هزَّ الربيع العربي وثوراته عام 2011 المنطقة وتحالفاتها بالكامل وأعاد تشكيلها في صورة جديدة. مشهد جديد للعالم العربي بدأ يتشكل، لم يكن مرضيًا لأطراف كثيرة سارعت التحرك لتحويل الدفة.
أطاح عبد الفتاح السيسي بصفته وزيرًا للدفاع بأول رئيس مصري منتخب ديمقراطيًّا، محمد مرسي، وخلَّفت الإطاحة به انقسامات سياسية واجتماعية عميقة داخل مصر، توازيها اضطرابات دولية وإقليمية.
ومع تولِّي السيسي رئاسة مصر رسميًّا، في يونيو (حزيران) 2014، كان أمامه طريق طويل ومسار صعب لتحسين صورته أمام أطراف عدَّة، أهمها الولايات المتحدة.
خلقت تحركات السيسي أعداء وأصدقاء له في الكونجرس الأمريكي، منهم شيوخ ونواب ضغطوا لمنع المساعدات عن الجيش المصري بعد صعوده للسلطة، وآخرون ضغطوا لدعم السيسي لدواعٍ براجماتية تخدم المصالح الأمريكية، أهمها «ضبط الأمن في سيناء» و«تأمين الحدود مع إسرائيل».
وببراعة استطاع السيسي بناء علاقات مع مراكز القوى المختلفة داخل الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ومع شخصيات محورية بالكونجرس تشرف على اللجان الأمنية والعسكرية والمالية.
كيف أدار السيسي هذه الجهود في واشنطن في الأعوام الأولى بعد توليه الحكم؟ هذا ما تسرده السطور التالية.
«جلوفر بارك».. خدمة عالية التكلفة تنتهي بأزمة
وقَّعت حكومة مصر عقدًا مع مجموعة «جلوفر بارك – Glover Park Group» في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2013، لتكون أول شركة على الإطلاق تقبل بتمثيل النظام المصري بعد تحرّك الجيش في 3 يوليو (تموز) من العام نفسه.
بدأت الشركة عملها بنشاط وعلى عجل، فالمبلغ الأولي الذي اتفقت عليه مع مصر طائل جدًّا مقارنةً بأسعار سوق اللوبيات.
اتفق الطرفان على مبلغ 250 ألف دولار شهريًّا، ويشير حجم الرقم إلى صعوبة المهمة التي أخذتها مجموعة «جلوفر بارك» على عاتقها، ولأهمية هذا المسعى عند الزبون المصري.
وفقًا للتعاقد، تحصل «جلوفر بارك» في العام الواحد على قرابة 3 ملايين دولار، ولفهم الرقم في سياق أوسع، فلننظر إلى تعاقدات المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية مع ثلاث شركات ضغط سياسي كبرى في واشنطن عام 2011؛ إذ لم تكلف خدماتها طوال ذلك العام إلا 927 ألف دولار، رغم كثافة أنشطتها في ذلك الحين، وهو أقل من ثلث ما دفعه السيسي سنويًّا لشركة «جلوفر بارك».
لكن مصر لم تتحمل تلك الفاتورة وحدها؛ إذ كشف موقع «إنترسبت» عن مشاركة الإمارات بدفع مبلغ مليونين و735 ألف دولار نيابةً عن مصر، وكان هذا جزءًا من حملة أوسع لدعم السيسي والترويج له في واشنطن، انخرط فيها السفير الإماراتي، يوسف العتيبة، شخصيًّا. ولكن بعد أول عامين من العمل، في أغسطس (آب) 2016، وقعت مصر عقدًا جديدًا مع الشركة خفضت فيه الرسوم الشهرية من 250 ألف دولار إلى 166 ألفًا.
عملَ لحساب مصر في الشركة فريق من سياسيين مخضرمين وخبراء إعلام وعلاقات عامة. أولهم ألكس ميستري، الذي عمل مساعدًا خاصًّا للرئيس السابق بوش الابن، للتنسيق مع الكونجرس في الشؤون التشريعية.
