في أعقاب الحملة التي قامت بها إسرائيل في الضفة الغربية بحثاً عن ثلاثة من المستوطنين الإسرائيليين الشباب المفقودين، واستخدمت فيها قسوة لم تُشْهَد منذ الانتفاضة الثانية، مع تكلفة يومية (أي خسارة) لاقتصاد الخليل وحده بلغت 12 مليون دولار، راحت أصوات فلسطينية متنامية تطالب بوقف «التنسيق الأمني» الإسرائيلي ـ الفلسطيني. وكانت قوات أمن السلطة الفلسطينية تنحت جانباً، في حين انتشر الجيش الإسرائيلي في مدن الضفة الغربية وقراها دون اعتبار لمناطق الولاية الأمنية الاسمية المخصصة للسلطة الفلسطينية بموجب اتفاقات أوسلو.
وكان التنسيق الأمني، منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، هو العمود الفقري في إعادة بناء أمن السلطة الفلسطينية، وذلك لضمان الأمن الداخلي، وإطلاق يد القوات الإسرائيلية للعمل كما تشاء في جميع أنحاء الأراضي المحتلة.
إنهاء التنسيق الأمني؟
يبقى الاشمئزاز الشعبي العلني من صورة هذا التنسيق والآثار المترتبة عليه أمراً مفهوماً، خصوصاً أن قواعد اشتباك السلطة الفلسطينية القائمة منذ اندلاع الانتفاضة الثانية تمنعها من حماية السكان من الإجراءات الإسرائيلية مثل الاعتقال وهدم المنازل وإطلاق النار على المتظاهرين. ولكن في جلبة المطالبة بالوقف الفوري للتنسيق، يبدو أن لا أحد، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، لديه أجندة، أو خطة بديلة، لما سيأتي في ضوء المواجهة العنيفة المحتملة مع إسرائيل، وما يعقب ذلك من انهيار في دورة الحياة «الطبيعية» وانتشار «فوضى» هي أقرب إلى ما شهدته الفصول الأخيرة من الانتفاضتين الأولى والثانية. ولا يبدو أيضاً أنَّ ثمة إدراك واضح بأنّ نهاية التنسيق الأمني تعني عملياً موت إطار أوسلو برمته نهائياً، ذلك الإطار الذي يبقى اليوم، على الرغم من سوء صيته وإدارته الإسرائيلية أحادية الجانب، إطار أمرٍ واقعٍ وقانوناً لاشتغال المؤسسات الفلسطينية والنظام السياسي الفلسطيني بأكمله. ومع ذلك، فإنَّ الانقلاب الأخير في صورة «الجاهزية لإقامة دولة فلسطينية» يطرح السؤال حول ما إذا كان أوسلو قد مات بالفعل، في حين يقتصر أمر الأطراف المعنية على انتظار اللحظة المناسبة وتوازن القوى المناسب على الأرض كي تكشف للعالم عن هذه الحقيقة.
في حين يشكّل التنسيق الأمني الآن الهدف المفضل الذي يتجه إليه النفور الشعبي من أوسلو، بدا للحظة فيما مضى أنَّ الجانب الاقتصادي من أوسلو (بروتوكول باريس الخاص بالعلاقات الاقتصادية) هو مرمى الغضب الشعبي، وذلك حين ألمّت الأزمة الاقتصادية في عام 2012 بجيوب المستهلكين.
وكانت المطالبة الشعبية بإلغاء البروتوكول أكثر منطقية من بعض النواحي، وربما أكثر جدوى من التوقعات المثيرة الحالية من سلطة فلسطينية مقيّدة بأوسلو حتى إشعار آخر. والحال، ان الانفصال الأمني عن إســـرائيل ســوف يستدعي مجموعة من التدابير الاقتصادية الإســرائيليــة أحادية الجانب التي من المرجح أن تزيد الفصل بين الاقتصادين وتفاقم بؤس مجموعة من الأسر التي تعتمد على الروابط الاقتصـــادية الحــاليـة، بمــا في ذلك 150 الفاً من موظفي السلطة الفلسطينية، ونحو 70 الفاً من العاملين في إسرائيل، وآلاف الأعمــال والصناعات الصغيرة الموجودة في أنحاء الضفة الغربية والتي تعتمد على التجارة عبر الحدود.
