كلما يقطع مواطن فلسطيني مسافة تزيد عن بضعة كيلومترات بين بيته وأماكن عمله وتسوقه وزيارته للأصدقاء أو الأقرباء، فإنه يجتاز العديد من الحدود، بعضها ظاهرة وأخرى غير مرئية. وقد اصبح ذلك جزءاً من الحياة اليومية، يكاد يُغفَل لولا الانفجارات والصدامات والتظاهرات التي تنشب من حين إلى آخر عند نقاط التماس مع الاحتلال والجيش الإسرائيلي. فالحدود في فلسطين عديدة ومتنوعة. هناك "الخط الأخضر" (خط الهدنة لعام 1949 بين إسرائيل والضفة الغربية) حيث تواجد المعابر الأمنية الإسرائيلية الكبيرة في الطرق الرئيسية، تذكرنا اليوم بذلك الخط المنسي. ثم الجدار الذي تم تشييده منذ 2002، جزئياً على الخط الأخضر وجزئياً داخل أراضي الضفة والقدس المحتلتين، بالإضافة للحدود غير المرسومة بين القدس الغربية "الإسرائيلية" والشرقية العربية المحتلة.
وداخل مغلف الجدار، هناك أيضاً حدود فعلية اتفق عليها في الخرائط في 1995 ضمن اتفاقيات أوسلو، لكنها غير ظاهرة، بين مناطق "أ" التابعة لولاية السلطة الفلسطينية مدنياً وأمنياً، ومناطق "ب" حيث تتحمل السلطة المسؤوليات المدنية بينما صلاحيات الأمن مشتركة مع إسرائيل، ووجود الشرطة الفلسطينية لا يلغي إمكانية تواجد ونشاط قوى الأمن الإسرائيلية. وأخيراً، يستوجب العبور من أية بقعة من منطقة "أ" إلى أخرى، تخطي الخطوط الفاصلة مع المناطق المسماة "ج" التي تشمل 60 في المئة من مساحة الضفة المحتلة والتي تتحكم فيها بالكامل السلطات والقوانين الإسرائيلية والمستوطنون. وحتى في أعماق مناطق "ج"، هناك حدود إضافية، عشوائية أو محددة بتواجد وتحرك المستوطنين ومعسكرات الجيش ومساحات التدريبات التي يحظر على كل فلسطيني دخولها بتاتاً (ما يمكن اعتبارها بمثابة مناطق "د").
من مفارقات هذه الحواجز التي ترسم حيز حياة كل فلسطيني، انه في نظرة المخطِط الاستعماري الإسرائيلي والمواطن الإسرائيلي على حد سواء، ليست هناك أية حدود بين البحر والنهر: جميع شبكات الطرق والطاقة والاتصالات والمياه والصرف الصحي والاستيطان البشري تمتد من عمق أراضي إسرائيل المركزية شرقاً وجنوباً وشمالاً، من دون رؤية الفلسطيني العربي المقيم فعلا هناك أو الاكتراث لاحتياجاته/ها أو تطلعاته/ها. كأن ليس لهم وجود في الوجدان الإسرائيلي، طالما أن كل تلك الحدود تقيدهم وتخفيهم، بينما يتحرك الإسرائيلي كما يشاء وأينما ومتى شاء.
مناطق "ج" المهمشة فلسطينياً ودولياً
ومع كل ما يجسده النمو الاقتصادي والعمراني والخدمي في مدن المناطق "أ" و"ب" من مثال لما يمكن تحقيقه بفضل "السلام الاقتصادي" القائم بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، فإن الحالة المعيشية والاقتصادية للـ 300 ألف مواطن فلسطيني المقيمين في مناطق "ج" تمثل شهادة دامغة لمدى الضرر الذي ألحقته اتفاقيات أوسلو بإمكانية بناء اقتصاد "وطني" فلسطيني وجعله قاعدة صلبة لإقامة دولة مستقلة ذات جدوى. وتتميز المناطق "ج" بأهمية استراتيجية كبيرة، للعديد من العوامل قوامها الحيوية اللازمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة الفلسطينية العتيدة، لعل أبرزها: أن جزءاً أساسياً منها يشكل حزام الحدود الشرقية لفلسطين التاريخية، واحتوائها على مخزون الموارد الطبيعية الفلسطينية، وتضمنها لأغلب أراضي الضفة الغربية الزراعية، وتوفيرها التواصل والربط الجغرافي، الاجتماعي والمكاني، للضفة الغربية.