عمل معه بريت أوبرين، الذي كان سابقًا مستشارًا في الشؤون الدفاعية والخارجية لريشتارد جيبهاردت، زعيم الديمقراطيين بمجلس النواب، وأشرف على التنسيق بينه وبين لجنة الاستخبارات بالمجلس. يعمل أوبرين في مجال اللوبيات منذ عام 2005. وتعمل في الفريق أيضًا جينيفر لوفين، وهي صحافية عملت سابقًا كبيرة مراسلي البيت الأبيض لوكالة «أسوشيتد برس» الدولية.
بلا شك، كانت العلاقة بين المجموعة ومصر علاقةً مثمرة للجميع؛ إذ تظهر وثائق وزارة العدل الأمريكية أن مجموع ما أخذته الشركة يصل إلى 13 مليونًا و250 ألف دولار عن خدماتها لأقل من ستة أعوام، قبل أن تنتهي العلاقة في 15 يناير (كانون الثاني) 2019، والسبب؟ المقابلة الشهيرة للسيسي مع برنامج «60 دقيقة»، التي فشلت شركة «جلوفر بارك» في إيقاف بثها، وعلى إثر ذلك أنهت مصر علاقتها بها.
«الاستبداد أو التطرف والإرهاب».. اليمين الأمريكي حليفًا للقاهرة
بدأت «جلوفر بارك» تقديم خدماتها في أكتوبر 2013، وفي السنوات الثلاث الأولى بعد الإطاحة بمرسي دأبت على تنفيذ خطة ضغط شاملة تبدأ بالكونجرس، تواصلت فيها مع وزارات الدفاع والخارجية والتجارة الأمريكية. ومن اللافت للنظر تواصلها مع مسؤولين عسكريين وجنرالات أمريكيين يعملون في الولايات المتحدة أو في مصر، ولم تكتفِ بالتواصل مع المسؤولين المدنيين بالبنتاجون.
شملت حملة الشركة التواصل مع وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى، ومع مراكز بحثية بواشنطن، وركزت تركيزًا خاصًّا على المراكز اليمينية و«الصقورية» التي تتبنى موقفًا سلبيًّا بشكل عام من أي تغيرات جذرية في الشرق الأوسط، مثل ثورات الربيع العربي، وترى أنها يمكن أن تؤدي لزعزعة استقرار المنطقة وصعود تيارات تهدد أمن إسرائيل والمصالح الأمريكية في المنطقة.
ليس من الصعب الترويج لسردية السيسي في هذه الدوائر الصقورية؛ فمن يعملون فيها يؤيدون الحل العسكري للتعامل مع مشكلات أمريكا الخارجية، ومعظمهم أيدوا الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان أو شاركوا فيه، ويغضُّون الطرف بخفَّة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مصر مقابل الاستقرار.
تطرح هذه الجهات سردية فيها خياران لا ثالث لهما: الاستبداد أو «التطرُّف والإرهاب».
2014-2013: العام الأول للنظام الجديد في واشنطن
تستفتح الشركة أنشطتها في الكونجرس بالتواصل مع مكتب السيناتور الجمهوري ليندسي جراهام. أحد كبار الجمهوريين بالمجلس، وكان منافسًا لترامب للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري له في انتخابات الرئاسة عام 2016.
عمل جراهام في 2013 في لجان المخصصات والقوات المسلحة، وكلتاهما معنيتان بالمساعدات الأمريكية العسكرية والاقتصادية لمصر، ويعمل في لجان مهمة أخرى مثل لجنة الميزانية، واللجنة القضائية التي أصبح لاحقًا رئيسها وقاد جهود الجمهوريين فيها لتعطيل عملية عزل ترامب.
بعد أحداث 30 يونيو (حزيران) 2013، خرج جراهام مع زميله السيناتور الجمهوري جون ماكين بمقال رأي نشر باسميهما في صحيفة «واشنطن بوست»، والمكتوب واضح من عنوانه: «اقطعوا المساعدات عن مصر».
استفتح الشيخان البارزان مقالهما بفقرة عن مرسي وإشكالات في فترة حكمه، ولكنهما سرعان ما يقولان إن ما حصل لا يمكن وصفه بأي حال من الأحوال إلا على أنه «انقلاب»، هذا الوصف الذي امتنعت إدارة أوباما عن استخدامه… لأن وقوع انقلاب على حكومة منتخبة يُلزم الحكومة الأمريكية قانونيًّا بقطع مساعداتها عن منفذي الانقلاب.
