الجزائر: عن هواية إعادة تنظيم.. أنقاض «الصناعة الوطنية»

في آخر آب 2014، أعلنت الحكومة الجزائرية نيّتَها إعادةَ هيكلة القطاع الصناعي العمومي ذي الهدف التجاري (أي الذي يستقصد الربح) في شكل 10 مجمعات عملاقة. وأكد وزير الصناعة والمناجم أن هذه الهيكلة الجديدة ستبسِّط اتخاذ القرارات التسييرية بتركيزها في أيدي هيئة واحدة بدل تشتُّتها حاليا بين عدة هيئات (الشركات نفسها، الشركات القابضة التي تمتلك رساميلَها باسم الدولة...)، كما أن حجم هذه
2014-10-08

ياسين تملالي

صحافي من الجزائر


شارك
من الانترنت


في آخر آب 2014، أعلنت الحكومة الجزائرية نيّتَها إعادةَ هيكلة القطاع الصناعي العمومي ذي الهدف التجاري (أي الذي يستقصد الربح) في شكل 10 مجمعات عملاقة. وأكد وزير الصناعة والمناجم أن هذه الهيكلة الجديدة ستبسِّط اتخاذ القرارات التسييرية بتركيزها في أيدي هيئة واحدة بدل تشتُّتها حاليا بين عدة هيئات (الشركات نفسها، الشركات القابضة التي تمتلك رساميلَها باسم الدولة...)، كما أن حجم هذه المجمعات الكبير سيمكِّنها، على حدّ قوله، من تعزيز موقفها في حلبة المنافسة.
ويتكون القطاع الصناعي المعني بهذا القرار من 317 شركة تمتلك رساميلَ أغلبها باسم الدولة، ومنها 18 «شركة تسيير مساهمات». وقد وجب التنويه هنا بأنه لا يضم أكبرَ شركتين جزائريتين من دون منازع : البتروغازية سوناتراك وشركة الكهرباء والغاز سونلغاز (المحكومتين بنظام خاص). وقد بلغ حجم أعمال هذا القطاع في 2013 حوالي 338 مليار دينار جزائري (قرابة 4.2 مليار دولار أميركي)، أي 41 في المئة من مجمل رقم اعمال الهيئات الاقتصادية الحكومية، فيما بلغت القيمةُ المضافة التي حققها في السنة ذاتها 138 مليار دينار (1.7 مليار دولار)، أي 35 في المئة من القيمة المضافة لمجموع القطاع العام، وقُدِّرعددُ المشتغلين فيه بـ94 ألف شخص، أي 32.5 في المئة من مجموع العاملين في هذا الأخير.

تكرار

وليست هذه أوّلَ مرة تعمد فيها السلطات الى إعادة هيكلة القطاع الصناعي الحكومي بهدف «أقلمته مع التحولات الاقتصادية المحلية منها العالمية»، كما يحلو لها دائما أن تقول، بل إن إعادةَ هيكلته بانتظام هوايةٌ من هواياتها، يتغير شكل ممارستها مرّة كل عقد. بعد تفتيت الشركات القومية الكبرى في مطلع الثمانينيات إلى شركات أصغر بزعم «تركيز كل منها على مهنة معينة»، أُنشئت بدءا من أواخر الثمانينيات هيئات كبرى كُلِّفت بتسيير رساميل الدولة المستثمرة في هذا الفرع أو ذاك، فمن «صناديق المساهمة» في 1988 صرنا إلى «الشركات القابضة» في 1996 ثم إلى «شركاتِ تسييرِ مساهمات» في 2001. وفيما كانت الهيئات تتواتر وأسماؤُها تتغير - وإن لم تتباين مهامُّها جوهريا - تقلّص النسيج الصناعي العمومي بفعل اختفاء مئات الشركات «المفلسة»، حيث تم خلال التسعينيات، في عز الاضطراب الأمني، حلُّ ما لا يقل عن 443 شركة، منها 60 شركة قومية و383 شركة محلية (جهوية)، كان من بعض مزاياها الاقتصادية توزيعُ النشاط الصناعي بشيء من التساوي بين مختلف الأقاليم، ومن مزاياها الاجتماعية تشغيلُ عشرات ألاف الأشخاص أصبحوا بين عشية وضحاها في عداد البطالين.
ويمكن القول إن إعادة الهيكلة التي أقرتها مؤخرا حكومة عبد المالك سلال هي، بشكل ما، عودة إلى تنظيم القطاع الصناعي العمومي في مطلع الثمانينيات، قبل تفتيت «الشركات الوطنية» التي أنشئت في الفترة «الاشتراكية». من هذه الزاوية، هي بلا ريب اعتراف ضمني متأخر بخطأ قديم اقتُرف في خضم الانبهار بمحاسن الانفتاح والرغبة في التخلص من الإرث البومديني. وتبدو الهيكلة الجديدة في مجملها مشروعا معقولا، فمن المفروغ منه أن إنشاء مجمعات كبيرة من شأنه أن يعزز القدرة على المنافسة ويمكِّن اقتصادا فعليا في الوسائل - بفضل استعمالها المشترك - ويتيح عقد صفقات شراكة هي مستحيلةٌ اليوم لأن 10 في المئة فقط من الشركات الصناعية العمومية، باعتراف وزير الصناعة، يحقق حجم أعمال يناهز 2 مليار دينار (24 مليون دولار)، أي بعبارة أخرى، ما يعادل... 0.6 في المئة من أعمال «سيفيتال»، أكبر شركة جزائرية خاصة (4 مليارات دولار في 2013).

