منذ استئناف المظاهرات الأسبوعية في المدن الجزائرية يوم 19 شباط / فبراير 2021، بمناسبة الذكرى الثانية لاندلاع "الحراك"، شاهدنا في وسائل الإعلام الجزائرية - جميعها خاضعة لسيطرة النظام - كيف تزايدت التحليلات التي تزعم في جوهرها أنه قد تمّ تحويل وجهة الحراك الأصلي لصالح "حراك جديد" تؤججه وتتلاعب به "قوًى ظلامية". ومن بين الفاعلين المحتملين في هذه "الثورة المضادة التي تريد إجهاض الحراك من الداخل" - حسب عبارة ملاحظ ناقد(1) - نجد في الصف الأول حركة "رشاد" التي يتم تصويرها بشكل مضلل كإعادة إحياء للجبهة الإسلامية للإنقاذ (2)، أو بشكل أكثر ضبابية، كمجموعة "عملاء" مفترضين للخارج.
بالنسبة للغالبية العظمى من المتظاهرين، فإن حملة البروباغندا هذه – التي تلقفتها بشكل أو بآخر وسائل الإعلام الباريسية - هي الصنيعة المباشرة لمختبر التضليل الإعلامي التابع للشرطة السياسية. لا عجب إذاً في الرواج الكبير الذي تلقاه هذه الأطروحة خاصة لدى الصحافة، أو الأحزاب السياسية الزائفة التي تشكل الواجهة المدنية لنظام ذي طبيعة عسكرية مفضوحة بشكل لا يمكن إنكاره. وهذا الأمر يدخل في "دفتر الشروط" الذي يضبط عمل هذه الهيئات، الصحافية والسياسية، وهي في نهاية المطاف الذراع الاتصالي للشرطة السياسية (3). لكن ما يثير التعجب هو تبني وبث هذه البروباغندا، مع بعض التحوير طبعاً، من قبل شخصيات عرفت إلى حد الآن بحفاظها على مسافة واضحة من النظام.
السلطة الجزائرية في مواجهة حراك 2019-2020
08-10-2020
الحراك الجزائري في زمن الحجر الصحي
06-11-2020
ولكي نحاول تبديد ضباب الأخبار المضللة والزائفة التي تبثها أجهزة التأثير النفسي، فإن أحسن وسيلة بلا شك هي الإصغاء بانتباه لشعارات متظاهري الجمعة في الأسابيع الأخيرة. ما تردده عشرات آلاف الحناجر بالعربية المحكية الجزائرية ("الدارجة") أو الفصحى أو بالفرنسية، وأحياناً بمزيج من اللغتين، مثقل بالمعاني السياسية. وكما درجت عليه الأمور منذ بداية التحركات في شباط/فبراير 2019، فإن هذه الشعارات تعبّر، بشكل حماسي في أغلب الأحيان، عن نقد ثاقب للنظام، وتقترح الحل لتجاوز المأزق السياسي الراهن. لكن هذا الأسلوب الاتصالي الناجع لا يروق بالتأكيد للمستهدفين أو للذين همشهم الحراك. تثير شعارات الجمعة الكثير من ردود الفعل الحادة ومعركة تأويلية منسّقة بشكل جلي.
"مخابرات إرهابية، تسقط المافيا العسكرية"
شعار "مخابرات إرهابية، تسقط المافيا العسكرية" هو الأكثر إثارةً للجدل. يعتبر منتقدو هذا الشعار أنه يعبّر عن هجوم ممنهج على الجيش وأجهزته الاستخباراتية، مما يمس مباشرة بسيادة البلاد. ما مدى صحة هذا القول؟ كما تُظهر ذلك شعارات ولافتات ولوحات أخرى، فإن الأمر يتعلق طبعاً بأمر مغاير تماماً: "إرهاب" الشرطة السياسية هو قبل كل شيء العنف الرهيب الذي سلطه قادتها وقادة الجيش ضد المدنيين بعد انقلاب كانون الثاني/يناير 1992، وحتى بداية سنوات 2000، وكان ثمنه عشرات آلاف القتلى والمفقودين. أما المقصود بالمافيا العسكرية فهي تلك التي تديرها قيادة عليا كانت قد استعملت الأساليب نفسها التي لجأ إليها الجيش الفرنسي ضد الجزائريين المناضلين من أجل استقلالهم. من الواضح أن هذه هي الإحالات المرجعية التي كانت حاضرةً في أذهان المتظاهرين عندما نددوا مؤخراً بممارسات التعذيب التي سلطت على شبان اعتقلتهم "قوى الأمن"(4). لا شك لدى هؤلاء المتظاهرين في أن الممارسات الموروثة عن الجنرالين "ماسو" و"بيجار" (5)قد أعيد إحياؤها من قبل المخابرات (الشرطة السياسية السرية للجيش) (6) منذ وقت طويل: إذلال، تعرية الأجساد، شتائم، اغتصاب وصدمات كهربائية (استبدلت مولدات الكهرباء المحمولة، الضخمة والمزعجة، بالمسدس الصاعق "تيزر" الأكثر عملية وسهولة في الاستعمال). حلّ "مركز عنتر"، وهو ثكنة للشرطة العسكرية السياسية السرية تقع في مرتفعات العاصمة الجزائرية، مكان "فيلا سوزيني" (7) الاستعمارية سيئة الذكر.
