أعاد الزلزال الاجتماعي الحاصل في المنطقة العربية، طرح الأسئلة الأساسية أمام الحركة العمالية ومنظماتها النقابية، حول دورها في المجتمع، وعلاقتها بالدولة والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى، كما حول مشاركتها في تبني الخيارات الاقتصادية والسياسات الاجتماعية، وكذلك حول هياكلها وبناها التنظيمية وأدوات عملها. فما يجري اليوم على أرض الواقع في الساحات العامة ومواقع العمل، يشكل فرصة تاريخية للحركة العمالية لاستعادة دورٍ مفقود، يعيد التوازن الاجتماعي لصالح ملايين العمال والعاملات العرب المفقرين، ليس فقط بمعنى توزيع الثروات بل بحرمانهم من أي نوع من أشكال التمثيل والمشاركة الفعلية في تقرير مستقبلهم ومستقبل بلدانهم.
السياق
تعرضت النقابات العربية، كغيرها من المنظمات والتشكيلات الاجتماعية، للضغوط والاستلاب من قبل السلطات، فرضخت وتحولت من أداة تمثيل لمصالح العمال، إلى أداة بيد الأنظمة تعمل على إسكاتهم وتدجينهم، ما أدى إلى خسارتها لثقة عمالها بسبب تخليها عن دورها وابتعادها عن الأهداف التي قامت من اجلها. وما المطالب العمالية الواسعة برفض المنظمات النقابية الرسمية القائمة وقياداتها، وانتشار تشكيل منظمات نقابية جديدة باسم «النقابات المستقلة»، تحاول تمييز نفسها عن تلك المنظمات الحكومية (بدأت بالتشكل بشكل جلي معارض للمنظمات الحكومية مع النقابة المستقلة لموظفي الضرائب العقارية في مصر العام 2009) الا محاولات لاستعادة الاعتبار لوزن ودور القوى الاجتماعية الداخلية في التأثير بنتائج التوازنات والصراعات الاجتماعية والسياسية على المستوى الوطني.
تمكنت الحركة العمالية العربية منذ نشأتها في بدايات القرن الماضي ــ مع انتشار العمل المأجور بفعل الاستعمار الغربي من جهة، ونشوء حركات سياسية تناضل من أجل الاستقلال عن المحتل، ونمو الأفكار اليسارية والقومية وتمددها في أوساط النخب الاجتماعية الناشطة من جهة أخرى ــ من التوسع في صفوف العمال في قطاعات النسيج والطباعة وصناعة التبغ والنقل، في مصر ولبنان وسوريا وفلسطين وفي قطاع النفط في كلٍ من البحرين والكويت والعراق. ودخلت ساحات النضال مبكراً على مستوى القضايا العمالية من أجل إقرار الحقوق النقابية وتحسين شروط وظروف العمل، وعلى المستوى الوطني من اجل الاستقلال. لكن معركة التحرر الوطني سرعان ما فرضت نفسها كأولوية أمام الحركة العمالية ومنظماتها النقابية المختلفة، حيث كيفت لأجلها بناها وأهدافها، وشكلت إطاراً سياسياً وتعبوياً لدعم الحركة الوطنية في بلدانها، مقدمة الشهداء.
ومع تحقيق الاستقلال، نجحت الحركة العمالية بالحصول على الاعتراف الرسمي بوجودها، حيث أقرت الدساتير العربية لدول ما بعد الاستقلال بحق التجمع للمواطنين، بما في ذلك حق تشكيل النقابات والأحزاب والجمعيات. كما أصدرت الحكومات قوانينها الخاصة لتنظيم أسواق العمل. إلا أن حذر القوى التي استلمت السلطة في الدول العربية المستقلة حديثاً من الحركة العمالية، أنتج قوانين مقيدة أو مانعة لممارسة الحق بالتنظيم وبالإضراب والتظاهر. وفرضت السلطات شروطاً تتيح لها التدخل في شؤون الحركة العمالية بما يسمح لها بتطويع النقابات القائمة، أو بإنشاء أخرى موالية لها.
