تتلهى السلطة في سوريا باستمرار بتعليق أزمتها المزمنة في إدارة البلاد بحجة "المؤامرة الكونية" التي تواجهها، لكنها وفي آن لا تكفّ عن استكشاف منابع الثراء الجديد في زمن الحرب، فتتماهى معها، وتدمجها ضمن قنوات الاقتصاد.. النظامي. ثراءٌ جديد توالد من تمكين حلقات النهب العام والفساد، متلحفاً بغياب الكهرباء وسائر المحروقات، مستسيغاً ترياق نمو التهريب العلني، ثمّ قطفت يناعته المراكز التجارية الجديدة لاحتكار السوق الداخلية، وألفَته النخب المهيّمنة على منافذ الاستيراد بفذلكات تمويله الجديدة، وباتت تنتظره المخططات التنظيمية الموعودة لإعادة الإعمار. وأيضاً ولما لا، خبرهُ تجّار الدواء ومصنّعوه المحلّيون المرابطون خلف نظرية "ما زلنا ننتج برغم الأزمة". لكن كيف يكون للدواء في سوريا سيرة ذاتية من الثراء؟
ملامح أزمة الدواء
توعّكَ سوق الدواء السوري منذ العام 2012، تشخّصت مشكلته وقتذاك بأنها واحدة من نتائج برنامج العقوبات الاقتصادية الذي فرضه الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية على سوريا. وتضمنت تلك العقوبات التحويلات المصرفية، فتوقّف تنفيذ العقود المبرمة مع شركات الأدوية الأجنبية التي مُنحت امتيازات تصنيع لبعض شركات الأدوية المحليّة. طمأنت وزارة الصحة السوريّة حينها بأن مخزون المواد الأولية اللازمة للصناعات الدوائية يكفي لغاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر من ذلك العام، وكان عليها أن تبحث مذاك عن حلّ، ففكرت ببدائلٍ منطقيّة يمكنها الاحتماء بها، والالتفاف معها حول نظام العقوبات الصارم. الخيارات المتاحة كانت قليلة، لكنّها تسدّ رمق سوق الأدوية، وتبقيه على قدميه. دول مثل الصين والهند وإيران قذفت بطوق نجاة لتأمين متطلبات سوق الدواء السوري من المواد الأولية، وبعض صنوف الأدوية، هدّأت من روع السوق المأزوم بخضّة العقوبات. لكنّ المشكلة المحسوسة بقيت تتوغّل في الواقع، وكان كافياً أن يعلن نقيب صيادلة سوريا عن فقدان 32 صنفاً دوائياً تخصّ الأمراض المزمنة وعلى رأسها السرطان، وبدائلها أيضاً، ليجسّد بذلك جانباً من المشكلة الشائكة. حاول وقتها أن يُغالبَ أحد أوجه أزمة توفير الدواء بأن يغرس في مكانٍ آخر بعض الطمأنة حين قدّر بأنّ الأدوية المصنّعة محلياً تغطّي قرابة 80 في المئة من حاجة السوق السوريّة الفعليّة للدواء، بعدما كانت تغطّي أكثر من 90 في المئة من حاجة السوق قبل العام 2011.
خلال الأعوام الماضية تمدد النقص في الأدوية النوعية المستوردة لعلاج السرطان، والأدوية الملازمة لزراعة الكلية، وذلك ما اعترفت به وزارة الصحة. لكن الوجه الآخر للمشكلة تصدت له "فارمكس" وهي الشركة الحكومية الوحيدة المخوّلة استيراد الدواء، وتتبع وزارة الاقتصاد. لم تستطع تأمين حاجة السوق من الدواء النوعي المستورد، فارتمت مجهدة على عتبة العقوبات، وارتفاع سعر الصرف، وتراخت عن قصد أو عن غير قصد، فما كان من المرضى المتمسكين بخيط الحياة الواهي إلا أن لجأوا إلى المستوردين المحليّين (العاملين في السوق السوداء) لابتياع الأدوية المفقودة، وإن بأسعار فلكية تعتصر جيوبهم بلا شفقة، وصارت المتاجرة بتلك الصنوف من الأدوية المفقودة مناسبة لتحصيل الثروة.
الحرب صدَّعت الطريق
امتدت صادرات الأدوية السورية إلى أكثر من خمسين دولة، ولكنها بقيت في المرتبة الثانية عربياً بعد الأردن حتى العام 2011. هذه المؤشرات كانت تجسدها 69 شركة تُصنِّع الدواء في البلاد، تنتج ما قيمته 350 مليون دولار بحسب أرقام اتحاد منتجي الدواء العرب، وتؤمن 12 ألف فرصة عمل في كل الاختصاصات.
