في بلد أقامه النهر وشكل ملامحه، تحولت اليوم المياه إلى إحدى أهم مشكلاته. فمن موجات عطش وشح في مناطق واسعة بالصيف إلى موت وتشرد وتهدم للمنازل فى مناطق أوسع خلال الشتاء. فهل غدا المصريون خائفين من سر الكون الأقرب إلى قلوبهم وتاريخهم؟
الخير الذي يأتي ولا يكفي
النيل، الخزانات، الأمطار، المياه الجوفية.. هكذا هو ترتيب مصادر المياه في مصر. يمدها النهر بحوالي 56.8 مليار متر مكعب سنوياً بما يمثل 97 في المئة من جميع مواردها المائية، أما معدل هطول الأمطار ففي حدود 1.8 مليار متر مكعب في السنة، كما تملك 4 خزانات جوفية كبرى على امتداد صحاريها. كل هذا الخير لم يحل دون تصنيفها منذ 2005 كدولة "شحيحة المياه"، لأنه يتوفر أقل من 1000 متر مكعب من المياه العذبة سنوياً للفرد الواحد، وهو الحد المقرر من منظمات الأمم المتحدة المعنية.
كان هذا التصور البياني قبل عشر سنوات من الآن، ووفقاً له يصل عدد السكان في 2025 إلى 95 مليون مواطن، ويقل نصيب الفرد منهم إلى 600 متر مكعب فقط من المياه على مدار العام. فهل هذه الأرقام هي السبب وراء العطش في الصيف؟ وإن كانت، فكيف سيكون الحال عقب بدء عمل سد النهضة في أثيوبيا؟ ولماذا تركت الحكومة الأمور، بحيث يمكن الاستفادة من مياه الأمطار التي أصبحت غزيرة مؤخراً إلى حد موت 25 مواطناً في الشهر الجاري وإغراق عدد من المدن والقرى.
الحكومة VS الطبيعة
أسئلة لا توجد إجابات واضحة عليها. فمن الصيف إلى الشتاء، ومن العطش إلى الغرق، يتكرر السيناريو الحكومي نفسه: تضارب في التصريحات، خطاب زاعق موجه ضد مسؤول بعينه ينتهي باستقالته أو توبيخه.. من دون حل ناجع لأصل المشكلة الذي يتعلق بأمور فنية تحتاج لموارد مالية لا يتم توفيرها قبل وقوع الكارثة، وإذا ما تم عقب وقوعها، فهو يأتي في صورة مظهرية تصب في مصلحة رئيس الدولة مباشرة أو أحد كبار المسؤولين.
ففي الصيف مثلاً، وعقب انقطاع المياه عن ثلاثة أحياء حيوية بمحافظة الجيزة، خرج مسؤولو وزارة الإسكان ليلقوا بالمسؤولية على وزارة الري، بحديث عن انخفاض منسوب مياه النيل بسبب تقليل مستويات صرف المياه المختزنة خلف سد أسوان، وحفظها لمصلحة المزروعات الشتوية. وهو ما نفته وزارة الري بدورها، وقالت إنّ ضعف شبكات المياه وعدم كفاءتها في تغطية الحاجة السكانية هي سبب الأزمة، وأن نقص منسوب المياه إذا صدق كان ليؤثر على شمال مصر كاملاً.. بينما تداولت الصحف صورة لطفو الطمي في المنطقة أسفل كوبري قصر النيل الشهير بوسط القاهرة.
وما بين اتهاماتهم المتبادلة، بزغ المشهدان المتكرران: الأول خروج الأهالي لقطع الطرق وحرق إطارات السيارات بعد أن أحرق العطش أجوافهم، الثاني إطلالة محافظ الجيزة على شاشات التلفاز ليؤكد على زيادة منسوب مياه النيل المصروف للمحافظة بالتنسيق مع وزارة الري وتخصيص 650 مليون جنيه لتجديد شبكات المياه فيها. أمّا الشتاء الحالي ـ المصنف دولياً بصفته الأكثر برودة في المنطقة العربية منذ 40 عاماً ـ فقد جاء مصحوباً بفجائع متتالية، من موت بالغرق والصعق الكهربي بالشوارع التي غمرتها المياه، (تسميها البيانات الرسمية "السيول")، بينما تلتزم هيئة الأرصاد الجوية بالتصنيف العلمي لها: "أمطار غزيرة"..كما هي فعلاً، ولا سبب مباشراً لما حدث غير التراخي في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع تراكم مياه المطر التي قال وزير الري إنها وصلت في الإسكندرية على سبيل المثال إلى 175 ملم مكعب بدلا من 160 ملم في الوقت نفسه من العام الفائت، وكأن هذا هو السبب الحقيقي لوقوع تلك الكوارث، بينما يصل معدل سقوط الأمطار في دول قريبة، كالأردن مثلاً، إلى 550 ملم بالمدن الشمالية التي تقع على خط الطول نفسه الذي تقع عليه مدينة الإسكندرية.
الخوف الذي لا يرحل
عثر سكان محافظة البحيرة وسط الموت والقهر على الإرادة، فخرجوا إلى الطريق العام المؤدي للعاصمة وقطعوه. هو الغضب، في حين نجحت الحملة الإعلامية الشديدة في إقالة محافظ الإسكندرية وحده، بينما كان قد خرج قبل أسبوعين من نزول الأمطار ليؤكد أنه لم يحصل على الميزانية المالية التي طلبها لتطوير شبكة الصرف الزراعي، لاستيعاب كميات المياه المتوقعة.
ثم جاء رئيس الجمهورية إلى الإسكندرية ليقول في مؤتمر صحافي إنه يجب وفوراً صرف التعويضات للفلاحين ممن فقدوا محاصيلهم وتخصيص ملياري جنيه من صندوق "تحيا مصر" (أموال تبرعات تم جمعها من رجال الأعمال عبر رئيس الجمهورية مباشرة) لتوسعة وتجديد محطات الري وشبكات الصرف الزراعي. هناك من تذكر تصفيقاً آخر ناله وزير الري الأخير في زمن المخلوع حسني مبارك، وهو يبشر المصريين بنجاحه في الحصول على تمويل من البنك الدولي بقيمة 120 مليون دولار لتجديد شبكة الصرف الزراعي المتهالكة.
عاد الجميع إلى منازلهم، بانتظار موجة جديدة تضعهم وجهاً لوجه أمام المياه التي تتحول بين عشية وضحاها من سر وجودهم إلى درب حتفهم.