رفضت أهمّ الأحزاب والشخصيات المعارضة في الجزائر، على اختلاف أطيافها، المشاركةَ في المشاورات الرسمية حول تعديل الدستور. من المؤكد أن هذا الموقفَ سيعقّد عمل المكلف بهذه المهمة، مدير ديوان الرئاسة أحمد أويحيى، لكن هل سيمنع الرئيس بوتفليقة من المضيّ في مشروعه هذا... دون كبير اكتراث للمقاطعين؟ النظام الجزائري لديه من الموارد المالية ما يكفي للاستغناء عن رضى المعارضين عنه، عكس المغرب حيث لا تُمكِّن ندرةُ هذه الموارد القصر الملكي والمخزن من شراء دعم الأحزاب لهما وتجبرهما على اقتسام السلطة معها، (بحسب الباحث السياسي الفرنسي لويس مارتيناز، "الوطن" الناطقة بالفرنسية، عدد 21 أيار/مايو 2014).
تزوير؟
ويؤيد احتمالَ عدم اكتراث عبد العزيز بوتفليقة لمقاطعة مشاوراته حول تعديل الدستور غيابُ ردّ فعل قوي للأحزاب والشخصيات المعارضة على فوزه بانتخابات نيسان/أبريل الماضي (81 في المئة من الأصوات، رسميا)، وذلك رغم تأكيدها بأن هذا الفوز سطو فاضح على الإرادة الشعبية. حال إعلان النتائج، اتهم المرشح علي بن فليس الإدارةَ بأنها نظمت عملية تزوير واسعة النطاق، مؤكدا أنه هو الفائز الشرعي بأغلبية 50 في المئة. لكنه إلى اليوم لم ينظم نصفَ تظاهرة من تظاهرات الاحتجاج التي كان قد هدّد بتنظيمها في حال حدوث "تزوير واضح" (مثيرا آنذاك اتهامات خطيرة له بإدخال البلاد في متاهات "الربيع العربي"). أيعقل ألا يقدر مرشح حصد نصف أصوات الناخبين على تجنيد بضع مئات منهم احتجاجا على حرمانه من فوزه المشروع؟
وللأمانة فقد جنّد علي بن فليس في الأسابيع الأخيرة طاقم مستشاريه لا للاعتصام أمام المجلس الدستوري أو مقر لجنة مراقبة الاقتراع، وإنما للمشاركة في اجتماعات مع "التنسيقية الوطنية من أجل الحريات والانتقال الديموقراطي" المكوّنة من أحزاب إسلامية ذاتِ أصول إخوانية ("حركة مجتمع السلم" و"جبهة العدالة والتنمية" و"حركة النهضة") وأخرى ليبرالية ("التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية" و"الجيل الجديد") ومن "شخصيات عامة" تطمح إلى لعب دور سياسي محوري، كرئيس الوزراء السابق أحمد بن بيتور. واستهدفت هذه الاجتماعات توحيد صفوف مناوئي العهدة البوتفليقية الرابعة على اختلاف مواقفهم من المشاركة في الانتخابات الرئاسية، لكنها إلى الآن لم تسفر عن شيء سوى قرار... عقد ندوة وطنية حول الانتقال السلمي للسلطة. لم يفلح علي بن فليس بعد في إقناع شركائه في هذا التكتل بالعمل معه على كسب الانتخابات التشريعية المقبلة لنقل احتجاجات المعارضة إلى المجلس الشعبي الوطني (البرلمان)، ومن غير المستبعد أن ينسحب من المشهد السياسي تدريجيا كما في 2004 إثر انهزامه أمام المرشح الرسمي ذاته، الخالد أبدا رغم الأزمات السياسية والمحن الشخصية، عبد العزيز بوتفليقة.