الرسالة وصلت، وبشكل موجع في بعض الحلقات. لم يعد بوسع الشبكات الزبائنية للديكتاتورية - المتحفّزة والمنزعجة أصلاً من شعار "دولة مدنية ماشي عسكرية" (دولة مدنية لا عسكرية) - أن تسكت، معتبرةً أن نقطة اللاعودة قد اجتيزت. بعض الأصوات التي كانت في السابق أكثر ميلاً لنقد المنظومة صارت تدير ظهرها للحراك بشكل واضح. في واقع الأمر، تجد هذه الأوساط نفسها أمام معضلة مستعصية: كيف يمكنها أن تستمر في زعمها دعم الحراك، وفي الوقت نفسه أن تنسي الناس صمتها خلال عقد التسعينيات الفائت، عندما كان التعذيب في "مركز عنتر" نفسه يجري على قدم وساق؟ أصبح الأمر أكثر فأكثر صعوبةً على الكثيرين ممن يسعون إلى الإبقاء على موقعهم الضبابي، محاولين الحفاظ على قدم في الحراك وأخرى في النظام، كما كان عليه الأمر إلى حد قريب.
"إرهاب الشرطة السياسية" هو قبل كل شيء العنف الرهيب الذي سلّطه قادتها، وقادة الجيش ضد المدنيين بعد انقلاب كانون الثاني/يناير 1992، وحتى بداية سنوات 2000، وكان ثمنه عشرات آلاف القتلى والمفقودين.
إلاّ أن التدابير والخطوات المضادة التي تنفذها أجهزة الإعلام الرسمية وغير الرسمية تلاقي أصلاً صعوبةً شديدة في إيجاد من يصغي لها. النظام الذي تنقصه الحجج والموارد الفكرية (8) بشكل جلي، تتوفر لديه مع ذلك آلة إعلامية ضخمة وأقلام مأجورة مرجعها الأبرز هو الكيفية التي أديرت بها حملات بروباغندا "الحرب القذرة" في عقد التسعينيات الفائت. وفي الوقت المناسب تمت إعادة الحياة إلى الفزاعة الإسلامية التي طالما استعملت للتعمية على أسباب ونتائج انقلاب 11 كانون الثاني/ يناير 1992. كما يشكل الخطاب التبريري للجنرالات "الينايريين" (9) – الذين يستردون تدريجياً نفوذهم في قمة أجهزة الدولة منذ وفاة رئيس الأركان السابق أحمد قايد صالح في كانون الأول/ ديسمبر 2019 - قاعدةً يستند إليها دعاة تكميم أفواه الأصوات المتمردة، واستئصال كل المعارضات المناهضة للديكتاتورية - وعلى رأسها الحركات الإسلامية ولكنها ليست الوحيدة.