ولكن الشيخين يفتحان بابًا لإدارة أوباما في المقال، مذكِّرين الرئيس بأن سلطة الكونجرس تشمل فقط المساعدات من وزارة الخارجية الأمريكية، وأن مساعدات وزارة الدفاع تخضع لسلطة الرئيس وله حق التصرف فيها.
ويختتم الشيخان مقالتهما بتأكيد ضرورة إبقاء التعاون على المدى القصير في الملفات الأمنية و«مكافحة الإرهاب».
بطلب من الرئيس أوباما زار ماكين وجراهام مصر في 6 أغسطس (آب) 2013، واجتمعا في الزيارة مع أطراف سياسية مختلفة وحذَّرا من قطع المساعدات. بل طلب الشيخان الإفراج عن المعتقلين السياسيين من جماعة الإخوان المسلمين وتقديم ضمانات بضمِّ الإخوان للعملية السياسية، وفي الوقت نفسه طالبا الإخوان بإيقاف احتجاجاتهم ضد القوات المسلحة المصرية.
منذ 1987 وحتى 2016، قدَّمت الولايات المتحدة دعمًا عسكريًّا سنويًّا للجيش المصري قيمته مليار و300 مليون دولار، عدا عن المساعدات الاقتصادية والمالية الأخرى لمصر، وقدَّمت أمريكا هذه المساعدات بلا اشتراطات في ملف حقوق الإنسان.
بعد شهور من الإطاحة بمرسي، وما تلاها من انتهاكات جسيمة وقتل خارج القانون توِّج في مذبحة رابعة، أعلنت إدارة أوباما في أكتوبر 2013 تعليقًا جزئيًّا للمساعدات المخصصة لمصر.
وعلى الرغم من أن هذا التعليق أغضب النظام المصري ودفعه للتحرك بشكل مكثف في الكونجرس، فإنه كان تعليقًا جزئيًّا إلى حد كبير؛ إذ علَّق فقط 260 مليون دولار من المعونة المالية، ما يعني أن مليار دولار على الأقل قدمت للجيش المصري. أما الجانب العسكري في التعليق فيشمل إيقاف نقل مروحيات مقاتلة، وصواريخ، وأجزاء لدبابات، ومقاتلات من طراز «إف-16».
ولكن الولايات المتحدة تابعت تقديم أجزاء وذخيرة لأسلحة ومعدات أمريكية أخرى، عدا عن تدريب لطواقم أمنية مصرية في الولايات المتحدة. شكَّك آنذاك مسؤولون في إدارة أوباما بتأثير الإجراء في أداء مصر في «مكافحة الإرهاب» في سيناء، واعتبرت «رسالة رمزية» لا أكثر.
وفي النهاية رفعت إدارة أوباما حظر نقل الأسلحة والمساعدات الجزئي في مطلع أبريل (نيسان) 2015.
السيسي رئيسًا لمصر ومعركته الأولى في الكونجرس: المساعدات الأمريكية
في العام الأول بعد أحداث 3 يوليو 2013 مهَّد النظام الجديد الطريق لتحسين صورته خارجيًّا بإجراءات نفذها داخلَ مصر، أهمها استفتاء دستوري في يناير (كانون الثاني) 2014 لوضع دستور جديد بدلًا من الذي أقر في عهد مرسي في ديسمبر (كانون الأول) 2012.
لم يشارك في الاستفتاء الجديد عام 2014 إلا 38.6% من الناخبين المصريين، وأيد 98.1% منهم التعديلات الجديدة. وبعد صدور النتائج نشرت الخارجية الأمريكية بيانًا يصف المشهد في مصر بأنه «عملية انتقال سياسي»، ودعت الحكومة المصرية المؤقتة لتطبيق الحقوق والحريات التي يمنحها الدستور الجديد.
