ضَمِنَت المرأة المعتقلة في السجون السورية بعد حراك آذار/مارس عام 2011 واستتباعاته، مزيداً من التفكيك الآمن لمقتنيات العقائد الشمولية التي دجّنتها في حزب البعث والاتحاد العام النسائي، وقسطاً مقبولاً من تفادي تنميطها في أدوار التناسل والتدبير المنزلي داخل الأسرة البطريركية الشرقية. عليها أن تتحرك لتثبيت ذلك واقعياً حال انبثاق عقدٍ اجتماعي جديد في سوريا. فالاستطلاع الذي أنجزته مؤسسة "تومسون رويترز" عن حقوق المرأة خلال شهري آب/أغسطس، وأيلول/ سبتمبر من العام الماضي، يضع سوريا في دَرْكٍ متدنٍّ داخل الخانة التاسعة عشرة، من بين اثنتين وعشرين دولة عربية وفق معايير العنف، والحقوق الإنجابية، والمشاركة الاقتصادية، والمعاملة داخل الأسرة، ومحصلة المشاركة السياسية والاجتماعية، وأيضاً، وبالتوازي، أضاف الاستطلاع قياسات لمؤشر الحرب على حصيلة حقوق المرأة السورية، وتعرضها للإتجار، أو الزواج القسري، أو العنف الجنسي.
المعتقل عين على الداخل
جرّبت منظمة "هيومن رايتس ووتش" التمسّك بتوصيف "أسلوب ممنهج للامتهان والإذلال" في اقتصاصها اللفظي من الاعتداءات الجنسية على المعتقلات في السجون السورية. ولديها على طاولة ما وثّقته اعتداء على فتاة في الثانية عشرة من العمر. مركز توثيق الانتهاكات في سوريا عمل جاهداً في العمق، اقترب قدر ما استطاع من "سجن عدرا المركزي للنساء" وخرج بزادٍ دسم آخره في شهر آب/أغسطس من العام الفائت، وقوامه ظروف المعتقلات السياسيّات. حينها تكّلم المركز عن 140 معتقلة في جناح الإيداع المؤقت، و40 معتقلة في جناح التوقيف. المركز لم يتردد في الحديث عن "عجرفة النظام" في تحويل المعتقلات السياسيات إلى القسم الجنائي من السجن. لاحقاً يتمّ عرضهّن وإن بمجازٍ "أكروباتي" على محاكم الجنايات بتهمٍ مثل الدعارة وتعاطي المخدّرات. المركز عاد وأخرج من شذرات روايات المعتقلات صورةَ عدرا السجن/المعتقل، حيث، وعلى خلاف السجون المركزية الأخرى، لا أجهزة كهربائية فيه، ولا إمكانية لشراء الخضار أو اللحم، ولا حتى السماح بمزاولة الأعمال اليدوية من صناعة الخرز أو الصوف، مع طمس حق إجراء المكالمات الهاتفية، أو جلب الكتب للمعتقلات. أما صنوف التأديب هناك فتتراوح بين الإيداع في السجن الانفرادي مدّة طويلة، والضرب بالهراوات... وصولاً إلى الحرمان الطبي والاستشفائي.
وفي شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام 2013، تم نشر أسماء 91 معتقلة هناك. من بينهنَّ د. مي الجندي، ود. نضال عجم، والمحامية ميسر حديد التي جرى اعتقالها ثانيةً إثر الإفراج عنها في عملية التبادل مع الأسرى الإيرانيين. بينما توفيت هدى عيسى في سجن عدرا نتيجة التعذيب.
حقوقيون عديدون يُصرّون مراراً على انتفاء وجود اتهامات حقيقية لعددٍ من النساء المحتجزات. أحياناً يتم الاعتقال لمجرّد تهريب الطعام عبر الحواجز التابعة للجيش النظامي إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، أو بسبب احتفاظهنّ بمقاطع فيديو لتظاهرات مناهضة لحكم الأسد على هواتفهنّ المحمولة.
تقديرات الحقوقيين تقول بأن ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف هو العدد التقريبي للمعتقلات في كل السجون السورية، وأنّ الكثيرات منهنّ قد ماتوا جرّاء فرط التعذيب، أو لنقص الرعاية الصحية، أو اختناقاً، أو لعسف مكان الاعتقال، وهجرانه لضوء الشمس أو لدفئه.
