في غمرة الاحتفال بعيد الأم صباح الأحد 21 آذار/مارس، تلقينا خبر رحيل الطبيبة والروائية والمفكرة النسوية الغنية عن التعريف نوال السعداوي، فاكتسب عيد الأم دلالات أخرى، حيث رأت الكثيرات من النسويات والناشطات في مجال حقوق المرأة، أن السعداوي لطالما مثلت الأم الروحية لقضية النسوية، والنضال في سبيل انتزاع حقوق المرأة، وتحرير كلّ من المرأة والرجل من سيطرة النظام الذكوري.
اكتشاف متعدد لنوال السعداوي
تعرفتُ على نوال السعداوي خلال مرحلتين من حياتي: الأولى كانت في ربيع سنوات المراهقة حيث أقبلتُ على قراءة عددٍ من كتبها التي ضمتّها مكتبة والدي، بنهم وشغف وخوف. كان قلبي يخفق بشدة غضباً على كل قضية ظلم تعرضتْ لها أي فتاة أو سيدة في الريف المصري، وإعجاباً بطرح الكاتبة وشجاعتها وجرأتها، خصوصاً فيما يتعلق بمحاربتها لممارسة ختان الإناث، والتي كرست هي، وسواها من النساء والرجال، عقوداً من النضال من أجل إلغائها إلى أن مُنعت قانونياً. أثارت فيَّ الكاتبة الرغبة في طرح الأسئلة، والتشكيك بكثيرٍ من المسلمات، والتفكير بشكلٍ نقدي في كل ظواهر الحياة. إلا أن تلك الرغبة اصطدمت بجدار التعليم التقليدي في العراق، واعتماده على الحفظ والتلقين، بما يخدم النظام الحاكم على نحوٍ خاص، وبما يتماهى مع التقاليد والأعراف بشكلٍ عام، وهي معضلة لا تزال تواجهها أغلب الأنظمة التعليمية في بلدان المنطقة. فأخذ صوتي يخفت رويداً رويداً، ولم أكن أقوى على المواجهة والتساؤل، إلا بيني وبين نفسي، أو أحياناً داخل أسوار منزل أسرتي، حيث كانت هناك مساحةٌ آمنة للنقاش، كنت أدرك أنها لا تتوفر في كثير من المنازل الأخرى لقريباتي وصديقاتي وزميلاتي. كنت أعتقد أنني سأسترد صوتي حالما يزول النظام البعثي الجاثم على صدورنا، ولكن اتضح لي، وللكثير من العراقيين، أن ذلك كان مجرد وهم.
تعززت سطوة النظام الأبوي العسكري بشكلٍ مخيف في السنوات التي تلت الغزو الأمريكي وسقوط نظام صدام حسين، وأصبح المجتمع شيئاً فشيئاً رهينةً لعسكرة جديدة متعددة، وسلطة دينية خانقة، ولقبلية وعشائرية متصاعدة أمام ضعف القانون وسيادة الدولة. فكانت المرأة ولا تزال الضحية الأكبر للنظام المحاصصاتي "الجديد". غاب صوتي من جديد، لا بل غُيّب ، فأصبح الكلام في السياسة ممنوعاً، والحديث عن السرديات الاجتماعية والدينية المسيطرة على المجتمع خطٌّ أحمر. فالثمن حياتي أو حياة شخص قريب عزيز.
أثارت فيَّ الكاتبة الرغبة في طرح الأسئلة، والتشكيك بكثيرٍ من المسلمات، والتفكير بشكلٍ نقدي في كل ظواهر الحياة. إلا أن تلك الرغبة اصطدمت بجدار التعليم التقليدي في العراق، واعتماده على الحفظ والتلقين، بما يخدم النظام الحاكم على نحوٍ خاص، وبما يتماهى مع التقاليد والأعراف بشكلٍ عام.
كنت أستمع إليها بإعجاب وتقدير، على الرغم من أنني لم أتفق مع كل طروحاتها - خصوصاً السياسية منها. ولكن لفتتني صلابتها وثباتها وهدؤها مع المقابل، حتى وإن كان لا يتسلح بالعلم والمعرفة، بل حتى وإن كان يحاول أن يشخصن الحديث. هي لا تهادن مع خصمها، ولكنها على نقيضه تفرّق بين نقد الأفكار والإساءة للأشخاص.