بعد الاستفتاء بشهور حلَّت الانتخابات الرئاسية الأولى بعد أحداث يوليو، وأعلن السيسي في 3 يونيو (حزيران) 2014 رئيسًا لمصر بفوز ساحق؛ إذ نالَ 96% من الأصوات، ليصبح المشير سادس رئيس لمصر، وتعود دفة الرئاسة من جديد لشخصية من خلفية عسكرية.
في منتصف 2014، بعد عام من حكم النظام الجديد في مصر، تابعَ جراهام السير على الخط نفسه، ضاغطًا لتقليص المساعدات ووضع شروط عليها للدفع بمصر نحو نظام سياسي أكثر ديمقراطية.
وبالفعل استطاع جراهام رعاية مشروع التقليص لينجح بقطع 400 مليون دولار من مساعدات مصر، 300 مليون منها قطعت من المساعدة السنوية للجيش، لتصبح مليارًا واحدًا فقط. ومن اللافت للنظر أن التقليص مرَّ بأغلبية كبيرة؛ إذا وافق 25 شيخًا عليه مقابل خمسة رفضوه.
وعلى كل حال، يأتي هذا التقليص الذي لم يدم طويلًا بعد تخفيض عام في حصة المساعدات للدول الأجنبية في ميزانية الحكومة الأمريكية، بالإضافة لحاجة لتوجيه مساعدات أكبر لأمريكا الوسطى.
ومن الجدير بالذكر أن جراهام عملَ على تقليص المساعدات للسلطة الفلسطينية في التشريع نفسه الذي يقلِّص المعونة لمصر، تأكيدًا منه على الموقف الأمريكي تجاه الأمن الإسرائيلي، ولمنع السلطة الفلسطينية من إنفاق أموال دافعي الضرائب الأمريكيين على «منفذي الإرهاب»، في إشارة للنفقات المخصصة لأهالي الأسرى والشهداء الفلسطينيين.
وبتواصل مستمر مع جراهام ومكتبه، وبعد أعوام قليلة، سيتغيَّر موقفه بالكامل من السيسي مع الصعود السريع لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بشكل خاص في العراق وسوريا. زارَ جراهام مصر عام 2016، واجتمع حينها مع السيسي، وبنهاية الزيارة تحدث عن ضرورة التحالف بين البلدين، وأن تكون الولايات المتحدة عامل تثبيت لمصر في حربها ضد «الإرهاب».
وفي تصريحاته وصف جراهام مصر بأنها ديمقراطية جديدة خارجة من حالة فوضى، وأضاف جراهام بأن السيسي «الرجل المناسب في الوقت المناسب».
وبإلقاء نظرة على أنشطة الشركة والجهات التي تواصلت معها، تتضح دقتها وبراعتها في التحرك وانتقاء الشخصيات المستهدفة. فجراهام واحد من عدة أعضاء في الكونجرس تواصلت معهم في العام الأول لنظام السيسي.
وفي تحوُّل جذري وكامل، طلب جراهام بعد الزيارة ضخ مساعدات طارئة لمصر، بالإضافة للبنان والأردن، لمساعدة هذه الدول على مواجهة تطورات صعود تنظيم داعش وآثاره فيها. ولم تكن هذه زيارة جراهام الأخيرة للسيسي؛ إذ تكررت في يوليو 2019، ويبدو أن العدو القديم للسيسي أصبحَ حليفًا له.
إذ كان للشركة اتصالات مع مكاتب شيوخ جمهوريين آخرين، منهم ماركو روبيو، عضو لجنة الاستخبارات، وعضو لجنة الخارجية ورئيس اللجنة الفرعية فيها عن حقوق الإنسان والديمقراطية. وتواصلت مع مكتب زميله روجر ويكر، عضو لجنتي القوات المسلحة والميزانية.
ومن الديمقراطيين تواصلت مع تيم كاين، وهو عضو بعدة لجان منها الميزانية والقوات المسلحة، ولربما تواصلت معه لأنه زعيم الأقلية الديمقراطية بلجنة فرعية داخل لجنة الخارجية، مسؤولة عن المساعدات الأمريكية التي تصرفها وزارة الخارجية، ومساعدات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID).