"لا إسلامية ولا علمانية، هناك عصابة واحدة تسرق علانية"
تصوير الأمور وكأن الحراك قد تم تجييره لصالح الإسلاميين هو إذاً محور البروباغندا المهزوز، الذي اختير في ظل غياب بدائل أخرى لنزع المصداقية عن الحراك الشعبي وتشويهه. ويهدف هذا الاختيار أيضاً لاستجلاب الدعم الخارجي الضروري، في حال اللجوء إلى استراتيجية القمع الوحشي لهذه التعبئة الشعبية العميقة والسلمية جداً. وتعتبر حركة "رشاد"، التي يحظى متحدثون باسمها بشعبية في مواقع التواصل الاجتماعي، المستهدفَ الأساسي من هذه الحملة التي تندد بـ"أسلمة" مزعومة للحراك. تضم هذه الحركة جامعيين انتمى بعضهم إلى "جبهة الإنقاذ الإسلامي" أو كانوا مقربين جداً منها، وتقدّم نفسها كـ"حركة شعبية جزائرية قومية وديمقراطية تناضل من أجل التغيير السلمي لنظام الحكم في الجزائر" (10) ، دون أي إشارة لأي واحدة من تفريعات الإسلام السياسي.
لكن بروباغندا النظام المنهمكة في حملة التشويه لا تزعج نفسها بالفروقات، إذ تصوّر "رشاد" كمحرك رئيسي (رفقة "اليد الأجنبية") للحراك، وكذلك كشجيرة منبثقة من الشجرة الأم "جبهة الإنقاذ الإسلامي". وهكذا لم تبقَ إلا خطوة واحدة حتى يتم تصوير صنّاع فيديوهات "يوتيوب" (11) يحظون بشعبية كبيرة، كمحرضين ودعاة إسلاميين يروجون الشعارات الأكثر تطرفاً.. خطوةٌ لم يتردد البعض في قطعها. ولا يهم إن كانت أصوات المتظاهرين تصدح عالياً كل جمعة لتكذيب هذه الادعاءات الزائفة عبر ترديد هذا الشعار: "لا إسلامي، لا علماني، كاين عصابة تسرق عيناني" (لا إسلامية ولا علمانية، هناك عصابة واحدة تسرق علانية).
"المافيا العسكرية" تديرها قيادة عليا كانت قد استعملت الأساليب نفسها التي لجأ إليها الجيش الفرنسي ضد الجزائريين المناضلين من أجل استقلالهم. من الواضح أن هذه هي الإحالات المرجعية الحاضرة في أذهان المتظاهرين عندما نددوا مؤخراً بممارسات التعذيب التي سلطت على شبان اعتقلتهم "قوى الأمن". "مركز عنتر"، ثكنة للشرطة العسكرية السياسية السرية مكان "فيلا سوزيني" الاستعمارية سيئة الذكر!
وعلى الرغم من كون رواية أجهزة البروباغندا لا تتردد في فضح "الزواف" (12) باسم انتمائها إلى "الباديسية-النوفمبرية" (13)، فإنّها تتجاهل الثراء والعمق السياسيين للحراك الشعبي. في الواقع، وإن كان الحراك حاسماً في مناهضته للديكتاتورية وتوقه إلى التحرر الديمقراطي، فهو أبعد ما يكون عن فقدان الذاكرة والتيه. تعكس مكوناته تنوع المجتمع، وتشهد مشاركة المناضلين الأكبر سناً وفق انتماءات معلنة في أغلب الأحيان. التيارات السياسية التاريخية التي كانت وراء تأسيس "جبهة التحرير الوطني" الثورية (1954-1962) ممثلةٌ بشكل واسع فيه. نجد بكل وضوح حساسيات قريبة جداً من "حزب الشعب الجزائري- حركة الانتصار للحريات الديمقراطية" (14) المناهض للاستعمار، والبروليتاري، والمدافع عن العدالة الاجتماعية، و"الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري"(15) الممثل للبرجوازية الصغيرة التقليدية والموظفين والتجار الصغار والمتوسطين، و"العلماء المسلمين" (16)الذين تختلف روحانياتهم وتمثلاتهم للعالم عن الوهابية والسلفية الحاضرتين أيضاً في الحراك... على عكس ما يروج له محللون قصيرو النظر. يعكس الحراك الانبعاث السياسي للمجتمع الجزائري في تعبيراته التاريخية والراهنة في آن واحد، المتعددة والموحدة، السائرة على نهج بيان الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954.
"لقد بعتم البلاد أيها الخونة"
مروجو هذا الخطاب ينتمون إلى نخبة مزيفة، تتولى إدارة وتحريك أحزاب تابعة للسلطة وفاقدة للمصداقية بشكل كامل، وتغذية رواية النظام. وهي مرتابة من صحوة الشعب الذي تحرر من تأثير وهيمنة الأوصياء وقادة الفكر والأيديولوجيات المناهضة للديمقراطية.
