ربما آن الأوان لنعرف ما قصة ماجدة؟ ومثلما بدأنا بها سنختم بها!
في الفجر، تغادر ماجدة مع صديقاتها الفتيات لأعمال الأرض، يتنافسن لكي يبدون أكثر أنوثة، أكثر إنجازاً للمهمات. وتلك الرحلات كانت مليئةً بالنميمة والحكايات. لقد استمعتْ منذ كانت طفلةً للقصص التي تحكي عن الحب والعلاقات المحرمة، عن المثليات اللواتي اكتفين ببعضهنَّ في ظل غياب طويل للأزواج، عرفت تفاصيل العلاقات المحرمة التي روتها فتيات مراهقات نقلاً عن فتيات أكبر سناً أو عن متزوجات نقل إليهنَّ أزواجهنَّ نميمة شبان آخرين. وكانت المواقع التي تتم فيها تلك العلاقات معروفةً لكل المراهقين والمراهقات، وللكبار أيضاً الذين كان سبق لهم أن عاشوا إما العلاقات ذاتها، أو استمعوا للنميمة ذاتها عن آخرين. وقد احتفظت الأجيال بأساطير تناقلتها عن تلك العلاقات، ولم تكن تلك القصص مرفوضةً دائماً أو مستهجنة. لقد سمعت عن فتاة حبلت بفعل الزنا، كبرت أحشاؤها، وظلت تحاول إخراج ما فيها دون استطاعة، ثم انتهى الأمر بقتل نفسها قبل أن يقتلها أهلها. لكن الفتيات يتحدثن عنها كأنها بطلة وبابتسامة حسيرة.
زفاف
29-03-2018
ثم الفتاة الأخرى التي كان الشبان يتعاركون بسببها في كل الأماكن، مصلوبين تحت الشمس اللاهبة بانتظار رؤيتها، وهي ذاتها التي وعدتهم كلهم بالزواج وأرتهم جزءاً من مفاتنها: شيئاً من ثدي مراهقة منتصب، رائحة شعر دست فيه عطر أمها في الصباح، جزءاً من ساق رفيعة انتشرت عليها شعيرات ناعمة طويلة لا تزيلها فتيات القرى البسيطات. تلك المفاتن لم تكن لتسمح لأحد بلمسها، لكنها تعدهم بالحصول عليها ما إن تكون بيوتهم جاهزة وجيوبهم ممتلئة، فيصيب الشبانَ المساكين جنونٌ مستعر، يتركون مدارسهم وعائلاتهم، ويتشاجرون مع أصدقائهم، ثم يتركون لها وعداً ويغادرون إلى المدينة مسرعين، يعملون في مجال البناء، فتحترق بشرتهم تحت أشعة الشمس، وتنسحق ظهروهم تحت ثقل الأحجار، وتتخشب كفوفهم الشابة بفعل الجفاف الذي يسببه الأسمنت، ثم انظري من فاز بها يا ماجدة؟ ابن الشيخ الذي لا قلق لديه، فوالده بنى له بيتاً ومنحه أرضاً وماشية، واشترى لها ذهباً أكثر من أي واحدة أخرى، وكان هذا هدفها منذ البداية، لكنها استمتعت باللعب على الأبرياء المغفلين الذين لاكوا حسرتهم بعيداً في المدينة.
كل الفتيات يقررن من سيكون شريكهنَّ في وقت مبكر من حياتهنَّ، لكن ماجدة كانت أقل حظاً، ولم تقرر بعد من سيكون شريكها ولم تقرر لها الفتيات. فقد تنقلن بين الخيارات، ولم تكن تلك إشارة جيدة على كل حال، لذا بدأت ماجدة بالتفكير بجدية في الموضوع منذ شاهدت الفتى المتعلم في المدينة. كانت تستظل تحت شجرة مع صديقتين لها، وهنَّ عائدات من رحلة التحطيب، ارتقى الشاب العائد من الجامعة صعوداً من الوادي نحو منزله في أعلى الجبل، وفي طريقه عبر بالفتيات، كان نظيفاً وأنيقاً وصافي البشرة مقارنة مع شبان القرية، لم ينظر في عيون الفتيات الضاحكات، فقط ألقى عليهن السلام، وكان قد أعد في يده علبة من الشوكولاته، أخرجها حين عبر بجانبهنَّ ومدها باتجاههنَّ دون أن يشير إلى واحدة.
