صيف عام 1988، في شوارع ضجت بالناس والأغاني والرقص لثلاثة أيام كاملة، بعد إعلان وقف إطلاق النار. مارسنا احتفالاً آشورياً قديماً برش الماء على...