احتقار الشعب الذي يعتبره هؤلاء – على الرغم من كل ما أظهره الحراك من وضوح الرؤية – عاجزاً عن التمييز، وجاهلاً، بلا ذاكرة سياسية، يسهّل بشكل كبير استعادة خطاب ارتيابي حول الحراك "الإسلامي" الذي تحركه "اليد الأجنبية" بهدف تدمير الجيش. لكن بالنسبة للرأي العام فإن هذه العبارات والصياغات الجاهزة والجوفاء تعبّر تماماً عن تمثّل منقطع الصلة بالواقع.
يعرف الشعب بشكل دقيق ان العامل الرئيسي المعطل لمسار الانتقال نحو دولة القانون هو المجموعة التي تتحكم بقيادة أركان الجيش. هذه المجموعة هي المقصودة بشعار "بعتو البلاد يا خونة". هؤلاء الجنرالات هم الذين - عبر فسادهم وتحالفاتهم المشبوهة – مكّنوا الإمارات العربية المتحدة مثلاً من بسط نفوذها في أعلى مستويات القرار الاستراتيجي. "اليد الأجنبية" هي تلك التي أدخلها الجنرالات أنفسهم. لا أحد يجهل حقيقة أن "أصحاب القرار" (كما كان يسميهم الرئيس الراحل بوضياف)، هؤلاء الفاسدون الذين تتكدس ثرواتهم في الخارج، يتحكمون في ذراع قوي ونشيط: "المخابرات" التي تتمتع بتفويض مطلق لتشتيت الانتباه ومغالطة الرأي العام وخنق الحراك.
"أنتم تبتلعون البترول، والفقير نصيبه السلّم"
لم يصمد تصنيف مكونات الحراك بين إسلامي ومدافع عن الهوية البربرية ونسوي أو طالب "يريد أن يعيش الحداثة".. هذه القوالب النمطية التي يفترض أنها متضادةٌ ومتصارعة، حسب تصور تروّجه البروباغندا، لا نجد لها صدًى في التنوع السلمي لمواكب الجمعة. الانقسامات المصطنعة لا تنتعش إلا في المخيلة الفقيرة والمبتذلة لطبقة محظيّة، مدينة لإرث من الاستبداد الإطلاقي ومخلصة له.
تنحدر البلاد، التي تختنق تدريجياً، نحو ركود اقتصادي مسموم. وتتدهور كل المؤشرات بشكل سريع وسط مناخ من الفضائح وانعدام الكفاءة. قطاعات بأكملها من المجتمع تغوص في الفقر والعوز المتناميين بعد عشرين عاماً من الاختلاسات وسوء التصرف والإدارة.
خلف تقدمية صورية وحداثة كلامية أو "عالم - ثالثية" متصنعة، تظل هذه البرجوازية الصغيرة -الفرانكوفونية أساساً- على الرغم من نكساتها وخيبات آمالها، أسيرةً لمخاوفها من خطورة الطبقات الشعبية المنفلتة، والمشتبه بانجذابها إلى أفكار وتيارات متطرفة وظلامية. ولا تخلو من دلالة ردة الفعل الضعيفة لهذه النخبة-المضادة إزاء مشروع قانون لتجريد معارضين في المنفى من جنسيتهم، كانت الحكومة قد أعلنت عليه في بداية شهر آذار/مارس 2021 (17). وتعتبر هذه الفئة المحظوظة أن جموع الجزائريات والجزائريين، الذين يواصلون المطالبة بإرساء نظام حريات، إنما تعبد الطريق أمام الأصوليين، وأنها، في أقل تقدير، حليفٌ موضوعي لـ"أعداء الجزائر" الذين، وباستثناء الملكية المغربية، لا يتم تحديدهم بشكل فعلي.
الصحافي ليسَ شرطيّاً… دائماً
16-08-2020
في الناحية الأخرى من الجدار الاجتماعي، لا تلطف التعبيرات المبدعة والجديدة المنبثقة عن الحراك -خاصّة تلك التي يبدعها صانعو محتوى "يوتيوب" موهوبون، لا أحزاب لهم ولا خطاباً أيديولوجياً - واقعَ جيل شعاراته مباشرة وقاطعة: "انتوما تاكلو البترول والزوالي ليه السلوم" ("أنتم تبتلعون البترول، والفقير نصيبه السلّم") في إشارة إلى أسلوب التعذيب المعروف بـ"السلّم" والذي تمارسه المخابرات في "مركز عنتر".