ترددت الفتيات وتضاحكن، ثم أخيراً نهضت ماجدة، ووضعت عينيها في عينيه وهي تمد يدها لتتناول العلبة، كانت تقصد إرباكه، وفعلاً تمّ لها ما أرادت، كان مرتبكاً وزادته نظرتها ارتباكاً، لكنها هي التي لم تنجُ من نظرتها تلك، فقد ارتدت سهامها عليها ولم تمس علي. عادت إلى منزلها مشوشةً مضطربة الفؤاد، وظل فؤادها على اضطرابه إلى أن أسكته اختناقها تحت المياه.
نشأت ماجدة في ظل علاقة "غامزة" بين والديها. كان هناك دوماً غمز وكلمات غير مفهومة، تلميحات وضحكات فاجرة في الليالي. لقد عاشت الأم تجاهد في عمل لا ينتهي مع أبنائها الكثر وماشيتها وأرضها، لكنها ما إن يعود الزوج بعد شهور من الغياب في المدينة، حتى تجد وقتاً لتكون الأنثى التي يريدها الأب، يعود الأب محملاً بهداياه لها، التي لا يخصص منها شيئاً لأولاده وبناته الكثر. كانت هدايا الأم معروفةً: بخورها وعودها، حناؤها ذو الجودة الجيدة، "الدورع" الشفافة والمطرزة، أو المخمل بنثاره اللامع، زيوت الشعر ذات الرائحة الجميلة. ولم تتذكر ماجدة قط وقتاً عاد فيه والدها إلى القرية، ولم يحضر هديةً مميزة لأمها.
كل الفتيات يقررن من سيكون شريكهنَّ في وقت مبكر من حياتهنَّ، لكن ماجدة كانت أقل حظاً، ولم تقرر بعد من سيكون شريكها ولم تقرر لها الفتيات. فقد تنقلن بين الخيارات، ولم تكن تلك إشارة جيدة على كل حال، لذا بدأت ماجدة بالتفكير بجدية في الموضوع منذ شاهدت الفتى المتعلم في المدينة.
ولم تحلم ماجدة بأكثر من ذلك، ولم تتجاوز تصوراتها عن الحب والعلاقة والزواج أكثر مما تراه بين والديها. كانت شغوفةً محبة مرهفة الروح، تسعى لتكون مرئيةً بأية طريقة، لتكون محبة ولتكون محبوبة ومعبودة. لديها حنين يغرقها لتجربة شيء ما، وكانت تحس أن جسدها يتشكل بالتوازي مع روحها، فهي تعي وتحس كل شيء. إنها تتعذب من رائحة المطر بعد الأرض، تؤذي قلبها أصوات أزواج "العنصرة" التي تصنع أعشاشها على أشجار السدر، ويظل الزوجان يحومان حول بعضهما، وتختلط ألوانهما الصفراء والزرقاء مع الأوراق شديدة الخضرة. وغالباً ما كانت ماجدة تحس أن حواسها أقوى مما يجب، فهي تكاد تسمع حفيف الأعشاب إذا ما لامستها ريح خفيفة، وتكاد تحس احتكاك ريش العصافير المتغازلة، وتشتم عطر زهور أشجار "النشم" عن بعد كبير، وكانت أغاني أيوب طارش التي يجتاز صوتها الخفيض غرفة نوم والديها، في الليالي التي يكون فيها أبوها موجوداً، تزيح النوم عن عينيها، وتظل تفكر في الدلائل التي منحها إياها رجل المدينة بأهدابه الطويلة:
لقد ابتسم لها في كل مرة ابتسمت له.
لقد أهدى أخاها الأصغر كل كتبه.
لقد قبل في العيدين عزومة أبيها للغداء وصافحها مرة .
لقد قالت أمه إنه لا يخطط للبقاء في القرية، لكنه سيتزوج من القرية.
لكن الشاب لم يتعدَّ ما وراء تلك الإشارات، لم يقل شيئاً، لم يمنحها شيئاً أكيداً، وكانت تكبر وهو يسافر ويعود دون تقدم، وقررت أن تكون المبادِرة، اعترضت طريقه، بادرت بالسلام، ساعدت أمه في الحصاد، بعثت له بالضحكات، جعلت الجميع يتحدث عنهما كما لو أنها حقيقة مؤكدة.