تلك المعطيات، وغيرها، أطاحت بها لوثات الصراع المسلّح، وقبلاً العقوبات الاقتصادية التي تزنّرت بها البلاد مرغمة، بحيث تسمّرَ الإنتاج في العديد من معامل الأدوية، وبات الكثير من الصنوف الدوائية خارج الخدمة، كما أن حلقات نقل الدواء من الشركات المصنِّعة إلى الموزعين قنَّنتها مزاجية الطرق المرصودة بالمقاتلين وبالقصف. صار الدواء غنيمة حرب، يباع خارج مناطق سيطرة النظام بأثمانٍ تحمل بصمة الحرب، وتلك فتحت شهيّة تجار الأدوية في المناطق الشرقية والشمالية الشرقية على احتكار الدواء، ومن ثم مراكمة الربح الطفيلي المتأتي من بيعه مغلولاً إلى قيمٍ مرتفعة. بعض تجار الدواء في مناطق مثل الرقة ودير الزور لا يتوانون عن شراء الأدوية المصادرة من قبل الجيش النظامي، أو من قبل تنظيم الدولة الإسلامية، ثم يدخلونها في حلقتي الاحتكار والبيع بهامش ربح/سعرٍ عالٍ.
في حلب، قد يعتري تأمين الدواء بعض المشقّة، وأحياناً الكثير منها، تبعاً للمنطقة ولطبيعة السيطرة العسكرية عليها، ولهدوء الجبهات أو استعارها. وأحياناً تظهر أدوية بأسماء تجارية غير مألوفة، وأحياناً تأتي من مسارات التهريب مهددة بسوء التخزين والتوزيع.. وفي مناطقٍ أخرى تخضع لسيطرة المعارضة المسلّحة يتوافد الدواء التركي مغلّفاً بأسعار تفوق بكثير نظيره السوري، وأحياناً تعادل ستة أضعاف الثمن، كما حال الحقن الخاصة بمعالجة "اللشمانيا" الجلدية المعروفة هنا بـ "حبة حلب". لم تعد تلك الجغرافيا محسوبةً على أكبر معامل الدواء السورية التي استوطنت منذ عقود جنوب حلب وغربها، مثل الأوبري وأوغاريت وألفا ويونيفارما، إذ تدل المعطيات التي تقدّمها المعارضة هناك على فقدان 80 صنفاً دوائياً، بالإضافة إلى توقّف 16 معمل دواء عن الإنتاج. وهذا الرقم يتبدّل بحسب معطيات الصراع، المتبدّلة هي الاخرى، لكن الدواء هناك صار تجارة رائجة، تصبُّ في جيوب أقطابها مكاسب مضمونة.
أسعار الدواء و"تكنيك" الصعود
في شهر آذار/ مارس من هذا العام بدأت وزارة الصحة السورية ترويجاً جديداً لرفع سعر الدواء. المعطيات التي انزلقت عن لسان معاونة الوزير للشؤون الدوائية، دلّت على ذلك حينما تحدثت السيدة عن تجميد معامل الدواء في سوريا لـ20 في المئة من طاقتها الإنتاجية كنتيجة لارتفاع سعر صرف الدولار، بحيث ازدادت معه كلفة التصنيع.
غير أن تسعير الدواء في سوريا لا تقرره وزارة الصحة بمفردها. يقود تتبع خيط سعر الدواء إلى وزارة الاقتصاد التي تسعِّر الأدوية التي تستوردها عبر شركة "فارمكس"، ثم إلى وزارة الصناعة وهي تشرف على أسعار معمل "تاميكو"، فيما تتولى ووزارة الدفاع الإشراف على المنتجات الدوائية لمعمل "الديماس" وعلى أسعارها. كل تلك الوزارات تعتمد على سعر صرف الدولار كمقياس لتحديد أسعار الدواء، وما دام سعر صرف الدولار إلى ارتفاع، فمصير أسعار الأدوية وفق تلك الحجة هو الارتفاع.
وهذا ما حدث مؤخراً. رفعت السلطة في سوريا أسعار الدواء المحلّي بمقدار 50 في المئة، بعدما كانت قد عدّلت هيكل أسعار الأدوية المحليّة الصنع وزادتهُ في شهر تموز / يوليو عام 2013 ليواكب سعر صرف الدولار على أساس 61.69 ليرة. نقابة صيادلة سوريا استساغت الزيادة الأخيرة وروّجت لها. نقيب الصيادلة اعتبرها ضرورية لاستمرار معامل الأدوية السورية في مسيرة الإنتاج، وبدا متيقّناً من أنّ قيمتها بالكاد تغطّي الكلفة الفعليّة للتصنيع، ومطمئناً بأنّها كفيلة بجعل معامل الأدوية تعاود تصنيع الأصناف الدوائية التي أوقفت إنتاجها في السابق.
لم تنفع تلك الحجج بتوفير قبول لرفع سعر الدواء للمرة الثانية خلال عامين. ظهر التشكيك مجدداً في دوافع السلطة لإقرار تلك الزيادة، ففي أواخر شهر آب / أغسطس من العام الحالي، أخمدت تصريحات رئيس نقابة عمال الصحة في دمشق جذوة قرار رفع سعر الأدوية المحليّة، لأنه انبرى يدافع عن نقيض ذلك، شارحاً كيف توجد أدوية رابحة بنسبة 100 في المئة لدى أغلب معامل صناعة الدواء، وحاجج السلطة بأن صناعة الأدوية لم تخسر في سوريا خلال الأعوام الماضية حتى يتمّ رفع سعر منتجاتها، وإنما انخفضت أرباحها بنسبٍ معينة، ما دفعها إلى الضغط باتجاه إصدار قرار يرفع سعر الأدوية التي تنتجها.