قبلاً معتقلات العمل الشيوعي
حرص تقريرٌ نشرته صحيفة "واشنطن بوست" أواخر كانون الثاني/ يناير 2013، تحت عنوان "تطور دور المرأة السورية مع احتدام الحرب" على الاشارة الى المشاركة اللافتة للنساء بالتظاهرات المدنية خلال عام 2011، ثم تبدّل دورِهنّ إلى ما يشبه الدعم اللوجستي في تقديم الإغاثة وتوزيع الغذاء والدواء والملابس على اللاجئين، بعدما تحولت الثورة إلى نزاعٍ أهليٍّ مسلّح. التقرير خاب ظنّه في مكانٍ آخر بحجم المشاركة النسائية المتواضع في المؤتمرات السياسية الخارجية لرسم ملامح الدولة القادمة عقب انتهاء الصراع الحالي. لكن هل يمكن الركون إلى أن الحراك النسائي في سوريا كان مختزلاً في تجربة انتفاضة عام 2011؟ أم أن جذره أكثر عمقاً؟
من المفيد هنا، كما من اللائق، الإتيان على استذكار تجربة الاعتقال النسائي لدى حزب العمل الشيوعي الذي كان على يسار الحركة الشيوعية الرسمية طيلة الفترة الممتدة بين العامين 1976 و1992. اللافت أكثر كان نضوج العمل السياسي. المنتميات إلى الحزب استطعنّ نقل مطبوعات التنظيم، ورسائله، وبياناته، ونجحنّ غير مرّةٍ في توزيع مذكرةٍ تناولت أحوال المعتقلين السياسيين في سوريا حين كانت تجتمع عدّة منظمات عربية في فندق "الميرديان" بدمشق، إضافةً إلى توزيعهّن العديد من المنشورات داخل المعامل والجامعات. المرحلة الأقسى كانت ضرب التنظيم وتفكيك بنيته، وذلك استلزم حملةً شديدة الوطأة لاعتقال كل المنظّمين بصرف النظر عن جنسهم. الأفواج الأولى للمعتقلات تم إيداعهنّ في سجن الحلبوني، وخلال الثمانينات تجاوز عددهنّ المئة. التاريخ يحفظ قيامهّن بأكثر من إضراب لتحسين شروط الحياة داخل المعتقل، كما استطعن إصدار جريدةِ حائط. أواخر الثمانينيات اعتصمت زوجات وقريبات معتقلين من حزب العمل الشيوعي أمام القصر الجمهوري للسماح بزيارة المعتقلين، وفي عام 1990 جرى تهريب أول الصور لمعتقلات حزب العمل الشيوعي من سجن دوما.
المعتقلات في فكر "داعش" و"النصرة"
خارج معتقلات النظام وسجونه. تعتقل الجماعات الإسلامية المتشددة منذ صارت وازنةً على أرض الشمال السوري، النساء في منظوماتٍ سلوكية مغطّاة شرعاً بعناية، لكنها تقهر المجتمع السنّي المعتدل تاريخياً في سوريا. المحاكم الشرعية بدأت توثّق المثالب بحجّة الشرع والشريعة. في شهر تموز/يوليو من العام الماضي، منعت الجماعات المتشددة في الأحياء التي تسيطر عليها داخل حلب الملابس النسائية غير اللائقة. في الرقة تبدو صورة المرأة المعتقلة لدى فروع الفكر الأصولي أكثر صلافة. ثمة قواعد جديدة لأصول لباس المرأة، ومنعها من زيارة الطبيب الذكر وحدها، كذلك منعها من مغادرة منزلها بمفردها. المراد هنا أشبه بإعادة بعث التجربة الأفغانية، وتعميمها في سوريا الواقعة تحط إبط "داعش" و"النصرة". لذا قد يبدو الاجتماع الذي نظّمته هيئة الأمم المتحدة للمرأة مع الحكومة الهولندية منتصف كانون الثاني/ يناير من العام الحالي في جنيف حول "تعزيز مساهمة المرأة السورية في العملية السياسية" بمشاركة خمسين سوريّة بذخاً في غير محله: الضرورات على الأرض باتت مختلفة في أجندتها، وفي ذائقتها أيضاً.