أين المخطط؟

المشكلة ليست شكل الهيكلة الجديدة العام ولا ضرورتَها تقنيا. المشكلة في أنها لا ترتكز، على ما يبدو، إلى إستراتيجية تحدّد للصناعة الجزائرية عموما - والصناعة الحكومية خصوصا - أهدافا واضحة فيما يخص معدلات نموها السنوي وتطوير حجم صادراتها ومستوى التراكم التكنولوجي الذي ستتيحه في كل فرع، وكذا نسبة تكاملها داخليا (لا فائدة من صناعة تستورد أغلب مكونات منتجاتها ولا تصنع منها سوى نسبة صغيرة). صحيح أن السياسة الصناعية التي اتبعتها الدولة بعد الاستقلال في إطار المخططين الرباعيين (1970-1973 و1974-1977) والمخطط الخماسي (1980-1984)، حَريّةٌ بألذع أنواع الانتقاد، وأنها بتفضيلها الصناعات الثقيلة تفضيلا شبه كامل تسببت في إهمال الصناعات الخفيفة والفلاحة... لكنها، بلا شك، كانت ترتكز إلى إستراتيجية اقتصادية حقيقية هي إستراتيجية الصناعات المصنّعة كجرار للاقتصاد بكل مجالاته.
ما أبعدنا اليوم عن أحلام تلك الحقبة الغابرة، أحلام تحوّل دول العالم الثالث إلى قوى صناعية متكاملة بعضها مع البعض الآخر. لكن مهما كانت أحلام اليوم متواضعة، لا يمكن النظر إلى إعادة هيكلة الصناعة العمومية كشكل من أشكال «تصريف الأعمال». بالعكس، أكثر من أي وقت مضى، يجب أن تستند إلى تفكير متأنّ في حظوظها في النجاة بنفسها. فبدء التبادل التجاري الحر مع أوروبا سيكون بعد 6 سنوات - ولا رغبة للحكومة في تأجيله - والجزائر تحث الخطى للانخراط في منظمة التجارة العالمية، ما سيعني فتح سوقها فتحا تاما للمنافسة الدولية لا لمنافسة الاتحاد الأوروبي فحسب.
لا ترى السلطات الجزائرية أزمة الصناعة العمومية الجزائرية سوى كـ«أزمة تنظيم»، متجاهلة أن الواقع أمرّ من ذلك بكثير، فرغم تطور حصة القطاع الخاص من القيمة المضافة الصناعية خارج المحروقات (الثلث حاليا مقابل 25.9 في المئة عام 1989)، لا تزال البلاد في منحدر العودة إلى عهد ما قبل السبعينيات، وهو ما يثبته تراجع حصة النشاط الصناعي في الناتج الداخلي الخام من 18 في المئة في 1982 إلى 4.9 في المئة في 2013، بالتزامن مع ارتفاع بالغ لحصة المحروقات فيه (26 في المئة في 1980 مقابل حوالي 40 في المئة في 2013).
ما يجعل الحكومة تتعامل مع أزمة القطاع الصناعي الحكومي بهذا الشكل البيروقراطي ـ بـ«إعادة تنظيمه» دوريا - هو أمران. الأول انعدامُ التقييم النقدي لعملها، إذا استثنينا تنديدات بعض النقابات والأحزاب اليسارية، ودعوات بعض القوى الليبرالية الصغيرة إلى تسريع وتيرة تحرير الاقتصاد وكأن تحريرَه ضمانة سحرية بالتحاقه بركب الاقتصاديات الصناعية. الأمر الثاني هو يقينُها بأن شبكة أمان الريع البترولي مبسوطة إلى آخر الأزمان، وهو يقين غريب بالنظر إلى أن العولمة أصبحت تهدّد وجود الدول النامية ذاته لا مؤسساتها الاقتصادية والسياسية فحسب، وأن احتدامَ التنافس الاقتصادي العالمي أدّى إلى انهيار كيانات عملاقة، فما بالك بكيانات شبه بالية يعيش معظمها على «صدقات» الحكومة لا على ما ينتجه بنفسها.