أكد تقرير عام 2013 الصادر عن البنك الدولي ما تناولته تقارير دولية وفلسطينية في سنوات سابقة، بأنّ تكلفة الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية عالية جداً ولها عناصر ثابتة ومتكررة، وخاصة فيما يتعلق بما يسمى بالفرص الضائعة للنمو والاستثمار المحتمل في حال إنهاء قيود الاحتلال وبسط سيطرة الاقتصاد الفلسطيني على جميع أراضيه ومقدراته الطبيعية والبشرية والاقتصادية. ومهما اختلفت التقديرات، بين خسارة مقدرة بما يزيد عن 15 في المئة من القاعدة الإنتاجية (الأونكتاد، 2006) أو 4 - 6 مليارات دولار كلفة الاحتلال السنوي (وزارة الاقتصاد الوطني، 2010) أو تقديرات البنك الدولي بأن مناطق "ج" لوحدها يمكنها توليد 3.5 مليارات دولار (تقريبا ثلث الإنتاج القومي الفلسطيني الحالي) في حال أزيلت القيود الإسرائيلية، فإن الاستنتاج هو ذاته: السيطرة الاستعمارية الإسرائيلية هي المعيق الرئيسي للنمو الفلسطيني المستدام، والاحتلال العسكري هو المحرك الرئيسي لحالة "نكوص التنمية" الفلسطينية.
كما أن الاهتمام الذي أعربت عنه الرباعية الدولية في عام 2014 (خطة كيري الاقتصادية) بشأن احتمالات الاستثمار الخاص الدولي (بمقدار اكثر من 10 مليارات دولار خلال 10 سنوات) في القطاعات الاقتصادية الحيوية، بما في ذلك قطاعات تخص بالدرجة الأولى مناطق "ج" (زراعة، طاقة، سياحة، اتصالات)، ثم إعلان السلطة الفلسطينية في السنة نقسها عن نيتها إعداد خطة لتنظيم التدخلات التنموية في مناطق "ج" (من دون نشرها أو اعتمادها فيما بعد)، يؤكد على أهمية تلك المناطق من وجهة نظر مختلف الاتجاهات والمستويات المحلية والدولية. ولكن من شأن عدم ترجمة هذا الاهتمام المعلن إلى أفعال أن تشكل تحدياً أكبر، حيث قد يولِّد توقعات كبيرة لدى الفلسطينيين وخاصة القاطنين في تلك المناطق المهمشة، تعجز السلطة والدول المانحة والمستثمرون العالميون عن تلبيتها، وهذا ليس للمرة الأولى. بالتالي فإن هذه التقديرات النظرية والمشاريع المعهودة ستبقى على الأرجح تأملات لغدٍ افضل، ومن المهم ألاّ تحيد الأنظار عن الحاجة الملحة لتحقيق إنجازات ملموسة على الأرض اليوم لإنقاذ الوضع الاقتصادي الكارثي في مناطق "ج".
ومع أهمية اعتماد نظرة بعيدة المدى للتعامل مع هذه المناطق اليوم، فإن الأهم هو التعامل مع القضايا المصيرية المعيشة هناك، وفي مقدمتها الحفاظ على فلسطينية الأرض، وعلى مقومات وجود الإنسان الفلسطيني على هذه الأرض وصموده، والحفاظ على نمط حياته الريفية وتقاليده الاجتماعية (ما يسمى بالحيّز العرقي - ethno sphere)، والتي تشكل مجتمعة أساس البقاء البشري والمادي الفلسطيني في هذه الظروف القاسية، بل وبالرغم عنها. ولا تقتصر أهمية هذه المناطق على كونها توفر العمق الاستراتيجي لتنمية فلسطين مستقبلا، بل تشكل الخندق الأمامي في المواجهة المتواصلة مع الاحتلال، الذي لا بد من دحره لإقامة الدولة الفلسطينية.
ومن بين أهم الأضرار الناتجة عن ترسيمات الحدود الداخلية للضفة الغربية، فقدان السيطرة الفلسطينية على معظم مناطق الأغوار الفلسطينية المحاذية لنهر الأردن. تمتد مساحة الأغوار ومنطقة نهر الأردن على مساحة 1.6 مليون دونم، بما يشكل 28.8 في المئة من مساحة الضفة الغربية. وتقع 87.5 في المئة من تلك المساحة في المناطق "ج". وتمثل الأغوار المناطق الزراعية الأكثر خصوبة ـ خاصة بمميزاتها المناخية - والأوسع مساحة، فضلا عن تمتعها بمخزون من الأملاح والمعادن، وما تتميز به من جذب سياحي. يعاني سكان الأغوار، وخاصة في منقطة "ج"، من العديد من التحديات، حيث هجَّرت إسرائيل وهدمت ما يقارب ثلث تجمعاتهم السكنية، مما أدى لانعكاسات خطيرة على النسيج الاجتماعي والاقتصادي، ناهيك عن ارتفاع معدلات الفقر والبطالة بدرجة أعلى من باقي مناطق الضفة الغربية، لتسهم في تدني الأمن الغذائي للسكان. وقد حرمت السيطرة الإسرائيلية على الأراضي ومصادر المياه الفلسطينيين من استغلال الأغوار والانتفاع من خيراته الطبيعية، وحجبت بالتالي إمكانيات الاستثمار، وفرص هامة لدعم الاقتصاد الفلسطيني، وتحريك عجلة التنمية. وبالمحصلة، فإن 85.2 في المئة من مجمل مساحة الأغوار محظورة على الفلسطينيين، سكناً وبناءً ورعياً وزراعة وتنقلاً.