"الجنرالات في القمامة والجزائر ستنال الاستقلال"
الصور شاهدة: الحضور الإسلامي في الحراك الشعبي ليس مهيمناً ولا يشكل عامل التمييز. بالعودة إلى فيديوهات الحراك، نرى نساءً بثياب على النمط الغربي أو ترتدين الحجاب، وشباباً وكهولاً وربّات أسر، يسيرون في تناغم صادحين بصوت واحد: "الجنرالات في القمامة والجزائر ستنال الاستقلال". شعار يؤذي الحساسية الانتقائية للفئات المتشبعة ببروباغندا "الحرب القذرة" في سنوات 1990 والتي، دون أي خشية من إثارة السخرية بسخافتها، تريد اليوم أن "تدافع عن الجيش".
هذا التوجس من الشعب هو الذي ينتج ردة الفعل الطبقية هذه، ويشرح بشكل كبير دعم هذه الطبقات الوسطى للاستبداد، على الرغم من التباين الأيديولوجي البارز فيما بين بعضها البعض. ويكشف هذا التلاقي بين حساسيات عرف عنها تضادُها - من الستالينية المتحجرة إلى الديمقراطية الاجتماعية، مروراً بالتروتسكية ووصولاً إلى الليبرالية - عن حقيقة التمايز الطبقي الذي يقسم موضوعياً المجتمع الجزائري. لم يعد القضاة الخاضعون والصحافيون المأجورون، وغيرهم من الأبواق المعتادة، الوحيدين الذين تستفزهم وتستنفرهم الشعارات التي يعتبرونها هدامةً أو غير ملائمة أو خطيرة و"مهدد للأمن القومي".
ويساهم جزء من "الأنتلجنتسيا" في هذه الحملة بخطابات وأشكال مختلفة. بعد الدعوات الشكلية لضرورة توزيع أفضل للثروات وفرض الرقابة على الريع، يتركّز باقي الخطاب التبريري حول كبش فداء يتم استدعاؤه في كل مرة يكون فيها من الملّح تبرير - في أعين الغربيين بصفة رئيسية - القمع ومصادرة أي حياة سياسية حقيقية. يستحضر طيف "جبهة الإنقاذ الإسلامي"، المسكون بالذاكرات المذنبة، بهدف تحفيز الجيش على التدخل المباشر مرة أخرى من أجل "الحفاظ على الجمهورية".
"الشعب يريد الاستقلال"
يعلم المتظاهرون جيداً أين يوجد لبّ الأزمة الوطنية. يعتبرون أن التعذيب والإرهاب والفساد الشامل والنهب الانتحاري المستنزف لموارد البلاد هي عناصر تشكّل متوالية الديكتاتورية. وبالنسبة لشعب اضطر إلى تحمل عشرة أعوام من الحرب القذرة ضد الإرهاب، وعشرين عاماً من النهب منفلت العقال، وثلاثين عاماً من الأكاذيب، فإن السد الذي كان يحجب عنه حقوقه، ويبقيه خارج حركة تطور العالم هو الذي انهار أخيراً في شباط / فبراير 2019. وشعارات الحراك هي أجوبته.
عبر ترديدهم لشعار "الشعب يريد الاستقلال" يعاود متظاهرو الحراك كل يوم جمعة التأكيد على عزمهم استكمال المسار التحريري - الذي مكّن من استرداد السيادة الوطنية منذ قرابة الستين عاماً- حتى يصل إلى منتهاه الديمقراطي. وبطبيعة الحال ليس في هذا الشعار أي انتقاص من أهمية حرب التحرير ضد المستعمر (18) . ينهل الحراك من تاريخ يوظفه الحكام تارةً، ويطمسونه تارةً أخرى، وهو استمرار له وانخراط في دينامية استرداد كامل للحقوق (19) . الطريقة التي تدار بها أزمة البلاد العامة من قبل من يفترض بهم تحمل المسؤوليات التنفيذية تظهر كإثبات مستمر لصحة شعارات أيام الجمعة. وليست الإجراءات القامعة للحريات التي يتخذها النظام منذ انتخابات كانون الأول/ديسمبر 2019 المزورة إلا تأكيداً لصورة إفلاسه.
