بوتفليقة، عنقاء النظام، يولد من جديد

ما كاد يُصدَّق أن عبد العزيز بوتفليقة يعيش آخر أيامه (السياسية على الأقل)، وأن ظهوره في التلفزيون الحكومي مرتديا «بيجامة النقاهة»مؤامرةٌ هدفها إثباتُ عدم أهليته صحيا للحكم، حتى فاجأ الجميع بقرارين لا تقل رمزيتُهما عن أثرهما السياسي. القرار الأول كان إلحاقَ ثلاث مديريات تابعة لدائرة الاستعلامات والأمن، أي استخبارات الجيش (مديريات الاتصال، وأمن القوات المسلحة، والشرطة القضائية
2013-09-18

ياسين تملالي

صحافي من الجزائر


شارك
بايه - الجزائر

ما كاد يُصدَّق أن عبد العزيز بوتفليقة يعيش آخر أيامه (السياسية على الأقل)، وأن ظهوره في التلفزيون الحكومي مرتديا «بيجامة النقاهة»مؤامرةٌ هدفها إثباتُ عدم أهليته صحيا للحكم، حتى فاجأ الجميع بقرارين لا تقل رمزيتُهما عن أثرهما السياسي. القرار الأول كان إلحاقَ ثلاث مديريات تابعة لدائرة الاستعلامات والأمن، أي استخبارات الجيش (مديريات الاتصال، وأمن القوات المسلحة، والشرطة القضائية العسكرية)، بقيادة الأركان العامة. ومعنى ذلك، بعبارة أخرى، تحجيم هذا الجهاز الذي يترأسه الفريق محمد مدين منذ 1990 وقصر مهامه على مكافحة الجوسسة. القرار الثاني كان تعيينَ قائد الأركان، الفريق أحمد قايد صالح، نائبا لوزير الدفاع (أي نائبا للرئيس)، خلفا للواء عبد المالك قنايزية، وهو ما تم في إطار تعديل حكومي شمل كثيرا من الوزارات.

استخبارات الجيش تصنع الرؤساء؟

القراران، اللذان اتخذهما بوتفليقة في ظروف صحية استثنائية، يعنيان بطلانَ أسطورة روّج لها محللون سياسيون وصحافيون مستعجلون، مفادُها أن الجيش (واستخباراته تحديدا) هو صانعُ الرؤساء، وأن رئيس الجمهورية لعبةٌ في يديه لا قائدُه دستورا وقانونا. هذه الأسطورة سَحبت ما يصْدُق على فترة استثنائية، (فترة 1992ـ 1999 التي ميزها عدم استقرارالمؤسسة الرئاسية)على تاريخ علاقة المؤسسة العسكرية برأس السلطة التنفيذية منذ وفاة الرئيس بومدين في 1978 إلى اليوم. ولم تنتشر هذه الأسطورة في وسائل الإعلام والأوساط السياسية إلا لأنها بُنيت جزئيا على معطى حقيقي هو إشراك العسكر «عُرفيا»، مع الأحزاب الحكومية، في اختيار «المرشح الرسمي للرئاسة» واستشارةُ الرئيس لهم في قراراته المهمة، حتى الاقتصادية منها. لكن شتان بين دورهم المحوري في النظام وبين امتلاكهم فيتو يحدّون به هامش مناورة صاحب حق إقالتهم وترقيتهم.
ويُراد لإعادة هيكلة دائرة الاستعلام والأمن أن تقرأ دليلا على تغلب السلطة المدنية على رجل اجتاز على رأس هذا الجهاز عقدين كاملين ــ أحدهما عرف حربا طاحنة على الجماعات الإسلامية المسلحة ـ وأصبح رمزاً لوطأة الاستخبارات على الحياة السياسية، وتدخلها في الأحزاب والنقابات والجمعيات بغرض تنصيب قيادات «موثوق فيها»، وتحكّمها في المجال الإعلامي من خلال مراقبة توزيع الإعلانات الحكومية على الجرائد الصديقة دون غيرها. وسيكون من آثار هذا القرار حرمانُ الفريق محمد مدين من بعض وسائل سلطة واسعة كان يمارسها على المؤسسة العسكرية من خلال المديرية المركزية لأمن القوات المسلحة، وعلى الإعلام من خلال مديرية الاتصال، وعلى كبار المسئولين الاقتصاديين من خلال سيف الشرطة القضائية العسكرية المسلّط على رقابهم. وينبغي التذكيرُ هنا بأن هذه الشرطة هي التي حققت في قضايا فساد مرتبطة بتسيير مسؤولين عينهم الرئيس. ومن هذه القضايا عقد المدير العام السابق للشركة البترولية الحكومية سوناتراك، محمد مزيان، وخلفه، عبد الحفيظ فغولي، صفقات بمئات ملايين الدولارات مع شركات أجنبية «بالتراضي»، أي دون إجراء مناقصة عامة، وتلقي شكيب خليل، وزير الطاقة السابق، أموالا من «سايبام» الإيطالية لقاء تسهيل حصولها على صفقات في القطاع البترولي.
ويُراد لتعيين الفريق أحمد قايد صالح نائبا لوزير الدفاع، وهو منصب استُحدث خصيصا له (سلفه كان «مجرد» وزير منتدب) أن يُقرأ كإشارة إلى اطمئنان بوتفليقة إلى جيشه وقائد أركانه، خاصة وأنه أولى إليه الإشراف على ثلاث مديريات لم يكن يشرف عليها إلا بشكل غير مباشر. وقد تتجلى آثار هذا القرار قريبا في وقف تحقيقات الشرطة القضائية العسكرية في فضائح تسيير بعض المسؤولين «البوتفليقيين» وأبرزهم، دون منازع، شكيب خليل.