البقاء هو مقاومة
إن مواجهة التحديات الإستراتيجية في هذه المناطق تحتاج استدراكاً لأبرز ملامح "نموذج نكوص التنمية" الذي ولَّده الاحتلال الإسرائيلي المتواصل في هذه المناطق الخارجة فعلياً عن ولاية السلطة الوطنية، ولأهمية دور مختلف الشركاء في العمليات التنموية وقدرة كل منهم على التدخل الإيجابي والفعال في تلك المناطق، من خلال الإجماع على شعار "لا ضرر ولا ضرار". وفي خضم الأحوال المعيشية الصعبة التي تسود في هذه المناطق، فإن الحدود بين ما هو إنساني وما هو تنموي ليست دائماً واضحة، والإصرار على تحديدها ليس مجدياً بالضرورة، مما يجعل من التدخل الإنساني عملاً تنموياً بقدر ما يعزز مقومات الصمود. وفي الوقت نفسه، فلا بد للاستثمارات الإنمائية أن تحمل طابعاً إنسانياً إذا كانت ستؤسس لتنمية مستقبلية مستدامة اجتماعياً وبيئياً.
ومن هنا ينبغي أن يركز هدف المعونة الإنمائية المقدمة في أوضاع غير يقينية، وحيث النمو ليس نتيجتها المضمونة، على عدم إلحاق الضرر بما هو قائم وحيوي، والتأقلم مع البيئة الخاصة بتلك المناطق، والتوجه لإسناد وتقوية النسيج الاقتصادي والاجتماعي الحالي، من دون محاولة إحداث تغييرات بنيوية أو قانونية في ظروف متوترة وغير محسوم أمرها. كما من المهم توجيه الاستثمارات العامة والخاصة (المحلية والدولية) في مرحلة أولى في الاتجاهات التي تدعم الجدوى الاجتماعية والمصالح الحيوية الفلسطينية في تلك المناطق، قبل الشروع في البحث عن مجالات استثمارية ذات جدوى اقتصادية أو مالية ربما تستجيب أكثر للمصالح الاقتصادية الفلسطينية في مرحلة ما بعد الاستقلال.
وبرغم الصورة القاتمة للعزلة والتهميش والإهمال التي يعيشها أهالي الأغوار في مناطق "ج" خاصة، فإن هناك الأمثلة الفردية والجماعية الأهلية لقصص البقاء والتحدي التي تبشِّر بمسقبل عربي/فلسطيني لهذه المناطق المحتلة والمستوطنة. نرى ذلك في جهود ابن طوباس وبردلا رشيد صوافطه ورفاقه من الأغوار ومتضامنين دوليين في "حملة إغاثة الأغوار" الرامية إلى تأمين التدخل السريع لمساعدة المجتمعات المحلية عندما تتعرض لعمليات إسرائيلية، من هدم منازل أو تلف مزروعات أو تهجير قسري. ثم في صمود المزارع صغير القامة وكبير الحضور أبو رياض الملقب بـ "الزوبعة"، الذي يحتل تلة صغيرة مع عائلته على أراضيه في "حمصة"، يحدها حاجز الحمراء العسكري شمالاً ومستوطنة جنوباً، يتصارع مع قوات الاحتلال للحصول على المياه ولمنع مصادرة أراضيه الزراعية المحيطة. أما الشيخ "أبو صقر" (وأولاده وأحفاده الـ30) الذي يواجه بدوره حالة شح مياه الشرب والري بحلول مبدعة وجريئة، ويتحدى وجود البوابة الحديدية التي وضعتها السلطات الإسرائيلية لفصل أراضي البقيعة/الحديدية عن أصحابها وعن منطقة مستوطنة "روؤي" المجاورة، والتي تفتح في أوقات محددة ومحدودة فقط. وهؤلاء وغيرهم بالمئات من "حراس الأرض" يجسدون في بقائهم وإصرارهم على العيش بكرامة أرقى نماذج المقاومة والتنمية الفعلية على الأرض. وعلينا استخلاص العبر منهم.
.. وهذه هي البشرى السارة من قلب فلسطين.