جاءت المرحلة الثانية التي تعرفتُ فيها على نوال السعداوي بعد سنوات، كنت قد نضجت خلالها، وتمكنت من استرداد صوتي – ولو جزئياً - بعد الشروع بدراسة الدكتوراه في انجلترا. فأصبحتْ تثير اهتمامي جوانب أخرى منها، وأصبحتُ مهتمةً بالتعرف عليها بشكل أكثر قرباً من خلال الاستماع إلى أحاديثها ومقابلاتها التي توفرت على منصات التواصل الاجتماعي، بعيداً عن رقابة الأنظمة الحاكمة وماكيناتها الإعلامية. كنت في كل مرةٍ أستمع إليها بإعجاب وتقدير، على الرغم من أنني لم أتفق مع كل طروحاتها - خصوصاً السياسية منها. ولكن لفتتني صلابتها وثباتها وهدؤها مع المقابل، حتى وإن كان لا يتسلح بالعلم والمعرفة، بل حتى وإن كان يحاول أن يشخصن الحديث. هي لا تهادن مع خصمها، ولكنها على نقيضه تفرّق بين نقد الأفكار والإساءة للأشخاص.
"الإبداع هو القدرة على رؤية التناقضات"
من بين كل مقابلاتها وندواتها ومحاضرتها، لفتت انتباهي جملة واحدة رسخت في ذهني، والمفارقة أنني شاهدتُ الندوة التي ذكرتها قبل يومين فقط من رحيلها، فظل صداها يتردد في بالي، وأنا أقرأ وأشاهد سيل ردود الفعل المختلفة، والجدل الذي دار بعد رحيلها ولا يزال قائماً حتى هذه اللحظة.
"الإبداع هو القدرة على رؤية التناقضات"، قالتها وأردفت: "اكتبوها!". تأملت الجملة كثيراً، فإبصار التناقضات هو المفتاح لتفكيك الكثير من الظواهر وحجَر الأساس للتفكير النقدي. ولكنني سألتُ نفسي: كم منا وقع ويقع يومياً في فخ التناقضات؟ المتأمِلُ في كتابات نوال السعداوي وأطروحاتها، سيكتشف بسهولة أنها كانت هي نفسها ضحيةً لعددٍ من التناقضات، في مواقفها من السياسة وكذلك من الدين. وهو ما جعلها شخصية إشكالية. انتقدها محبوها قبل كارهيها لصمتها أو تأييدها لحكم السيسي العسكري، وأحس بعضهم بخيبة الأمل بسبب ما كانت تمثّله لهم من مواقف ثابتة، وغير حيادية ضد الديكتاتوريات، سواءً في داخل مصر أو خارجها. ولكن هذا الرأي السياسي لم يكن التناقض الوحيد في طروحاتها. فمثلاً وعلى الرغم من نقدها الشديد للأديان وأحكامها، وتفكيكها لنصوصها، كانت تجزم بأن مضمون الدين الحقيقي، جوهره، هو العدالة والحرية والمساواة. وربما اضطرت لذلك بعد كل ما تعرضت له من تخوين وإساءة وتخويف وتهديد أيضاً.
كذلك مواقفها المناهضة للامبريالية الاستعمارية الغربية منعتها أحياناً من رؤية مساوئ أنظمة تسلطية، بل وامبريالية صاعدة هي الأخرى، كالصين وروسيا وإيران، ودورها السلبي ضد شعوبها وشعوب أخرى في المنطقة. في العراق مثلاً، يذهب الكثير من العراقيين إلى وصف دور إيران في بلدهم على أنه أبعد من مجرد تدخل سافر في شؤون البلاد، وإلى كونه احتلالاً استعمارياً من نوعٍ جديد. كما أن نوال السعداوي وقعت في مأزق آخر، خصوصاً بعد ظهور "داعش" والجرائم التي ارتكبها في العراق، فكانت تردد أنه صناعة استعمارية، وأنه استخدم النص الديني لتبرير أفعاله.
انقسم الناس غالباً إلى معسكرين: أحدهما يميل إلى تقديس نوال السعداوي، والآخر يميل إلى شيطنتها ونسف كل نتاجها، لأنها حسب وجهة نظره "كافرة وملحدة"، وهي تهمة إقصائية تحضر دائماً بقوةٍ حين يتخذ الطرف الآخر موقفاً فكرياً مخالفاً.
