هل ما زالت الطبقة الوسطى في مصر موجودة أم أنها تآكلت؟ هذا السؤال يشغل ليس المتخصصين أو المهتمين بالثقافة فحسب، بل المواطن العادي منذ «ثورة 25 يناير»، على اعتبار أنها ثورة شباب الطبقة الوسطى ذوي التعليم الجيد في المدارس الخاصة.
التعليم أم الطبقة أولاً؟
الطبقة الوسطى في مصر موجودة ولكنها مفككة ومتآكلة. قد ترجع بداية الانهيار إلى منتصف سبعينيات القرن العشرين، مع سياسات الانفتاح الاقتصادي التي قررها السادات. وتعزز ذلك في أوائل التسعينيات بدخول الاتفاق مع صندوق النقد الدولي إلى حيز التنفيذ، ثم بتولي الليبرالية الجديدة حكم الاقتصاد المصري في أوائل الألفية الحالية، وهو ما نتج عنه انحدار فئات من الطبقة الوسطى إلى فئة الفقراء، الذين وصلت نسبتهم طبقاً للإحصاء الأخير إلى ما يقرب من 32 في المئة من إجمالي عدد السكان.
وعلى كثرة الدراسات التي تخصّ الطبقة الوسطى بأحوالها الثقافية والاقتصادية، فإن هناك ندرة بما يخصّ التعليم وأنماط التعلّم داخلها وأنواعه وعدد طلابها وتصنيفهم وعدد مدارسهم.. مع الأخذ بالاعتبار أن الفرضية الرئيسة في تشكيل وتعريف الطبقة الوسطى هي أنها تكوّنت مع بداية التعليم المدني الحديث الذي يؤرخ له بحكم محمد علي قبل مئتي عام.
استمرت مجانية التعليم لأكثر من 80 عاماً، حتى جاء الاحتلال الانجليزي عند نهاية القرن التاسع عشر وقلصها وقصرها على الكتاتيب والمدارس الأولية.
وحدثت زيادة طفيفة في شريحة الطبقة الوسطى مع افتتاح الجامعة المصرية بالاكتتاب الشعبي. ولكن الطفرة الحقيقية لم تحدث إلا في عهد عبد الناصر، بفعل تعميم التعليم المجاني الجيد للجميع، حيث أصبحت المدرسة الحكومية هي الأساس على الرغم من وجود التعليم الخاص الذي أنشأه الاحتلال الانجليزي والذي ظلت نسبته ضئيلة لا تتجاوز 4 في المئة في مرحلة التعليم قبل الجامعي، وتنعدم نهائياً في هذا، باستثناء الجامعة الأميركية بالقاهرة، التي كان ينظر إليها على أنها أقل مكانة علمية، وتقبل الأغنياء ذوي المستوى العلمي الضعيف.
الانقسام..
المهم هو تحليل وربط هذه المقدمات التاريخية بما يحدث الآن. فقد امتدت سياسة الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات الى التعليم بتحويل عدد من المدارس الحكومية المجانية في المناطق التي تسكنها الطبقة الوسطى، مثل مصر الجديدة ووسط البلد والدقي.. إلى «مدارس لغات» حكومية. وكانت الحجة تلبية احتياجات سوق العمل والانفتاح على العالم وتوفير المناخ للشركات العالمية. وبدأت التجربة بخمس مدارس ذات كلفة قليلة، ثم تضاعفت أعدادها بنهاية السبعينيات من القرن الماضي على حساب المدارس العامة. وبهذا وضعت أول بذرة لانقسام التعليم الرسمي وازدواجيته، وبدأ ما يمكن تسميته خصخصة التعليم برعاية الدولة. بالمقابل، حينما وجد القطاع الخاص هذا المناخ، سارع بدوره لتحويل عدد من مدارسه إلى التدريس باللغات الأجنبية. وقرب نهاية السبعينيات، أدخلت لأول مرة الشهادة الانجليزية إلى السوق التعليمي، واستقطبت الكثير من أبناء المسئولين الكبار وأبناء الطبقة الجديدة التي استفادت من سياسة الانفتاح الاقتصادي. كما استطاعت هذه الفئات عن طريق علاقاتها أن تمرّر الموافقة على قبول هؤلاء الطلاب في الجامعات الحكومية المجانية وليس فقط في الجامعة الأميركية. ومن المعروف أن ذلك هو حال عدد من أبناء رئيسي مصر السادات ومبارك.
استمرت السياسات نفسها في السنوات العشر الأولى لحكم مبارك، مع مزيد من التوسع في تحويل المدارس الحكومية إلى «الخصخصة باللغات»، في ظل عدم توفير الموازنات الكافية أو حتى الحد الأدنى منها للتعليم الحكومي المجاني.