البروباغندا التي تريد "أسلمة" الحراك تسعى في الوقت نفسه إلى تحريف مقاصد الشعارات وتشويه مضامينها. تحريف معاني المطالب المرفوعة عبر الزعم بأن الشعب لم يعد يريد جيشاً هو بكل بساطة أمر سخيف وغير فعال. والتلويح - بهدف تخويف الناس - بخطر تدمير الدولة بسبب الحراك ليس إلا استيهاماً مثلما هو الحال أيضاً مع الإشارات الملحة إلى المصير المأساوي لليبيا وسوريا. من الجلي للجميع أن البنى الداخلية لهذين البلدين، والظروف الجيوسياسية وراء الصراعات الداخلية المدمرة، لا تمت بصلة كبيرة إلى الظروف والوقائع التي تحدد الواقع السياسي للبلاد ومكانة النظام الجزائري في محيطه الدولي.
"يا عصابة اللصوص أكلتم البلاد"
وهكذا تُشكّل أشباح "التدخل الخارجي" و"تدمير الدولة" الدعامة الهشّة لخطاب رسمي لا يقنع حتى المكلفين بالترويج له. تصفية الحسابات في أعلى مستويات قيادة الجيش والأجهزة الأمنية منذ سقوط عبد العزيز بوتفليقة في آذار/مارس 2019 تؤكد أن قمة السلطة بجوهرها الفاسد كلياً هي البيئة الحاضنة للتدخلات. القيادة العسكرية - البوليسية ("العصابة" كما يسميها الحراكيون) هي التي تتحمل المسؤولية الحصرية في التقهقر الصارخ للبلاد في كل المجالات.
تنحدر البلاد، التي تختنق تدريجياً، نحو ركود اقتصادي مسموم. وتتدهور كل المؤشرات بشكل سريع وسط مناخ من الفضائح وانعدام الكفاءة. قطاعات بأكملها من المجتمع تغوص في الفقر والعوز المتناميين بعد عشرين عاماً من الاختلاسات وسوء التصرف والإدارة. قمة الأجهزة الأمنية هي فعلاً المسؤول المباشر عن نهب البلاد والاختلاس الواسع للموارد العمومية. شعار "أيها اللصوص أكلتم البلاد" (يا سراقين كليتو البلاد) ليس إلا معاينة للوقائع.
الأولويات معروفة: بالإضافة إلى إلغاء أجهزة الشرطة السياسية، وإرساء استقلالية القضاء، فإن شعارات الحراك تطالب برفع الإجراءات والترتيبات القامعة للحرية التي تعطل أي إمكانية للتعبير الحر والتنظيم السياسي المستقل والحوار الحقيقي.
تقلص النشاط الاقتصادي وبطالة الشباب والفقر المدقع.. كل هذه المظاهر التي ما انفكت تتنامى كانت ملموسةً بشكل كبير قبل حتى ظهور جائحة كوفيد-19. تفاقمت الهشاشة المتزايدة للجزائر بإدارة فاشلة للأزمة الاقتصادية. ومع استمرار تبخر احتياطي العملات الصعبة، خاصةً في ظل تواصل انخفاض أسعار البترول – المورد الوحيد للصادرات - فإن البلاد تقترب بشكل محتوم من استحقاقات جسيمة. الخطر الذي يتهدد الجزائر لا يتمثل إذاً في تفكك متوهَّم للمؤسسات، بل في أمكانية تمزّق النسيج الاجتماعي بسبب البؤس والانسداد العام للأفق والإحباط(20) .
"سلمية، سلمية !"
يعود الفضل في بقاء الدولة اليوم - وهذا ليس تناقضاً كما قد يبدو - إلى الإرادة الظاهرة للشعب ووحدته وحكمته ووضوح رؤيته. وكما يتم تلطيف وتخفيف البؤس الجماعي بفضل أشكال التضامن القاعدية، هذا التآزر التقليدي الذي يمكّن من تفادي الأسوأ في زمن المحنة الاجتماعية الشاملة، فإن الوعي الحاد بالخطر الذي يتهدد المجتمع هو السبب الأول والأساسي لتحرك الجزائريات والجزائريين من أجل إرساء دولة القانون ومؤسسات حقيقية وقضاء مدني مستقل ومجتمع متحرر من الشرطة السياسية. كل هذا بطريقة لاعنفية كما يصدح به، ويكرره منذ البداية الشعار الذي يحدد ويميز الحراك: "سلمية، سلمية !" .