حال قوى المعارضة
وقد نتصوّر أن رفض "التنسيقية الوطنية من أجل الحريات" (وريثة "جبهة مقاطعة الانتخابات الرئاسية") للمعارضة البرلمانية مردُّه إيمانها بإمكانية إجبار النظام على إصلاح نفسه تحت ضغط الشارع، والحقيقةُ أنها لم تحتكّ بالشارع منذ نشأتها سوى يوم 21 آذار/مارس 2014، في مهرجان سياسي في العاصمة لم يتجاوز عدد المشاركين فيه بضعة آلاف ولم يُتبع بآخر، لا قبل الاقتراع ولا أثناءه ولا بعده.
وبالنظر إلى ضعف الأطراف المكونة لها، لا غرابة في الصعوبات التي تواجهها التنسيقية في الظهور بمظهر قطب سياسي فعال. إسلاميو "حركة مجتمع السلم" كانوا في التسعينيات أصدقاءَ الجيش وبرلماناته الانتقالية غير المنتخبة، قبل أن يصبحوا من 1999 إلى 2012 "إخوان بوتفليقة المسلمين"، خاصة في إطار "التحالف الرئاسي" مع "جبهة التحرير الوطني" و"التجمع الوطني الديموقراطي"، وهو ما يحد من مصداقيتهم كمعارضين للجيش نفسه وللرئيس نفسه. كذلك، كانوا ممثلين في الحكومة باستمرار من 1996 إلى 2012 ولم ينسحبوا منها إلا بعد اندلاع "الربيع العربي"، اعتقادا منهم بأن القوى العظمى بصدد تجريب "الحل الإخواني" في المنطقة، وأنها ستصطفيهم بديلا للنظام. "جبهة العدالة والتنمية" و"حركة النهضة" كلتاهما نتاج انقسامات أنهكت حركةَ النهضة الأم وحولتها إلى حزب صغير لا يقل تواضعا عن التنظيمات التي انبثقت عنها. "التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية"، الذي دعم انتخاب الرئيس بوتفليقة في 1999 قبل أن ينقلب عليه وينسحب من حكومته عند اندلاع انتفاضة الربيع الأسود في المنطقة القبائلية (2001)، يدفع منذ سنوات ثمن تراجع تمثيله في هذه المنطقة، خاصّة انه لم يعوّضه بانغراس معتبر على المستوى الوطني لطالما حلُم بأن يخلِّصه من وصمة "الجهوية". أما أحمد بن بيتور، فيبدو أن مجالَ تأثيره كـ"شخصية وطنية" لا يتعدى بعض الصحافيين والتكنوقراط ممن لا يدركون أن اكتساب مصداقية في أعين الجزائريين يتطلب النزول إلى المعترك السياسي أكثر من بضعة أسابيع كل خمس سنين.
وبطبيعة الحال، لا يمكن الحديث عن المعارضة الجزائرية دون الحديث عن "جبهة القوى الاشتراكية"، التي لم تدعم أي مرشح في الانتخابات الرئاسية لكنها لم تلتحق بجبهة المقاطعة. أول ما يمكن قوله عنها إنها، كـ"التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية"، ضحيةُ تراجعها في معقلها، المنطقة القبائلية. لكنّها، عكس أخيها اللدود هذا، في تقارب شبه معلن مع عبد العزيز بوتفليقة، لاحت بوادرُه في 2012، بمشاركتها في انتخابات تشريعية كان يُتوقَّع منها العزوف عنها لعدم مساعدته على الخروج بحكمه من ورطته في أوج "الربيع العربي".
وقد أجبرها واجب التوفيق بين تاريخها الراديكالي وواقعِ عدم تجندها ضد ترشح الرئيس لعهدة رابعة على اتخاذ موقف غريب من انتخابات نيسان/أبريل الماضي، "لا مشاركة ولا مقاطعة"، موقف لا يمكن تأويله إلا كتهرب من الحرج أمام قطبين يتجاذبانها: من جهة النظام الذي يرى في زعيمها حسين أيت أحمد، وهو أحد قادة الكفاح المسلح ضد الاحتلال الفرنسي، سندا طبيعيا له في حملته ضد خطر التدخل الخارجي في الجزائر والمنطقة العربية، ومن جهة أخرى، القواعد الشبابية القبائلية التي لا سبيل لإقناعها بأن حكام البلاد يريدون الذودَ عنها بينما هم لا يتورعون عن نهبها.