إن الفشل في رؤية التناقضات هو نتيجة حتمية لوقوعنا أسرى للثنائيات المبسطة، على الرغم من تسطحيها للقضايا وتشويشها للرؤية إلى حد الإصابة بالعمى. ولكننا أحياناً نلجأ لها حين نعتقد – مخطئين - أنه لا يوجد خيار ثالث. فبين ثنائية الإسلام السياسي والحكم العسكري، لا يبحث الكثير منا عن حلٍ آخر، ربما لأنه يدرك أنه من الصعب أن يتحقق، على الأقل في المستقبل القريب. ربما كان هذا ما حصل مع السعداوي نفسها، ويحصل مع عدد من العراقيين الذين وجدوا أنفسهم في مقارناتٍ ليست من اختيارهم، بل فرضها الواقع عليهم. فيتكرر بين الفينة والأخرى جدال حول أيهما كان الأنسب للعراق: الأحزاب الإسلامية الشيعية والسنية التي أنتجها النظام الانتخابي المحاصصاتي، أم الحزب والرئيس الواحد، ولو كان عسكرياً أو ديكتاتورياً. وهؤلاء يرون أنه ليس هناك فسحةٌ من الوقت للبحث عن حلولٍ أخرى. في حين يرى آخرون أن مثل هذا البحث هو مجرد ترف فكري ويقع في المثالية.
الموافقة"المشروطة"
ردود الفعل حول وفاة الراحلة ومواقفها كانت تدور في فلك هذه الثنائيات، بل إنها عززتها وأدامتها. فانقسم الناس غالباً إلى معسكرين: أحدهما يميل إلى تقديس نوال السعداوي، والآخر يميل إلى شيطنتها ونسف كل نتاجها، لأنها حسب وجهة نظره "كافرة وملحدة"، وهي تهمة إقصائية تحضر دائماً بقوةٍ حين يتخذ الطرف الآخر موقفاً فكرياً مخالفاً. خلال المناظرة التلفزيونية الشهيرة بينها وبين طليقها الدكتور شريف حتاتة، والمفكر الإسلامي محمد عمارة ونبيه الوحش، على خلفية تصريحاتٍ لها اتهمت فيها بأنها تهز ثوابت الدين الإسلامي - وعليه رفع الأخير قضية للتفريق بين الزوجين على اعتبار أن نوال السعداوي أصبحت "مرتدة"، رامياً بكل القيم الإنسانية عرض الحائط. قال الوحش للسعداوي ما معناه أنها ممكن أن تتحدث عن أي أمر كختان الإناث وغيره، شريطة ألا تقترب من ثوابت الإسلام. هذه الموافقة المشروطة التي يعتقد الكثير من الذكوريين في موقع السلطة الدينية أو السياسية أو المجتمعية أو حتى العائلية، أنهم متفضّلون بها على الآخر، خصوصاً لو كان هذا الآخر امرأة، سلاح خطير يعطي مسوغاً جاهزاً للسلطات الحاكمة، ويضفي على أفعالها القمعية شرعيةً هي بأمسّ الحاجة إليها للسيطرة على مجتمعاتها وقهرها وتغييب أصواتها الحرة. وهم لا يدركون أنه يتم إسكاتهم باستخدام المنطق ذاته.