وهذا ما يؤكده الثبات الهادئ واحترام التعددية السياسية والمعرفة الدقيقة بأساليب النظام التي تشرح مبررات رفض "هيكلة" الحراك. خلال نقاشاتهم المستمرة والمفتوحة، يؤكد الناشطون على رفضهم تشكيل أي بعثات أو تمثيل في ظل الظروف الراهنة، لأنهم يعلمون أنه طالما بقيت الشرطة السياسية مكانها، فإن "الزعماء" المحتملين الذين قد يبرزون سيتم احتواؤهم أو تحييدهم. فضلاً عن هذا، فإن حراك الشعب الجزائري لا يسعى إلى التحول إلى حزب، لأن حساسيات متنوعة جداً تنضوي تحت التعبيرات التوافقية المناضلة من أجل الديمقراطية والقانون. تسمو مطالب الحراك فوق الانتماءات، لتشكل قاعدةً لعقد سياسي حول الحقوق والحريات. هذه القاعدة هي التي يمكن أن تتنافس فوقها - مع احترام الضوابط الديمقراطية - الأفكار والبرامج.
مبادرة الخروج من الأزمة هي قبل كل شيء مسؤولية الذين يتولون، بالقوة وبلا أدنى شرعية، القيادة الفعلية للبلاد. وبكل تأكيد لا يجب أن نبحث عن المخرج من المأزق الراهن، الذي يتفاقم مع التدهور غير المسبوق للظروف الاجتماعية -الاقتصادية، في الحلول الترقيعية والمسكنات التي لا تأثير لها. ما الذي يمكن أن ننتظره فعلاً من هذا الهروب إلى الأمام المحاط بالأكاذيب والتلاعب؟ الرهانات عظيمة والتحديات جد معقدة، أما المخرج الوحيد المعقول الذي يسمح بتخفيف أكثر ما يمكن من الأضرار، فيتمثل في تسوية سياسية مقبولة لدى أكبر عدد من الجزائريين. يتعين على النظام أن يأخذ في الحسبان تطلعات الأغلبية الشعبية، وأن يرسل قبل أي حوار الإشارات السياسية الضرورية الدالة على الانفتاح والتهدئة.
سمفونية جزائرية غير مكتملة
07-01-2021
الأولويات معروفة: بالإضافة إلى إلغاء أجهزة الشرطة السياسية، وإرساء استقلالية القضاء، فإن شعارات الحراك تطالب برفع الإجراءات والترتيبات القامعة للحرية التي تعطل أي إمكانية للتعبير الحر والتنظيم السياسي المستقل والحوار الحقيقي. عندها فقط يمكن أن تنبثق نخبة جديدة بغية الشروع في التحديث المؤسساتي الحقيقي للبلاد دون أن يكون ذلك ضد هذا الاتجاه السياسي أو ذاك، ولا حتى ضد النظام، ولكن عبر إشراك مجمل القوى الاجتماعية والسياسية للبلاد في مناخ من السلم الاجتماعي واللاعنف. التوصل إلى تسوية من أجل إعادة التأهيل الديمقراطي للدولة بين الحكمة الشعبية والنضج السياسي وإرادة التغيير هو خلاصة شعارات الحراك.
ترجمه عن الفرنسية: محمد رامي عبد المولى
1) انظر مقال "يجب ‘إعادة النظر في شعارات الحراك" المنشور بالفرنسية في جريدة El Watan بتاريخ 1 آذار /مارس 2021. https://www.elwatan.com/edition/actualite/il-faut-repenser-les-mots-dordre-du-hirak-01-03-2021
2) وقع حلها في آذار/مارس 1992
3) للتعرف أكثر على المنظومة الإعلامية الجزائرية وفهمها سيكون من المفيد الاطلاع على الحوار الذي أجرته بالفرنسية جريدة El Watan بتاريخ 18 آذار/مارس 2021 مع رضوان بوجمعة الأستاذ في جامعة الصحافة بالعاصمة الجزائر: "المنظومة الإعلامية الحالية تهدد الأمن والوئام الوطنيين"https://www.elwatan.com/edition/actualite/le-systeme-mediatique-actuel-menace-la-securite-et-la-cohesion-nationales-18-03-2021
4) نددت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان بهذه الانتهاكات https://information.tv5monde.com/afrique/algerie-l-onu-demande-la-fin-des-arrestations-arbitraires-contre-le-hirak-399160
5) جنرالان في الجيش الاستعماري الفرنسي خلال حرب الاستقلال، عرفا بابتداعهما لأساليب تعذيب "ضد المتمردين" أصبحت مدرسة يقتدى بها. للاطلاع أكثر على نشأة التعذيب في الجزائر انظر https://www.editionsladecouverte.fr/escadrons_de_la_mort_l_ecole_francaise-9782707153494
6) كانت تسمى سابقاً "الأمن العسكري (بين 1962 و1990) ثم "دائرة الاستعلام والأمن" إلى حدود 2015، واليوم صار اسمها "المديرية العامة للأمن الداخلي" وتتبع وزارة الدفاع.
