في 13 آذار/مارس الماضي، قرّر منتدى رؤساء المؤسسات مساندةَ ترشح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية رابعة، مصمًّا آذانه عن الدعوة التي كان وجهها إليه مرشحٌ آخر، علي بن فليس، إلى الوقوف على الحياد. ولم تكن هذه المساندة حدثًا في حدّ ذاتها، فالمنتدى دعم ترشح الرئيس الجزائري لعهدتيه الثانية والثالثة. الحدث كان عدمَ تحقّق قدر كبير من التوافق عليها كما كان الحال في 2004 و 2009، إذ لم يحضر الاجتماعَ الذي أقرَّها سوى 95 عضوا من أصل 226، وغادره بعضهُم قبل اختتامه احتجاجا على إصرار "البوتفليقيين" على أن يتم التصويت برفع الأيدي.
ويُعدّ منتدى رؤساء المؤسسات أهمَّ تنظيمات أصحاب الأعمال في الجزائر، إذ يمتلك أعضاؤُه المائتان والستة عشرون، حسب إحصائيات نشرت في 2011، 499 شركة (57 في المئة منها في الصناعة و25 في المئة في التجارة والخدمات و 11 في المئة في قطاع الإنشاءات كالبناء والأشغال العمومية والري)، ويتجاوز إجماليُّ أعمال 198 منهم رقم ال14 مليار دولار. ويلاحَظ أن أكثر من 42 في المئة من هؤلاء الأعضاء أنشأوا شركاتهم بدءا من سنة 2000، أي بعد اعتلاء الرئيس بوتفليقة كرسيَّ الرئاسة، مقابل 30 في المئة دخلوا المعترك الاقتصادي بين 1990 و 1999، و 12 في المئة فقط بدأ نشاطُهم قبل 1980.
وقد ظهرت مبكرا بوادر انقسام المنتدى حول دعم ترشح الرجل "المريض" للرئاسة، إذ تعذر انعقاد جمعيته العامة أكثر من مرة بسبب عدم اكتمال نصابها، وبدا غياب الكثير من أعضائه عنها تهرّبا واضحا من حرج حقيقي. فالقرار الذي كان عليهم اتخاذُه كان سيكون إشكاليا أيا كان: اصطفافهم وراء مترشح هرم، منهك القوى فقدانٌ لمصداقيتهم، هم دعاة "عقلنة التسيير"، ومعارضتهم لتجديد ولايته قد يعرِّض أعمالهم إلى عراقيل البيروقراطية الحكومية، خاصة وأن الكثير منهم يخالفون القوانين (كتشغيل أجراء دون حماية اجتماعية مثلا)...
داعمو بوتفليقة ازدهرت أعمالهم في عهده
كيف وجد المنتدى نفسه في هذا المأزق؟ ما حصل أن ترشح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة جديدة يثير من الرفض ما لم يثره في 2004 و 2009، ما يمكن تفسيرُه، من جهة، بحالته الصحية، ومن جهة أخرى، بتجدد آمال بعض نخب الطبقات الوسطى المتأثرة بحراك "الثورات العربية" في أن تكون نهاية ولايته بداية انتقالة سلمية إلى نظام أكثر احتراما للحريات، وهي انتقالة ما فتئت تؤجل منذ بداية "الانفتاح الديموقراطي" في 1989.
وفي غياب توافق على الموقف الواجب اتخاذُه من الانتخابات الرئاسية المقبلة، مارس أصحاب الأعمال "البوتفليقون" ضغوطا هائلة على زملائهم المعارضين لترشح بوتفليقة أو الداعين إلى الوقوف منه موقف الحياد. وهم إن لم ينجحوا في نيل دعم الأغلبية نجحوا في جعلها تتغيب عن الاجتماع المذكور، ما مكنهم من تمرير لائحة مساندة الرئيس في جلسة مغلقة وفي ظروف أقل ما يقال عنها أنها غير ديمقراطية.
وهنا يُطرح السؤال: من أصحاب الأعمال "البوتفليقيون" هؤلاء؟ كما أشار إلى ذلك الصحفي الجزائري إلياس حلاس في مقال استقصائي نشرته الجريدة الإلكترونية الجزائرية Maghreb Emergent، فإن ما يجمعهم ليس انتماءَهم إلى قطاع اقتصادي بعينه. ما يوحدهم، في الحقيقة، هو تطورُ أعمالهم بشكل لافت إن لم نقل شبه خرافي منذ انتخاب عبد العزيز بوتفليقة أول مرة في 1999، واستفادتُهم مما عرفته عهْداتُه الثلاثة من ارتفاع للإنفاق العام (500 مليار دولار برمجت بين 2004 و 2013، و125 مليار في ميزانية 2014، أي بزيادة 11 في المئة عن 2013) ومن تضخمٍّ للواردات نجم عنه ازدهار تجاري غير مسبوق (بلغت قيمتها 55 مليار دولار في 2013 مقابل 9 مليار دولار في سنة 2000).
حداد والطيب الزرايمي وعولمي...