في فبراير (شباط) 2014 اتجه كاين في رحلة للشرق الأوسط مر فيها بالقاهرة، تذكر ملفات الشركة تنسيقها مع مكتبه قبل زيارته لمصر وبعدها، ليتحدث من القاهرة عن أن التقدُّم نحو الديمقراطية ليس سهلًا والدولة المصرية مشغولة بمحاربة الإرهاب، وأكَّد أنه استنكر الاعتداءات على الصحافيين ومنظمات المجتمع المدني، ولكن أهم ما يمكن أن يقوله من رحلته: إن على الولايات المتحدة متابعة تأكيد رغبتها بأن تكون شريكةً لمصر، وخاصةً في الشؤون العسكرية والأمنية.
حلفاء محتملون في الكونجرس
ويلاحظ أن تواصل الشركة مع مجلس النواب أقل من الشيوخ، ولم تسجِّل في النصف الأخير من عام 2013 إلا تواصلًا واحدًا ولكنه مع أهم النواب الجمهوريين، إد رويس، رئيس لجنة العلاقات الخارجية.
إد رويس رئيس اللجنة، وزميله اللدود إليوت أنجل، زعيم الأقلية الديمقراطية فيها، أصدرا بعد تحرك الجيش في 2013 بيانًا يدين تصوُّر جماعة الإخوان المسلمين ومحمد مرسي للديمقراطية، ودعا الجيش للتصرف بحذر. بالطبع يشير هذا البيان إلى مزاج مغاير تجاه أحداث مصر يختلف عن مزاج مجلس الشيوخ.
وفي الفترة نفسها، تواصلت الشركة بشكل مكثَّف، كما ستفعل طوال السنوات القادمة، مع الموظفين الذين يعملون بلجان الخارجية والمخصصات بالكونجرس. أما مع وزارة الخارجية، فقد اتصلت الشركة أكثر من مرة مع جوي دراكر، مسؤولة بمكتب الشؤون التشريعية، المشرف على التنسيق بين الكونجرس والخارجية. وتواصلت أيضًا مع جوناثان كاتز، مستشار رفيع بالخارجية.
في النصف الأول من عام 2014 اجتمعت الشركة بكبير موظفي مساعد وزير الخارجية، من مكتب الاستخبارات والبحث التابع للوزارة، لمناقشة التعاون العسكري بين البلدين، وظلت على اتصال به في العامين القادمين.
اجتمعت «جلوفر بارك» مرتين مع بيتر إيفانز، دبلوماسي بالخارجية. وبدأت الشركة اتصالاتها مع مركز الدفاع عن الديمقراطيات، المركز اليميني الصقوري، بتواصل مع خيري أباظة، العضو السابق بحزب الوفد المصري وباحث كبير بالمركز مختص بالشأن المصري. تحدَّث أباظة في مقابلات إعلامية عن تطوُّر الأوضاع في مصر إبان 3 يوليو 2013، واصفًا ما حصل بالثورة ضدَّ نظام يريد تكرار ما فعله نظام مبارك بالمصريين.
في 28 أكتوبر 2013، اجتمعت الشركة مع زاك جولد، وهو مختص بالحركات الجهادية والسلفية في مصر، وتعاون في تلك الفترة مع مركز «بروكينجز» البحثي لكتابة ورقة بحثية عن سيناء، نشرها قبل أيام من اجتماع الشركة به. تحلل الورقة فرص التعاون بين مصر وحماس وإسرائيل في شبه جزيرة سيناء لمواجهة الحركات الجهادية فيها.
ويقول جولد في الورقة إن عمليات مصر العسكرية في سيناء في الغالب لن تتوقف بعد تعليق المساعدات الأمريكية. ولربما اجتمعت الشركة معه لمناقشته في هذه الجزئية على وجه الخصوص، فقد كانت تخوض حربًا في الكونجرس لمتابعة ضخ المساعدات. لاحقًا اجتمعت به الشركة مرة أخرى في 24 مارس (آذار) 2014.
في النصف الأول من عام 2014 تابعت الشركة تواصلها مع أعضاء الكونجرس الذين تواصلت معهم سابقًا، وتواصلت مع أعضاء آخرين، منهم: النائب الديمقراطي جيم هيمس، عضو لجنة الاستخبارات. ولهيمس تحوُّلات مثيرة للاهتمام تجاه مصر. فمع اندلاع ثورة يناير أيَّدها وأشاد بـ«تسامح» الجيش المصري مع المتظاهرين، وزار مصر في فبراير (شباط) 2014 واجتمع مع السيسي.