7)مركز للتعذيب أقامه الجيش الاستعماري الفرنسي خلال حرب التحرير (1954-1962).
8) أبرز مثال على ذلك افتتاحية عدد شهر آذار/مارس من مجلة الجيش « El Djeich »https://www.mdn.dz/site_principal/sommaire/re« El Djeich » vues/images/eldjeich_fr.pdf
9) الجنرالات الذين نفذوا انقلاب 11 كانون الثاني/يناير 1992
10) انظر منشورات حركة رشاد على موقعها الرسمي: https://rachad.org/fr/
11) من أشهر هؤلاء النشطاء "أمير دي زاد" ومحمد العربي زيتوت وهشام عبود ومحمد عبد الله، وكانت الحكومة الجزائرية قد أصدرت بحقهم مذكرات اعتقال دولية بتاريخ 21 آذار/مارس 2021https://www.lemonde.fr/afrique/article/2021/03/22/alger-lance-des-mandats-d-arrets-contre-des-activistes-accuses-de-terrorisme_6073989_3212.html
12) "الزواف" أو الزواوة Les Zouaves هي التسمية التي أطلقت على الجزائريين الذين تم تجنيدهم في الجيش الفرنسي في المراحل الأولى لاستعمار الجزائر، واليوم يستعمل من جديد ضد نشطاء الحراك حتى يتم تصنيفهم كخونة للأمة. انظر "معجم الحراك" لرفيق البجاوي ضمن المؤلف الجماعي الصادر بالفرنسية "الحراك في الجزائر: اختراع انتفاضة". https://lafabrique.fr/hirak-en-algerie-linvention-dun-soulevement/
13) صياغة تجمع بين اسم الشيخ عبد الحميد بن باديس وبيان "أول نوفمبر 1954"، وهي من صناعة أجهزة التأثير النفسي، ويراد بها الإيهام بوجود جناح وطني/قومي على رأس السلطة. انظر المرجع السابق.
14) تأسس "حزب الشعب الجزائري" سنة 1937 على يد مصالي الحاج، ثم أصبح اسمه "حركة الانتصار للحريات الديمقراطية" في 1948.
15) أسسه فرحات عباس في 1946.
16) تأسست "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" وهي تنسيقية دينية بنفَس اجتماعي - سياسي، سنة 1933 على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس.
17) https://www.lemonde.fr/afrique/article/2021/03/17/un-projet-de-decheance-de-nationalite-suscite-l-emoi-en-algerie_6073458_3212.html
18) انظر المؤلف الجماعي "الحراك في الجزائر: اختراع انتفاضة"، الفصل العاشر " انبعاث ذاكرة الصراع ضد الاستعمار الفرنسي" بقلم حسينة مشّاي.
19) "نلنا استقلال البلاد لكن لم نحرر الشعب"، هذه العبارة للمناضل الحقوقي البارز علي يحيى عبد النور تعبر جيداً عن الشعور العام. https://algeria-watch.org/?p=19166
20) يظهر المقال مثالاً حياً، من بين أمثلة أخرى، على المأساة التي يعيشها ملايين الشبان المتخلى عنهم بشكل كامل : "ورقلة: شباب عاطلين عن العمل يخيطون أفواههم بخيوط معدنية للتعبير عن احتجاجهم"، صدر بالفرنسية على موقع Casbah Tribune بتاريخ 23 آذار/مارس 2021. http://casbah-tribune.com/ouargla-des-jeunes-chomeurs-se-suturent-la-bouche-a-coup-de-fils-metalliques-pour-protester/