ثم فوجئ المصريون في نهاية الثمانينيات بموافقة الحكومة على اقتراح وزير تعليمها (فتحي سرور الذي تمّت مكافأته بعدها بتولي منصب رئيس مجلس الشعب)، بضرورة إلغاء سنة دراسية كاملة من السلم التعليمي بحجة عدم توفر الاعتمادات المالية. وأدى ذلك إلى زيادة الضغط على الطبقة الوسطى لإخراج أبنائها الى «التعليم بمصروفات (اقساط)»، سواء الحكومي أو الخاص، لتصبح أعداد المدارس الحكومية الخاصة (يطلق عليها «التجريبي») أكثر من 100 مدرسة تضم أكثر من نصف مليون طالب. ثم حدث تطور هام آخر، تحديداً عقب حرب الخليج الأولى، حيث تم توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي لافتتاح أول مدرسة دولية أميركية في القاهرة، ليصبح لدينا مع بداية الألفية ثلاثة نماذج تعليمية لأبناء الطبقة الوسطى: «الخاص عربي» ونسبتهم فيها لا تقلّ عن 50 في المئة من شريحة طلاب المدارس الخاصة، وإجمالي عددهم يصل إلى مليون ونصف تلميذ، بنسبة تقترب من 12 في المئة من عدد الطلاب الإجمالي في البلاد، و«الخاص لغات» و«الحكومي لغات»(40 في المئة)، وحوالي 9 في المئة يدرسون «المناهج الأجنبية» بالكامل، وهم حوالي مليون آخر من إجمالي أعداد الطلبة.
لوحة فسيفسائية
التحوّل الأكبر في خريطة التعليم المصري بدأ منذ العام 2004، مع الظهور الرسمي لجمال مبارك ومجموعته. فكانت أولى قراراتهم هي الاعتراف بتدني مستوى «المدارس الحكومية للغات بمصروفات» (وليس التعليم المجاني!!)، ولذلك أنشأوا «مدارس المستقبل» على اسم جمعية جمال مبارك، وهي مدارس لغات حكومية أيضاً ولكن بمصروفات أعلى بكثير. ولما لم تنجح التجربة بعد عامين من التطبيق، تركوها وأنشأوا «المدارس الحكومية المتميزة للغات» بأقساط تجاوزت الـ500 دولار سنوياً. ولما لم تنجح كل هذه التجارب، تمّ التحول النهائي العام 2009 إلى إنشاء الحكومة لمدارس تدرس بالأجنبية المناهج الانجليزية وليس الوطنية. خمس مدارس حكومية في المحافظات اقساطها بين 1300- 2000 دولار سنوياً.
وكانت الحجة بأن الطبقة الوسطى لا تستطيع توفير التعليم الأجنبي الكامل لأبنائها، ولا بدّ من توفير الدعم لهم، ولكن هذه المرة بالابتعاد تماماً عن التعليم الوطني. وكان القطاع الخاص قد سبق وحوّل أغلب مدارسه الكبيرة إلى التعليم الأجنبي شكلاً ومضموناً، ووصلت الاقساط السنوية الى ما بين 4 و5 آلاف دولار أميركي، لتصبح الخريطة قرب نهاية عصر مبارك تشمل حوالي 260 مدرسة دولية تضم أكثر من نصف مليون طالب يمثلون الشريحة الأعلى من الطبقة الوسطى.
7 ملايين طالب
ارتفعت أعداد هذه المدارس لتصل هذا العام إلى حوالي 300 مدرسة دولية طبقاً لأرقام «جمعية أصحاب المدارس الخاصة»، مع ارتفاع في اقساطها وصل إلى حوالي 6 آلاف دولار للشهادات الانجليزية والأميركية.
كما زاد عدد طلابها عن 700 ألف طالب من إجمالي 2 مليون طالب مسجلين بالمدارس الخاصة. وإذا أضفنا إلى ذلك الرقم حوالي 800 مدرسة «حكومية لغات» بأنواعها الثلاثة، وبمتوسط 4 آلاف طالب طبقاً لأرقام مسئولة التعليم التجريبي، يصبح إجمالي العدد أكثر من 3 ملايين طالب.. بجانب المدارس الخاصة المؤممة في عهد عبد الناصر وعددها 40 مدرسة، ومئات المدارس المسيحية الخاصة. وبذلك تصبح خريطة الطبقة الوسطى الآن تدور حول رقم 7 ملايين تلميذ، أي حوالي ما يقرب من 35 في المئة من إجمالي عدد الطلاب البالغ حوالي 17 مليون طالب. كما تتميز خريطة الطبقة الوسطى في التعليم بانقسامها من الداخل إلى شرائح العليا وتبلغ أكثر قليلاً من مليون طالب، وفي الوسط هناك حوالي 3 ملايين طالب، أما الطبقة المتوسطة الدنيا ففيها كذلك حوالي 3 ملايين طالب. ولم نتحدث بعد أو نشير إلى التعليم الخاص الأزهري والذي طبق أيضاً مع وصول الليبرالية الجديدة إلى الحكم..
نستنتج من ذلك أن أكثر من نصف طلاب مصر يدفعون نفقات تعليمهم. والنصف الآخر في المدارس المجانية يدفع التكلفة أيضاً من خلال الدروس الخصوصية التي أصبحت شبه إجبارية للجميع. أما ال32 في المئة (من مجمل السكان، وهم الفقراء)، فيتسربون خارج المدارس منذ المرحلة الابتدائية. ويتمّ كل ذلك على الرغم من وجود النص عن مجانية التعليم بالدستور منذ سبعينيات القرن الماضي!