احتلال فلسطين، وتهجير مئات الآلاف من مواطنيها إلى دول الجوار العربي، وما استتبع من زلازل سياسية، أوصلت نخب عسكرية جديدة إلى مواقع السلطة، رافعة شعارات بناء دولة الوحدة العربية على أسس الاشتراكية وتحرير فلسطين ــ كما حصل في مصر ثم في العراق وسوريا وليبيا واليمن والجزائر ــ وهي شعارات نالت دعماً وتعاطفاً شعبياً وعمالياً كبيرين. لكن الإجراءات التي اعتمدتها السلطات الجديدة لتثبيت أنظمتها (إعلان حالة الطوارئ، وإلغاء حق التجمع والإضراب، وحل الأحزاب والنقابات، وإسكات الأصوات المعارضة) أربك الحركة العمالية وتنظيماتها النقابية، بين مؤيد ومشكك. في المقابل، لم يكن موقف السلطات العربية الجديدة تجاه الحركة العمالية مختلفاً، وسرعان ما بدأت بعمليات الاستتباع، لضمان ولاء العمال، بما في ذلك القمع المباشر (اعدم النقابيان محمد مصطفى خميس ومحمد عبد الرحمن البقري في مصر بعد أقل من 20 يوماً من 1952)، حيث اعتبرت هذه الأنظمة الجديدة أنها تلخص «الشعب» بها وتعبر عن مصالحه. وهي استندت ايضا الى حجة أولوية القضية القومية على القضايا الاجتماعية والوطنية، تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». وفرضت هذه السلطات مساومة كرست اتفاقات أشبه بالعقود الاجتماعية الضمنية، تكفل فيها الأنظمة للعمال حقوقهم الأساسية في العمل والأجر والسكن والطبابة والتعليم المجانيين والتقاعد، مقابل رضوخهم للخيارات السياسية للسلطات، وتخليهم عن كافة أشكال الاحتجاج بما في ذلك الحق بالتنظيم. وأقرت لمنظماتهم النقابية تمثيلاً شكلياً (اعطى الدستور المصري بعد 1952 للعمال والفلاحين نسبة 50 في المئة في مجلسي الشعب والشورى كما كان الحال في سوريا والعراق بعد سيطرة حزب البعث على السلطة)، مع ضمان بعض الامتيازات والمكتسبات للقيادات النقابية. ولعب خيار الأنظمة الجديدة في اعتماد رأسمالية الدولة الاحتكارية، وقراراتها بالتأميم والإصلاح الزراعي، وتوسيع القطاع العام، دوراً أساسياً في خفض نسبة الاعتراض على التسوية داخل صفوف الحركة العمالية. وأدى النجاح الأوّلي لهذه السياسات التي حققت قفزات نوعية في الأوضاع الماديّة للشعوب العربية، من تأمين ديمومة العمل، ورفع الأجور وتحسين نوعية الخدمات العامة الأساسية، إلى القضاء على أي معارضة عمالية لتلك التسوية الضمنية، ما أعطى تبريراً «شرعياً» لتنازل القيادات النقابية عن مبادئ التنظيم وأدواره لصالح أجهزة الدولة التي نجحت لاحقاً بالإمساك بكافة أطره، وفرضت، حيث أمكن، إنشاء مركز نقابي وطني أوحد تتشكل عضويته من العاملين في القطاع العام بشكل رئيسي، ويمول من العضوية الإلزامية. كما أقرت قوانين خاصة بكل شريحة عمالية، ما أخل بوحدة الجسم الاساسي. تحوّلت المنظمات النقابية إلى جهاز بيروقراطي من أجهزة الدولة، ووسيلة للترقي في سلّم السلطة (في مصر مثلاً، ومن بين أمثلة أخرى، يتم تعيين وزير العمل من صفوف القادة النقابيين في الاتحاد النقابي الرسمي).
اختلال العقد الاجتماعي الضمني
دفعت هشاشة الاقتصادات العربية، وفشل السياسات التنموية المعتمدة، الحكومات العربية للذهاب باتجاه إصلاحات اقتصادية معاكسة لخياراتها السابقة. وعملاً بإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، أقدمت على خصخصة مؤسسات الدولة الإنتاجية، وتقليص حجم القطاع العام، وفتح الأسواق، وتحرير التجارة. واعتمدت مبدأ مرونة العمل كشرط أساسي لتثبيت النماذج الاقتصادية الجديدة، ما أدى إلى انتهاء الأمان الوظيفي، وتجميد الأجور، وتوسّع الاقتصاد غير النظامي الذي بات يحوي العدد الأكبر من العاملين بأجر المحرومين من أبسط حقوقهم. كما ارتفعت أعداد العمال المهاجرين العاملين في المنطقة العربية في ظروف أقرب إلى العبودية (يفوق عدد العمال المهاجرين العاملين في المملكة العربية السعودية وحدها التسعة ملايين عامل من جنسيات افريقية وجنوب شرق اسيوية). وكانت معالجة العجز المالي الحكومي في صلب ما سُمي بـ«الإصلاحات الهيكلية»، فتقلصت الخدمات والتقديمات العامّة وتردّت نوعية التعليم والطبابة والخدمات الأساسية الأخرى... ما أنهى في الواقع، ومن طرف واحد، العقد الاجتماعي الضمني.