عاشت الأم تجاهد في عمل لا ينتهي مع أبنائها الكثر وماشيتها وأرضها، لكنها ما إن يعود الزوج بعد شهور من الغياب في المدينة، حتى تجد وقتاً لتكون الأنثى التي يريدها الأب. يعود الأب محملاً بهداياه لها، التي لا يخصص منها شيئاً لأولاده وبناته الكثر.
لكنه ظل على حاله، لأنه لم يعرف، ولأنه كان أكثر جبناً من أن يقوم بأي مبادرة، أو يصدق أنه يمكن أن يكون محبوباً..
لم تدرك هي أن الجميع، كل الجميع ما عداه هو، كانوا يعرفون أنها تطارده لأنها تحبه. وكما يحدث في مجتمعاتنا، فإن الإشاعات التي تتعلق بالفتيات العازبات تسفر عن كارثة لا محالة، تبدأ من: "منحته ضحكتها وسلامها على الطريق العام"، وتتدحرج متضخمةً لتصل إلى: "كانا معاً لوحدهما تحت العريشة في الجبل، وقد رأتهما فلانة بنت فلان بأم عينيها".
وهذا ما حدث لماجدة سيئة الحظ. محاولاتها المستميتة للفت نظر الشاب الجامعي، عُرفت وجرى تداولها، فوصلت لخالتها وإخوتها أكبر بكثير من حجمها الأصلي، حبستها الخالة مع الأم في غرفة وبدأن استجوابها. بكت وأقسمت أغلظ الأيمان، لكنها لم تنكر أنها تحبه. وحين لم تنكر، لم تصدق المرأتان ما قيل لا من قبل ولا من بعد.
الفتاة صاحبة أكبر "لا"!
08-03-2019
نون نسوة
13-03-2018
قررت الخالة أنه لا بد من فحص عذرية البنت: ماذا لو جاءها عريس ولم تكن فعلاً عذراء؟ هل تتذكرين فلانة بنت فلان وكيف أعادها عريسها في ليلة الزواج؟ بكت الفتاة حتى جفت المآقي، توسلت، لكن النسوة لم يستمعن إليها، كرهت محبتها وكرهت حياتها، ذكرى خالتها وهي بين ساقيها ويدها تعبث بفرجها تثير اشمئزازها وكراهيتها لأمها التي لم تعترض على حديث الخالة، وكان هناك شيء من أمل إلى أن صرّحت الخالة بأنها ستزوجها ابنها البدين.
الشقية، قبل كل ذلك وفي حينه، كانت تحلم باللحظة التي ستصل فيها أم الشاب الجامعي إلى منزلها، ستخبر أمها بأنها تريد ماجدة لابنها. انتظرت بصبر وبأمل، راقبت بشكل محموم الطريق من بيت الجبل إلى منزلها، وحين يئست، ذهبت إلى واحدة من بنات أخواته، طلبت منها صراحة أن تتحدث إلى خالها وتطلب منه المجيء إلى منزلها، وإلا، سيزوجونها لابن خالتها.
كانت متأكدة أنه يحبها..
لم تدرك هي أن الجميع، كل الجميع ما عداه هو، كانوا يعرفون أنها تطارده لأنها تحبه. وكما يحدث في مجتمعاتنا، فإن الإشاعات التي تتعلق بالفتيات العازبات تسفر عن كارثة لا محالة، تبدأ من: "منحته ضحكتها وسلامها على الطريق العام"، وتتدحرج متضخمةً لتصل إلى: "كانا معاً لوحدهما تحت العريشة في الجبل، وقد رأتهما فلانة بنت فلان بأم عينيها".
ذهبت ابنة الأخت وقالت لأمها، وذهبت الأم واستفسرت من أمها، وانطلقت الأم الكبيرة، ولكزت ابنها وسألته ما الذي وعد به الفتاة؟
- أنا؟ اندهش "علي" ببراءة، أقسم لا شيء!
- صبية مهووسة.. علقت الأم الكبيرة، ثم قالت للابنة أن علي لا يريد الفتاة، وقالت الابنة للحفيدة:
- أخبريها أن خالك "علي" سيتزوج زميلته في الجامعة، وهي من المدينة ومتعلمة مثله..
ربما لو كانت الأم قالت لعلي الحكاية كلها، لكان علي تصرف بشكل مختلف..
ربما لو كانت الابنة لم تخبر الحفيدة، والحفيدة لم تنقل الكذبة كما هي لماجدة، لكانت ماجدة تأنت في قرارها.