ومن الظاهر أنه لا يمكن التعويل على "حزب العمال" لتنشيط المعارضة خلال هذه العهدة الرابعة، فهو منذ سنوات، وباسم حماية الدولة الوطنية من المخططات الامبريالية، تموضع موضوعيا في معسكر الاستقرار، أو الوضع القائم بعبارة أدق، ويؤكد ذلك خطابُه الانتخابي الذي تجنب تجنبا تاما انتقادَ قائد هذا المعسكر، عبد العزيز بوتفليقة، في حين لمح أكثر من مرة إلى أن علي بن فليس هو مرشح القوى العظمى لقيادة "ثورة برتقالية" في الجزائر.
هذا هو حال المعارضة الجزائرية: هياكل حزبية لم تمتْ بعد لكنها تتآكل من الداخل، وشخصيات وطنية ينقصها النفَس الطويل وربما أيضا الاستقلال عن مراكز القرار المناوئة لعبد العزيز بوتفليقة في الجيش والإدارة.
معارضة لم تستطع منذ 2001 الاستفادة من سياق داخلي ميزته مئات الاحتجاجات العمالية والشبابية، ولا من سياق إقليمي منذ 2011 بثّ الذعر في قلب السلطة، فلم تتجنب انعكاساتِه داخليا إلا بزيادة الإنفاق العمومي. وهي إن لم تقدر على الاستفادة منه لإطلاق مسار "التغيير" فلأن وجودَها نفسَه، أيّا كانت مواقفُها من الاستقرار البوتفليقي، أصبح مرهونا بهذا الاستقرار، فلا يمكن بدونه تصوّر وجودها بشكلها الآفل الحالي وصراعاتِها المحتدمة ولغتِها الخشبية - المصقولة كاللغة الرسمية - وعزوفِها عن العمل الميداني واكتفائها ببيانات الإدانة والتنديد (ماذا لو كانت الحركة الحقوقية التونسية اكتفت بمثل هذه البيانات؟ أكان بن علي منفيا في أبها أم يصول ويجول في قرطاج؟).
العطب
ليس القمعُ وقدرة النظام على "شراء" دعم قسم من المجتمع له وحدَهما ما يمنعان المعارضة من العمل الميداني والاتحاد حول مطالب أساسية. ما يمنعها من ذلك أيضا عائقٌ بنيوي هو انتماؤُها، كالسلطة التي تدعو إلى رحيلها، إلى مرحلة تاريخية عفا عنها الزمن، أهم ما يميزُها قبول بيروقراطيات الأحزاب لعب دور سياسي وهمي مقابل السماح لها بانتقاد الحكومة والرئيس - بل وحتى الجيش واستخباراته وقائد استخباراته شخصيا – ما دامت ممنوعة من النشاط الفعلي في غير أوقات الانتخابات وساكتة عن هذا المنع بما يشبه الرضا به.
وبالنظر إلى هذه العوائق وغيرها (تفتت الصف العمالي وانقسامه، مثلا)، لا يمكن لريح التغيير أن تهبّ إلا من حيث تهبُّ دوما منذ انتفاضة "أكتوبر 1988"، أي من قلب الفئات الشبابية التي تزداد فقرا وتهميشا كلما ازدادت وطأة الأوليغارشيات القديمة والحديثة التي تغذيها أموال الريع البترولي وتَعَزَّز معسكر الولاء بشرائح وسطى جديدة لا ترغب في شيء غير الحفاظ على طاقتها الاستهلاكية. هذه الفئات المهمّشة، من المطرودين من التعليم العام والعمال المياومين والعمال في السوق السوداء، هي الوحيدة المنعتقة من عبودية "الاستقرار"، لكن ثورتها إن حصلت في هذه الصحراء السياسية القاحلة، فلن تبقي ولن تَذَر، بل قد تكون نقطة البداية لما يزعم النظام السعي لتجنبه، "التدخل الأجنبي في شؤوننا الداخلية".