شكلت الحركة النقابية الرسمية إحدى أدوات الأنظمة لتبرير وتزيين خياراتها الاقتصادية الجديدة، فحصرت مطالبها بتحسين شروط خروج العاملين في القطاع العام إلى المعاش المبكر، ضاربةً بعرض الحائط مصالح ملايين العمال والعاملات خارج أي حماية نقابية.
دفع هذا الواقع العمال، خاصة في القطاع العام والقطاعات التي تمت خصخصتها في بعض الدول العربية، إلى تشكيل نقاباتهم المستقلة خارج الإطار النقابي الرسمي. وبدأوا بالتواصل مع العمال في القطاعات غير النظامية، خاصة الفئات التي خاضت وتخوض تحركات نقابية مطلبية، لمساعدتهم على بناء تنظيماتهم النقابية، الأمر الذي ظهر كبداية جديدة للحركة النقابية العربية. إلا أن هذه المحاولة تواجَه بضغط عكسي تقوده المنظمات النقابية الحكومية.
الحركة النقابية والانتفاضات العربية
لقد أدت التحركات العمالية والشعبية إلى ارتباك في المشهد النقابي العربي. فمن جهة، أبرزت هزال وضعف الحركة النقابية الرسمية على المستويين: الاقليمي أولاً، المتمثل بـ«الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب» الذي وقف إلى جانب الأنظمة ضد الاحتجاجات الشعبية (انشئ هذا الاتحاد في دمشق في العام 1965 بمبادرة من الرئيس جمال عبد الناصر، ويضم الاتحادات النقابية العربية، ولا يعترف بالتعددية النقابية حيث يضم اتحادا نقابيا واحدا من كل دولة عربية) والوطني ثانيا، المتمثل بالاتحادات النقابية الحكومية (وقفت معظم الاتحادات النقابية العربية إلى جانب حكوماتها باستثناء نقابات تونس والبحرين). ومن جهة ثانية، برزت حركة عمالية عربية تسعى إلى تشكيل هياكلها النقابية (المستقلة) كما يحصل في مصر والأردن ولبنان الذي شهد انطلاق أوسع حركة احتجاج نقابي منذ عقود، شارك فيها للمرة الأولى موظفو القطاع العام المحرومون من حقوقهم النقابية.
التعقيد الراهن
أضاف تعقد مسيرة التغيير في بلدان الانتفاضات العربية، وعدم تبلور نتائج الصراع القائم حول طبيعة وشكل النظام الجديد، والتغييرات الاقتصادية والاجتماعية المنشودة، من حدة الارتباك العمالي، ولاسيما في ظل غياب رؤية إستراتيجية للحركة العمالية حول خياراتها الاقتصادية وآليات عملها وأدواتها، وتوجهاتها المستقبلية بعلاقتها بالسلطة وبكافة مكونات مجتمعاتها. وهذا ما أسهم بشبه الفرز الحاصل في صفوف الحركة العمالية العربية، بين المنظمات المستقلة التي تطالب بضرورة إقرار حق التنظيم النقابي لجميع العمال دون قيود، وحق الاضراب والتظاهر، وبتحسين الأجور وظروف العمل وبدولة الرعاية الاجتماعية من جهة، والنقابات الحكومية التي تبدي استعدادها، انطلاقا من شرعيتها القانونية كممثل وحيد للعمال، لتسوية جديدة مع الحكومات، بدون أي اهتمام فعلي بالمطالب العمالية من جهة ثانية.
ملامح الحركة النقابية المستقلة وتحدياتها
إن القوانين المقيدة للعمل النقابي لا تزال قائمة، وتشل من قدرة الحركة الجنينية على التوسع، في ظل رفض أصحاب العمل في القطاع الخاص الاعتراف بالنقابات المستقلة، وصعوبة العمل في الاقتصاد غير النظامي، علاوة على ضعف الموارد المادية لتلك النقابات وخبراتها التنظيمية (لذا كانت انطلاقتها مع موظفي القطاع العام أو العاملين في الشركات التي تمت خصخصتها، حيث تسنى وجود خبرات نقابية وقيادات عمالية). وما يفاقم من صعوبة المهمة أمام الحركة الناشئة، هو جزئية المطالب التي تتحرك من اجلها، والتي تخل بالتضامن بين العمال. وهذا عطب لا حل له إلا ببلورة رؤية شاملة لخيارات اقتصادية واجتماعية تنموية بديلة، بما يسمح لها بالانخراط الفعال في عملية التغيير الديمقراطي لمجتمعاتها.