بانتظار صدمة بترولية مضادة.

من الواضح أن مليارات جديدة من عوائد الجباية ستُصرف على إعادة الهيكلة الصناعية في شكل «تطهير مالي» للشركات العمومية (استهلك «تطهير» مجموع الهيئات الاقتصادية العمومية 60 مليار دولار بين 1971 و2013). كذلك، من الواضح أن نتيجتَه (إذا نظرنا إلى تواصل تقهقر القيمة المضافة الصناعية منذ مجيء الرئيس بوتفليقة إلى الحكم في 1999) لن تكون لتحسين قدرة الصناعة العمومية على المنافسة محليا وإقليميا، ولا حتى فرض أنماط تسيير جديدة يُحاسب فيه المسيّرون على إخفاقاتهم ولا يجازون عليها بالترقيات. أدهى من ذلك، لا يُستبعد اندثارُ القطاع الصناعي العمومي ذي الهدف التجاري (وهو، كما قلنا، لا يشمل صناعة المحروقات) في أمد ليس بالبعيد بعد دخول منطقة التبادل الحر الأورو- جزائرية حيز التنفيذ في 2020. لن يكون الأمر كارثة اقتصادية في حد ذاته، فحصّتُه لا تتعدى 1 في المئة من الناتج الداخلي الخام المقدر بـ206 مليار دولار في 2013 (إحصائيات صندوق النقد الدولي)، لكنه سيكون كارثة لأنه سيعني التلاشي النهائي لبعض ما راكمته الجزائر منذ الاستقلال من خبرات صناعية يمكن أن تكون نواة التملص من قبضة التبعية للخارج (على الاقل في فرعين صناعيين كالأدوية والغذاء، التبعيةُ فيهما هي في الحقيقة كالاحتلال سواء).
لن تصبح الجزائر بقيادتها الحالية - وريعها الحالي - دولة صناعية. فهي تقتل كل يوم أمل استغلال رخائها المالي (وهو رخاء لم يسبق له مثيل في تاريخها)، لتحويل اقتصادها إلى اقتصاد صاعد. لن تصبح دولة صناعية، لكن أليس بمقدورها المحافظة على ما بذلت لبنائه الكثير بحمايته من منافسة قادمة لن تبقي ولن تذر؟ سؤال مطروح في انتظار صدمة بترولية مضادة كصدمة 1985-1986، لن يكون لها للأسف من أثر على الحكام سوى ربما إقناعهم بضرورة «إعادة تنظيم»... أنقاض الصناعة العمومية.
            
 

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه

الجزائر: لئلا يُحوَّل ترسيمُ اللغة الأمازيغية إلى جدل "هوياتي" عقيم

يقترح مشروع الدستور الجزائري المعدّل في مادته "3 مكرر" الاعترافَ بالأمازيغية لغةً "رسميةً" إلى جانب "اللغة الوطنية والرسمية"، العربية. ولا يسع كلَّ عارف بما يمثله عدم حل المشاكل اللغوية العالقة...