لفَّتْ الخيوط على إصبع الشاهد، ثم تركتها تتدلى على إبهامها، وأمسكت بالمكوك الممتلئ بخيط من لون آخر، وحركت يديها بشكل دائري، وكأنها بيديها تشرح قصة حب مستحيلة... فشهدتُ وردة تتكون بين أناملها. صَنعت حبلا من الأزهار الملونة، خاطتها على أطراف منديل رقيق النسيج، وضعته في علبة زجاجية، ازدانت حوافها بدانتيل زهري وأحمر.هكذا ارتاحت أمي بعد يوم مرهق.
وهكذا ارتاحت كل الأمهات. لم تفلح أمي بتعليمي تطريز الأزهار، وأعلنت عن خيبتها بأن أكون يوما زوجة صالحة. لم تعرف أمي أنها ستسكن في مدينة ذكرياتي، وستكون هي أُنسي، وسأغني لها كما كتب لوركا: «في المساء تشاهدين... ارتعاشة السرو والعصافير... بينما تطرزين بكسل... حروف هجاء فوق مشبك تطريز».تذكرت لوركا عندما رأيت هيام روحانا، تحبك الورود من بقايا مناديل، وتحولها إلى قلادة، لتزين جيد العرائس الصغار بها. راقبت هيام وهي تخلط الخرز بالمعادن، وتقص قبة فستان وتحكي لي عن أن كل قطبة وكل لون يحكي حكاية: «التطريز هو مقياس حقيقي للتطور الاجتماعي والثقافي والفني الذي تمتلكه أي أمة وأي شعب، لأنه يشتمل على رموز تاريخية وزخارف تمثل العادات والتقاليد والمعتقدات الاجتماعية لدى الشعوب». من مدة ليست بعيدة، قرأت عن الممثلة ايفا لانجوريا، التي حملت حقيبة من تصميم «باليستايل» وهي دار أسستها زينة أبو شعبان وشقيقها أحمد.
وتقول زينة: «إن التطريز تم بأيادي امرأة فلسطينية، من مخيم البقعة في الأردن». عجبت من السيدة الفلسطينية الحكيمة، التي قالت عن تطريزها: «من خرم إبرة نبتت زيتونة»، إشارة منها إلى أنها استطاعت زراعة حقل زيتون بإبرتها، التي حملت باقة من ألوان تعرجت برسمٍ وشى بالمكان الذي وُلدت فيه.
تقول زينة أبو شعبان: «اللون يحكي عن الحب وعن الزواج، الأحمر هو لون المرأة المتزوجة، واللون الأزرق هو لون العزوبية». بدأتُ أراقب النساء في الأسواق، وفهمت أن نظرة واحدة من امرأة إلى أخرى تكفي لكي تعود إلى بيتها وفي ذهنها اسم عروس لابنها.لغة التطريز ليست لغة جديدة، وقميص توت عنخ آمون الذي وجد في قبره، ولفائف المومياء، وشت لعلماء الآثار بشخصيات هؤلاء، وحكت لهم عن الحيوانات التي قدسوها، أو الرموز التي خافوا منها.اخذ الإغريق التطريز من الفراعنة، وعنهم أخذها الرومان الذين كانوا أول من استخدم الإبرة المعدنية.
وأدخل الأقباط التطريز الى الكنائس، وزينوا بها لباس القسس وأبسطة الرحمة واللوحات الدينية، وقام رهبان الإمبراطورية البيزنطية بتهريب دودة الحرير في القرن السادس ميلادي.
ومع الفتح الإسلامي لمصر، ولكي يثبت المسلمون سلطانهم على البلاد، أضافوا جملا عربية تشعر بالدين الجديد، وأمروا أن يطرز اسم الخليفة والبلد التي نسج فيها القماش وتاريخ نسجه. وترتب عن هذا أن أصبح التطريز أفقيا. وجرت العادة أن تكون تولية رجال الدولة في مناصبهم مصحوبة بكسوة الشرف، وهي عادة فرعونية، أحياها النبي محمد عندما خلع رداءه على زهير بن أبي سلمى. قبل ذلك لم أنتبه للأسباب الحقيقية وراء اهتمام دولة إسرائيل بشراء المعلقات الفلسطينية والوسائد المطرزة، ولم أنتبه إلى التاريخ الذي تحكيه عن الشعوب، ولم أنتبه بأنه احتلال ضروري لحكاية تاريخ.عندما خرجت من معرض هيام روحانا الذي سمته «تشاكيل»، سكنني شعور بالزهو، لأن هناك من يعمل على حماية أصل الحكاية. وعندما استمعت الى زينة أبو شعبان، التي تعتاش مئة امرأة من دارها «باليستايل»، ذكرتني بأن أمي مصممة ماهرة كانت تعي بأن التطريز لو تعلمته فسينسق أفكاري.
(*) الجملة للشاعر الاسباني / العالمي فريدريكو غارثيا لوركا