ربما لو كانت ماجدة انتظرت قبل أن تطلب طلبها من الحفيدة لكان شيء ما تغير.
ربما لو لم تكن الشائعات تنتقل، والخالات يفحصن العذرية، ولو كان الإخوة أكثر حناناً وتفهماً وكانت الأمهات أقوى، ولو أخذت الجدات تهديدات الحفيدات بقتل أنفسهنَّ على محمل الجد، ربما ما كانت ماجدة وصلت للنتيجة التي مفادها: ما جدوى حياتي إن لم تكن كما أحب ومع من أحببت؟ ما جدواها حياتي إن لم أكن أمتلكها؟ ما جدواها حياتي وهي في أيدي الآخرين؟
ذهبت ماجدة في اليوم التالي في الغبش الباكر إلى الخزان الكبير، وكما هي العادة بأن تجلب الماء صباحاً، ارتدت فستانها، ضمت شعرها تحت حجابها، نظرت لنفسها في المرآة، وهي توجه ضوء الكشاف نحو وجهها في الغرفة المظلمة، امتلأت عيناها بالدموع، لكنها عادت وتخلت عن فكرة البكاء، نظرت إلى أخواتها اللائي كنَّ نائمات، قبّلت الصغيرة منهنَّ، وكانت تحبها بشكل خاص، ومضت كما تمضي دوماً: بهدوء..
بكت في البداية خائفة ومترددة، لكنها أعادت ذكرى خالتها بين ساقيها، فاجتاحتها المهانة والغضب، وطأت بقدمها الدرجة الأولى فلسعتها برودة المياه، وحين وضعتها في الثانية كانت تعتقد أنها ستسيطر على توازنها وتمضي نزولاً في الدرجات المغمورة بالماء، لكن ذلك كان خطأ، فما إن وضعت قدمها الأخرى حتى انزلقت بفعل الطين الناعم وفقدت توازنها.
ربما لو لم تكن الشائعات تنتقل، والخالات يفحصن العذرية، ولو كان الإخوة أكثر حناناً وتفهماً، وكانت الأمهات أقوى، ولو أخذت الجدات تهديدات الحفيدات بقتل أنفسهنَّ على محمل الجد، ربما ما كانت ماجدة وصلت للنتيجة: ما جدوى حياتي إن لم تكن كما أحب ومع من أحببت؟ ما جدواها، حياتي، إن لم أكن أمتلكها؟ ما جدواها حياتي وهي في أيدي الآخرين؟
هوت نحو الخلف وقبل أن يرتطم رأسها بالدرجة غير المغمورة بالماء، كان جسدها يمضي نحو الأمام بسبب جاذبية المياه، هوت ببطء متخبطةً بوهن، كان المكان مظلماً بارداً ومرعباً، تداخلت الأفكار والذكريات في رأسها، رأت نفسها صغيرة، ورأت أباها وأختها الصغيرة وجدتها، لكنها لم ترَ "علي".
في لحظاتها الأخيرة، أحست ماجدة بالشفقة على نفسها، أحست بالأسى العميق، ها هي تموت شابةً صغيرة، لم يتحقق شيء من أحلامها. لقد اتخذت قرارها ولم يعد هناك من رجوع، وفي لحظة أخيرة، وبشكل غير واضح في اللاوعي تمنّت ماجدة لعلي أن يشقى، وألا يسعد..
موت
06-06-2019
نادية
14-06-2019
علي
27-06-2019
سلمى
18-07-2019
نادية: إكتشافات ما بعد الظهيرة
26-07-2019
علي: القصص الأخرى
08-08-2019
سلمى، ليالي الحب والحرب
16-08-2019
لقاء نادية بسلمى
29-08-2019
علي: البحث عن أسير
12-09-2019
سلمى: بهجة الحكاية
21-11-2019
نادية وطائر الموت
12-12-2019
حرائق
09-01-2020
سلمى: في حضرة الحقائق
01-02-2020
نادية: أشياءٌ لا تُحكى
14-02-2020
على الطريق الى الريحان
27-03-2020
سلمى: بؤس الصفيح
09-04-2020
مطر
08-05-2020
عليّ: جزء من حقيقة
06-11-2020
سلمى: وحيدة في الحديقة
04-12-2020
رحلة الجثث العائدة
07-01-2021
الوباء الذي يفرج عن المعتقلين!
25-02-2021
الإفراج عن مومياء
04-03-2021
جنود بالأمر!
25-03-2021