مؤسسة أشغال الطرق والري والبناء المسماة اختصارا ETRHB لصاحبها علي حداد، وهو رأس حرية الموالاة في منتدى رؤساء المؤسسات، أنشئت في الثمانينيات، لكنها قبل إطلاق "برامج دعم الإنعاش الاقتصادي" في 2001 كانت شركةً عائلية متواضعة نسبيا فيما تبلغ قيمة المشاريع التي تقوم بتنفيذها اليوم 2.5 مليار دولار، حسب ما هو منشور على موقعها الإلكتروني. مجموعة بن حمادي عنتر للتجارة (وأهم فروعها كوندور للإلكترونيات) لصاحبها عبد الرحمن بن حمادي بدأت، منذ عقود، شركةً صغيرة فيما بلغ رقمُ أعمالها 300 مليون دولار في 2011، بزيادة قرابة الضعف في خلال 3 سنوات (170 مليون دولار في 2009).
وعدا عبد الرحمن بن حمادي، نذكر من أرباب الصناعة الجدد "الموالين"، ممن صعد نجمُهم بدءا من العقد الماضي، العيد بن عمر، مالك مجموعة شركات تحمل اسمَه بلغ رقم أعمالها 258 مليون دولار في 2012 (اشترت السنة الماضية 60 في المئة من أسهم مؤسسة مطاحن الحبوب العمومية "الرياض"). كذلك نذكر منهم الطيب الزرايمي عبد القادر الذي ارتفع رأسمال شركة المطاحن الصناعية للمتيجة ("سيم") المملوكة له، 500 مرة بين 1996 (105 ألف دولار) و 2013 (51 مليون دولار) بحسب المقال المذكور. ويمكن القولُ إن أنشطتَه استفادت بما لا يدع مجالا للشك من ارتفاع واردات الحبوب في السنوات الأخيرة رغم أنف الميزانيات الخيالية المخصصة للدعم الفلاحي (3.16 مليار دولار في 2013 مقابل 1.1 مليار دولار في سنة 2000، أي في بداية حكم بوتفليقة). أما في القطاع التجاري، فمن أكبر مناصري "العهدة الرابعة" مراد عُلمي، صاحب مؤسسة توزيع السيارات سوفاك، التي بلغت قيمة أعمالها 450 مليون دولار في 2011. وهنا تجدر الإشارة إلى أن العهد البوتفليقي كان عهد رواج رهيب لسوق السيارات إذ زادت وارداتُها من 43 ألفا في 2000 إلى 554 الفا في 2013 (أي بحوالي 1200 في المئة) وبلغت قيمتها السنة الماضية 7.3 مليار دولار (12.5 في المئة من قيمة الواردات الإجمالية).
محاسن الريع... في انتظار الليبرالية الحقة
ما يلفت الانتباه في تموقع رجال الأعمال من ترشح الرئيس بوتفليقة لخلافة نفسه ليست الروح الهجومية لمناصريها بقدر ما هو احتشام معارضيها. فهم باستثناء قلّة قليلة، منهم سليم عثماني، رئيس شركة أن .سي. آ. رويبة، الذي استقال احتجاجا على قرار الجمعية العامة لمنتدى رؤساء المؤسسات تلك، اكتفوا بالتغيب عن هذا الاجتماع الحاسم بذرائع شتى.
ويعبر هذا التهرب تعبيرا بليغا عن الظرف الانتقالي الذي تجتازه قطاعات من البورجوازية الجزائرية ليست مصالحها كلَّها مرهونة عضويا باستمرار برامج الإنعاش الحكومية (وإن استفادت من ثمارها: توفر القروض المصرفية، ارتفاع القدرة الشرائية لشرائحَ واسعة، الخ). هذه القطاعات ترغب في الاستقلال بقرارها السياسي بما يتناسب وتوسع أعمالها، لكنها، في الوقت ذاتِه ، ليست بعد على درجة من الصلابة المالية والأدبية تسمح لها بمجابهة دولة تأتمر أجهزتُها بأوامر العُصَب الحاكمة، ولا تزال تتحكم في إدارة الاستثمارات وتوزيع العقارات الصناعية والتجارية تحكُّمَها في دواليب التجارة الخارجية.
وخلاصة القول أن قسما من أكثر أصحاب الأعمال ثراءً، إذ يقفون في صف عبد العزيز بوتفليقة، فلأن في بقائه على كرسي الرئاسة - ولو كان حكمُه، بالنظر إلى مرضه، اسميا لا غير - استمرارا لنهب بعضهم الريوعَ البترولية من خلال المشاريع التي يوكل إليهم إنجازُها، دون أية رقابة، في إطار سياسة إنفاق عمومي قلّ نظيرُها في العالم، ولاستفادة بعضهم الآخر من تضخم الواردات (سواء منها الموجهة للتصنيع كالحبوب، أو للتوزيع كالسيارات). أما أغلبية الرأسماليين فلا يبدو أنهم يرون مانعا من استبدال الرئيس الحالي برئيس غيره يمهّد لحلول شركاتهم محل الشركات العمومية، لكنهم سجناء خوفهم من انتقام البيروقراطية (والجهاز القضائي). وهم، موضوعيا، بسبب هذه الخوف، يغذّون بركة الاستقرار الوهمي الراكدةَ مثلهم مثل خصومهم "البوتفليقيين".