شروط تفكيك اوسلو
من دون إعداد وبدائل عملية لإدارة شؤون الناس، ومن دون التأكيد على شيء من التواصل الجغرافي، وإبقاء الاقتصاد واقفاً على قدميه يقاوم ضغط التدابير الانتقامية الإسرائيلية، من المنطقي أن يكون التنسيق الأمني آخر مكون يتفكك من مكونات أوسلو، إذا كان من الواجب بالفعل اتخاذ قرار وطني فلسطيني بنبذ أوسلو والبدء من جديد. كائناً ما كان الجزء الذي يجب تحديه أولاً من إطار أوسلو (الذي بلغ الآن 20 عاماً)، فإن أي تغيير (إسمي أو فعلي) لا بدّ أن يفضي إلى نتائج مهمة تطاول المجتمع بأسره. ولذلك، يحتاج تفكيك أوسلو، سواء كان تدريجاً أو دفعة واحدة، إلى إجماع ديموقراطي واسع يتحقق في إطار مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، أو ربما إلى شكل متجدد من الحكم «الوطني» الفلسطيني أشدّ تلاؤماً مع حقائق القرن الواحد والعشرين على الأرض وفي المنطقة.
هل الاقتصاد والشعب الفلسطينييّن على استعداد لدفع ثمن الانفصال، حتى لو كانت المواجهة لا تؤدي إلى انهيار عنيف للقانون والنظام؟ مهما تكن النيات والمقاصد والمظاهر، يبدو الجواب للحظةٍ كأنه أمر بسيط. لو أنَّ السلطة الفلسطينية ردّت على احتجاجات عام 2012 بالانتقال أحادي الجانب بعيداً عن البروتوكول وعبّأت الدعم الدولي وراء بزوغ اقتصاد له وظائفه السيادية التي تتعدى حدودها الحالية، لكانت بعض أجزاء البديل جاهزة الآن. لكن صنّاع القرار بدوا آنئذٍ، شأنهم اليوم، متشبثين بالوضع القائم (وتابعين له) إلى درجة أنَّه لم يكن متوقعاً أيّ قطع معه إلا من الجانب الإسرائيلي.
يحتاج الأمن الاقتصادي الوطني الفلسطيني، من زاوية استراتيجية، إلى وضع حد للهيمنة الإسرائيلية (و/أو الانفصال التجاري والمالي والنقدي). لكن تكلفة الانفصال الاقتصادي يجب أن تُحسب بدقة على مستويات مختلفة، كثير منها ليس واضحاً ولا موثّقاً، بغض النظر عن مصير التنسيق الأمني. وعلى سبيل المثال، فإن احد الروابط الاقتصادية التي جرى تجاهلها إلى حد كبير، لكنها ذات أهمية متزايدة مع إسرائيل، يمكن أن نشهده في أي سبت عندما تعبر نحو 4.500 سيارة ممتلئة بالفلسطينيين من الجليل والمثلث الشمالي (من الحائزين الهوية الإسرائيلية) الحدود إلى محافظة جنين وحدها في رحلة تسوق أسبوعي لمجموعة من السلع (مواد غذائية وملابس وسلع منزلية) والخدمات (تصليح السيارات وطب الأسنان والسياحة) التي هي أرخص هناك، بما يبلغ نحو 500 ألف دولار من المشتريات النقدية ـ هي مصروف جيب المدينة لمدة أسبوع. وثمة تدفقات مماثلة (وإن كانت أصغر) تصل نابلس وقلقيلية ورام الله وأريحا والخليل، ناهيك عن القدس، وتُقَدَّر بأكثر من 300 مليون دولار سنوياً (هي في المقام الأول مشتريات نقدية).
ومن أصل سبعة آلاف طالب في الجامعة الأمريكية في جنين، هناك 2500 طالب من فلسطينيي إسرائيل، كما أن 1500 من طالبات جامعة الخليل للفتيات هن من النقب. وفي الآونة الأخيرة عاودت مثل هذه الروابط التاريخية الظهور في شكل قوي وجديد يكذّب بعض الحكمة التقليدية حول تحبيذ الانفصال عن الاقتصاد الإسرائيلي أو ضرورته. والواقع، أن مثل هذه الأمثلة تفيد في التحديد الدقيق لمحاور التبعية للاقتصاد الإسرائيلي التي يُفَضَّل كسرها والمطالبة بالانفصال عنها، كما تفيد في تحديد سبل إعادة التواصل الاقتصادي الفلسطيني-العربي التي ينبغي أن يستهدفها التكامل.
فليلاحِظ مؤيدو حلّ الدولتين ومؤيدو حلّ الدولة الواحدة أنه، في ظل الوضع الحالي، مهما يكن تعسّر آفاق اقتصاد فلسطيني مستقل في الضفة الغربية وقطاع غزة، تبقى إعادة الاتصال بين الاقتصاد الفلسطيني في إسرائيل وذاك في الضفة الغربية أعمق وأكثر تعقيداً مما قد يُعتقَد.
وهذه الظاهرة لا تشــكل رصيداً استراتيجياً لجميع الفلسـطينيين ولآفاق بقائهم وربما ازدهارهـم من جديد في وطنهم فحسب، بل يجب أيضاً أن تأخذ مكانها على الفور في النقاش حول إيجابيات الانفصال الاقتصادي والتنسيق الأمني... وسلبياتهما.