وقال رغم أن مرسي انتخب ديمقراطيًّا وأن السيسي على خلاف ذلك، فإن حكم مرسي كان«كارثيًّا»، ويتابع حديثه عن السيسي: «أعجبك أم لا، السيسي هو الموجود الآن». ويتحدث عن تفاجئه من وعي السيسي ومعرفته الاقتصادية، ثم كالعادة، يشغِّل عضو الكونجرس أسطوانة الاستقرار والأمن مقابل الحريات، ويرى أن الأمريكان أخطؤوا عندما اعتقدوا أن الديمقراطية يمكن أن تأتي سريعًا، مؤكدًا أنها «عملية أجيال».
يقول هيمس هذا الكلام في خلاف مع نفسه عام 2011 عندما قال إنَّ الولايات المتحدة حيثما دعمت الأنظمة الاستبدادية كانت النتيجة سلبية لمصالحها على المدى البعيد، واستذكر مثال شاه إيران، حليف أمريكا الوثيق في الشرق الأوسط قبل أن تخلعه ثورة عارمة في إيران عام 1979.
ويبرز في وثائق الشركة اسم النائب الجمهوري ماريو دياز بالارت، من لجنة المخصصات. امتلكت إدارة السيسي علاقة قوية ببالارت، وهو الراعي الأول لتشريع في الكونجرس يطمح لتصنيف جماعة الإخوان المسلمين على أنها «جماعة إرهابية» وفرض عقوبات عليها، وفشلَ المشروع رغم أن بالارت طرحه عدة مرات في الدورات الماضية للكونجرس. جاء أول تشريع شارك فيه عام 2014، ثم رعى بنفسه المشروعات التالية في 2015، وفي 2017، وآخرها في 2019.
وعدا عن التواصل المستمر للشركة معه، تتواصل الدبلوماسية المصرية مع بالارت باستمرار، فمثلًا تناقش مع مسؤولين مصريين في قمة دافوس بتاريخ 23 يناير 2014 جهود الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط. وفي أكتوبر 2015 اجتمع به ياسر رضا، السفير المصري بالولايات المتحدة، وتكرر الاجتماع في 2017. بالإضافة لاجتماعين له مع وزير الخارجية المصري، سامح شكري، آخرها في مارس (آذار) 2019.
علاقات عسكرية- عسكرية
في العام الأول للسيسي في عالم اللوبيات، تواصلت الشركة مع جهات عسكرية أمريكية عدَّة. من أهمها اتصالات مع ريتشارد كلارك، جنرال بالقوات الجوية الأمريكية، ويدير مكتب التعاون العسكري الأمريكي المصري في القاهرة. جرت هذه الاتصالات لمناقشة «العلاقات العسكرية- العسكرية» بين مصر والولايات المتحدة.
ولاحقًا تطوَّرت الاتصالات لاجتماعات، كان أوَّلها مع الجنرال كلارك في 4 يونيو 2014، تلاها اجتماع في 9 يونيو ضمَّ فريقًا من العاملين بمكتب التعاون العسكري في مصر، فبالإضافة لكلارك حضرَ الاجتماع ألفريدو سانشيز، من قسم التخطيط والسياسات بشعبة الشرق الأوسط، والجنرال مايك بلين من القسم نفسه.
وللشركة اجتماعات مع شخصيات عسكرية أخرى، منها إيريك شوبرت، رئيس قسم القوات البحرية في مكتب التعاون العسكري، ووفقًا لحسابه على منصة «لينكدإن» أشرف شوبرت على المبيعات الأمريكية للبحرية المصرية، وعلى التعاون الاستراتيجي العسكري بين البلدين بين يناير 2013 وحتى أبريل (نيسان) 2015.
من المدنيين المعنيين بالشأن العسكري، لدينا ثلاثة اجتماعات بتواريخ متفرقة مع كاثرين هاريس، وهي المسؤولة الأولى عن مكتب مصر في وزارة الدفاع من أغسطس 2013 وحتى يناير 2014، حين رقيت لتصبح مساعدة خاصة لوزير الدفاع.