تلك الموافقة المشروطة أكبر عائق أمام حرية التفكير وتقدم المجتمعات وإبداعها. فالإبداع يحتاج إلى سقف حرية حدوده السماء، ولا يمكن اجتزاء الحريات، أو تفصيلها على حسب أهوائنا ومقاساتنا الشخصية. المفارقة هنا أن نوال السعداوي لم تكن أبداً تعرّف نفسها على أنها "لا دينية"، بل كانت تسمي نفسها "بنت الله". ربما لم يقرأ الكثيرون ممن كفّروها أو شتموها كتاباتها أصلاً، فجاءت ردود أفعالهم مبنيةً على التعصب فحسب. وهنا أتذكر أنه حين سئل قاتل المفكر المصري فرج فودة عما كان قد قرأه للكاتب، أجاب بأنه أميٌّ لم يكن يقرأ أو يكتب. وعلى نحو عام، هناك اتجاه جمعي مخيف نحو إقصاء الآخر المختلف، ونسف كل نتاجه لأنه قرر ألا ينافق المجتمع، وأن يصرّح بأفكاره وميوله وإن كانت تجري عكس اتجاه الرياح المجتمعية السائدة. وهذا ما حصل مع رفعة الجادرجي، المعماري والفيلسوف العراقي، صاحب الأعمال المعمارية الخلاقة والشاخصة في الذاكرة العراقية. فبمجرد انتشار فيديو لمقابلة له قبل وفاته، ذكر فيها أنه لا يؤمن بأي من الأديان، اتخذ الكثيرون ذلك مبرراً لإشهار سيوفهم، واجتثاث كل تاريخ الرجل لأنهم قرروا أنه لم يعد ينتمي إليهم، وهو بالتالي لا يستحق الرحمة أو الإشادة أو حتى الذكرى. ننتقد جميعنا "الإسلاموفوبيا" في الغرب كظاهرة عنصرية وتمييزية، ولكننا نمارس الدور ذاته مع من يخالفنا في الرأي. فكيف يمكننا في آنٍ واحد المطالبة بمواجهة" الإسلاموفوبيا" بينما نمارس شكلاً من أشكالها مع الآخرين في بلداننا ؟
والتقديس كذلك مسيء
وهنا تأتي مفارقة أو تناقض من نوعٍ أخر: فنحن نحتفي بنتاجات وإسهامات الغربيين في العلوم والمعرفة والفن والأدب، ولا تهمنا خلفياتهم الدينية، ولكننا ننصّب محاكم تفتيش على أبناء وبنات جلدتنا لأنهم رفضوا أن يكونوا نسخةً مشابهة تماماً لنا. وعلى ذكر الغرب، فلطالما اتهمت نوال السعداوي في حياتها، وبعد وفاتها بأنها أداةٌ للغرب رغم عدائها العلني له، إذ لم تشفع لها مواقفها منه التي دفعت ثمنها السجن.
قيل لنوال السعداوي أن بامكانها تناول ختان الإناث وغيره، شريطة ألا تقترب من ثوابت الإسلام. هذه "الموافقة المشروطة" التي يعتقد الكثير من الذكوريين في موقع السلطة (الدينية أو السياسية أو المجتمعية أو حتى العائلية)، أنهم متفضّلون بها على الآخر، خصوصاً لو كان امرأة، سلاح خطير يعطي مسوغاً جاهزاً للسلطات الحاكمة، ويضفي شرعية على أفعالها القمعية.
لو كانتْ اليوم تراقب ما يقال ويكتب عنها، لغاظها وآلمها التجريح والتسقيط، ولأحزنها التقديس كذلك. فالأخير لا يعيق الإبداع فحسب، بل إنه يمكّن التجهيل. ما بين ثنائيات الأبيض والأسود، هناك درجات من ألوانٍ مختلفة، تقدم لنا صورة أوضح وأنقى، وقد تفتح المجال للتلاقي والتحاور والتعاون من أجل مستقبل يستوعب الجميع بكل أطيافهم. الانتماء إلى أيٍ من المعسكرين يخالف رسالة المفكر الحقيقية، فهو أو هي تريد من الأجيال اللاحقة أن تفكر وتستلهم العبر وتصحح الأخطاء، وتضيف هنا وتعدّل هناك. وهكذا، جيل يسلّم إلى جيل.
الحركةُ النسويةُ في مصر حيةٌ لم تَمُت
08-09-2019
نضال نوال السعداوي النسوي والفكري وكذلك السياسي، بأخطائه ومغالطاته أحياناً، وبإصاباته وإشعاعه وبريقه غالباً، والتي تجسدت جميعها بعبارتها عن العلاقة بين الإبداع والبصيرة في تشخيص التناقضات، يذكّرنا بأن المحافظة على إرث المفكر تكون عن طريق حمل مشعل التنوير الذي أضاءه، والتنوير لا يأتي من خلال التقديس أو الشيطنة، بل من خلال النقد الموضوعي المنصف، بعيداً عن لغة الثنائيات العقيمة أو الانتقائية وإصدار الأحكام. التقديس أو التسقيط يطفئ شعلة التنوير ليسود ظلام الجهل.