العام الثاني في واشنطن
في العام الثاني بعد الإطاحة بمرسي استمرت الشركة بالتواصل مع الأعضاء أنفسهم في الكونجرس، ولكن أضافت للقائمة السيناتور المستقل آنجوس كينج، وهو عضو بعدة لجان منها الميزانية والقوات المسلحة والاستخبارات.
صوَّت كينج لإعادة المساعدات الأمريكية للجيش المصري، لسببين تحدث عنهما في مقابلة إعلامية في أغسطس 2013، الأول: مصر شريك مهم لإسرائيل في اتفاقية سلام استمرت لأكثر من 25 عامًا. والسبب الثاني هو أن الأمريكيين «إذا أرادوا أن يؤثروا في سير الأحداث في مصر فعليهم أن يتابعوا تقديم المساعدات بدلًا من قطعها».
في هذه الفترة تواصلت الشركة مع شخصية شديدة الأهمية، هو النائب الجمهوري المحافظ دانا رورباكر، عضو لجنة الخارجية ورئيس اللجنة الفرعية فيها عن أوروبا وأوراسيا والتهديدات الناشئة.
أسس رورباكر في يوليو 2014 تكتلًا جديدًا لمصر في الكونجرس، بهدف تعزيز العلاقات بين البلدين وتعزيز التعاون العسكري، وضغط رورباكر ضغطًا مستمرًّا لمتابعة إمداد مصر بالعتاد العسكري والمساعدات التي تحتاجها. وشاركه في تأسيس التكتل جمهوريون محافظون آخرون.
في مارس 2015 اجتمع رورباكر مع السيسي، وتكررت زيارته للقاهرة في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، ناقش في هذه الاجتماعات «خطر داعش والمجموعات الإسلامية المتطرفة»، وتكررت الاجتماعات لاحقًا.
وكثفت الشركة في هذه الفترة أنشطتها مع المراكز البحثية. فتواصلت واجتمعت مع براين كاتوليس، وهو باحث مختص بالشرق الأوسط ويكتب عن مصر.
ومجددًا تواصلت مع المركز «الصقوري»، مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، تحديدًا مع أورين كيسلير، نائب مدير الأبحاث بالمؤسسة. تحدث كيسلير مرارًا عن تخوف مصر من وجود مرسي في سدة الحكم، وفورَ إطاحته تحدث عن ارتياح في تل أبيب، وظلَّ في السنوات التالية يروِّج لتعميق العلاقات بين مصر وإسرائيل وتقويتها.
تواصلت الشركة أيضًا مع معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أحد المراكز البحثية المقرَّبة من «أيباك»، الذراع الأولى للوبي الإسرائيلي بواشنطن. واستمرت الاجتماعات العسكرية، ولكن مع وجوه جديدة، منها ديريك كوليت، نائب مساعد وزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي. والضابط الأمريكي هيكتور لوبيز، من الجوية، ويعمل بمكتب التعاون العسكري في مصر.
ولكن أهم اجتماع في هذه الفترة، كان مع تشارلز هوبر، الملحق العسكري لمصر ومدير مكتب التعاون، من يوليو 2014 وحتى يونيو 2017.
المخابرات المصرية توظف شركات ضغط سياسي
في حالة نادرة جدًّا، دخل جهاز المخابرات العامة المصري بنفسه ومباشرة في عقود مع ثلاث شركات ضغط سياسي أمريكية، بدأ علاقته بها في يناير 2017 وفي منتصف ذلك العام.
مع دخول الجهاز على خط الضغط السياسي قلَّت تدريجيًّا الأنشطة التي تنفذها مجموعة «جلوفر بارك» للحكومة المصرية، ولكنها لم تتوقف ولم تنقص أهميتها على الإطلاق، بل تابعت الاتصال مع شخصيات مفتاحية بالحكومة الأمريكية.
فقد اجتمعت في 17 سبتمبر (أيلول) 2015، مع جوزيف ريكسي، رئيس وكالة التعاون الأمني الدفاعي، وهي وكالة تتبع وزارة الدفاع الأمريكية، معنية بالتعاون العسكري بين الولايات المتحدة وحلفائها وبالصفقات العسكرية، وتقدم تدريبًا واستشارات للقوات المسلحة الأجنبية الحليفة. واجتمعت الشركة مع موظفين في الوكالة نفسها، منهم إدموند أوكالاهان، مسؤول مكتب مصر في الوكالة.
في النصف الأول من 2016 بدأت الشركة اتصالاتها مع نواب مهمين، أولهم الجمهوري ديفين نونيز، رئيس لجنة الاستخبارات بالمجلس حينها وأحد أقوى الجمهوريين فيه.
زار نونيز مصر أكثر من مرة، إحداها في 4-5 مايو (أيار) 2015، اجتمع فيها مع الرئيس السيسي ومع وزير خارجيته، سامح شكري، وحضر الاجتماع رئيس جهاز المخابرات العامة آنذاك، اللواء خالد فوزي.
ناقشت الزيارة جهود مصر في مكافحة تنظيم «داعش» وزار النائب الجمهوري صحراء سيناء، وعبَّر للسيسي عن ارتياحه بعودة المساعدات الأمريكية بالكامل لمصر.
في تغريدات قديمة لنونيز على حسابه بمنصة «تويتر»، انتقد سياسة إدارة أوباما وتعاطيها مع أحداث ثورة يناير، واستنكر تخلِّيها عن مبارك وتساءل: ما البديل؟ وبعد فوز مرسي بالانتخابات في يونيو 2012 أعاد نشر تغريدة تصف الربيع العربي بـ«كابوس الإسلام الراديكالي».
وتواصلت الشركة في تلك الفترة أيضًا مع النائب الديمقراطي دتش روبيرسبيرجر من لجنة المخصصات، وكان قبلها زعيم الأقلية الديمقراطية بلجنة الاستخبارات. مع نهاية 2016، اقتصرت اتصالات الشركة فقط على ليندسي جراهام، السيناتور المتقلِّب، وعلى الموظفين العاملين بلجان الخارجية.
واستمرت الشركة في تقديم خدماتها للحكومة المصرية، قبل أن تنتهي العلاقة في 15 يناير 2019، بعد المقابلة الشهيرة للسيسي مع برنامج «60 دقيقة»، التي فشلت شركة «جلوفر بارك» في إيقاف بثها، وعلى إثر ذلك أنهت مصر علاقتها بها.
قرر السيسي المشاركة في البرنامج الحواري المعروف الذي عادةً ما تطرح فيه أسئلة مباشرة على الضيوف، ولكن سرعان ما بدا امتعاض السيسي وانزعاجه من الأسئلة المتعلقة بالحريات السياسية وحقوق الإنسان والقتل في مصر.
فورَ انتهاء جلسة تصوير المقابلة، أرسلت السفارة المصرية طلبًا رسميًّا لمعدي البرنامج ليوقفوا بث الحلقة، وتذكر إحدى العاملات بالبرنامج أن الضغط جاء أيضًا من رئيس جهاز المخابرات العامة، اللواء عباس كامل، الذي حضرَ جلسة تسجيل المقابلة. ولكن فريق عمل البرنامج رفض جميع هذه الطلبات وبثَّ الحلقة وحينها قطعت مصر علاقاتها بشركة «جلوفر بارك».
في الواجهة وعلى أعتاب الكونجرس.. ماذا تفعل المخابرات المصرية في لوبيات واشنطن؟
وبهذا انتهت رحلة الشركة التي قادت الضغوط المصرية في السنين الأولى لنظام السيسي وساعدته على تجاوز عقبات حقوق الإنسان والديمقراطية، التي حالت بينه وبين المساعدات الأمريكية في العام الأول من مسيرته في حكم مصر.
لكن تلك الضغوط كانت جزءًا من حملة أكبر تابع تنفيذها جهاز المخابرات العامة المصري منذ 2017.
هذه القصة جزءٌ من مشروع «الحج إلى واشنطن»، لقراءة المزيد عن «لوبيات» الشرق الأوسط اضغط هنا.
*رابط المقال على موقع "ساسة بوست": https://cutt.ly/vk6EVtd