آخر «جنرالات الحرب الاهلية»

ولا تكمن المفاجأة في استهداف الفريق محمد مدين بل في توقيت هذا الاستهداف، أي في ظرف كاد الجميع فيه يؤمن بأن نهاية حكم بوتفليقة، بسبب المرض، مسألة أسابيع لا شهور. فمنذ توليه السلطة في 1999، أفلح الرئيس الجزائري في جعل قيادة المؤسسة العسكرية تابعة كليا له تقريبا وأعادها إلى ما كانت عليه قبل تمرّدها على الشاذلي بن جديد في 1992 عندما تبينت نيةُ هذا الأخير في التعايش مع جبهة الإنقاذ الإسلامية. وقد رجح كفة الميزان السياسي لصالحه بالتخلص من «جنرالات الحرب الأهلية»، باستثناء قلة قليلة، منهم الفريق محمد مدين. وأتيح له ذلك بسهولة نسبية بالنظر إلى ما كان يلاحق هؤلاء من اتهامات بالتورط في آلاف الإعدامات الجماعية في التسعينيات، وما كانوا يخشونه من رفع الحماية الرئاسية عنهم (يُقرّ بهذه الخشية ضمنيا اللواء خالد نزار، الناطق غير الرسمي باسمهم، في كتابه «بوتفليقة الرجل وحصيلة حكمه»).
كان إذاً من المتوقع أن يكون الاستيلاء على القلعة الاستخباراتية المرحلةَ اللاحقة في تحقيق طموح بوتفليقة في التحكم بالجيش بصورة تامة، وهو طموحٌ عبر عنه بقوله حال توليه الرئاسة: «أريد أن أكون رئيسا لا ثلاثة أرباع رئيس»، وبتذكيره في مناسبة أخرى بأنه كان «رائدا خلال حرب التحرير» لمّا كان هؤلاء الجنرالات «دون رتب» (كتاب خالد نزار المذكور أعلاه). ولا يُستبعد أنه بدأ التفكير، قبل تدهور صحته، في إعادة ترتيب البيت الاستخباراتي، وأن تفجير الشرطة القضائية العسكرية (تحت إمرة الفريق محمد مدين) قضايا فساد اتُّهم فيها بعض رموز حكمه كان طلقة تحذيرمن مغبة ذلك.

عوامل قوة الرئيس

نجح الرئيس الجزائري في إحكام قبضته على القوات المسلحة بفضل عاملين اثنين (عدا ضعف موقف جنرالات التسعينيات لما كان يتهددهم من ملاحقات قضائية في الخارج). السبب الأول أنه أحد مهندسي النظام السياسي الحالي، ومن أحسن العارفين بخباياه منذ 50 سنة، فقد كان من المقربين إلى العقيد هواري بومدين خلال الثورة الجزائرية (عندما كان هذا الأخير عضو قيادة أركان جيش التحرير ثم قائده العام). وكان، بعد إمضاء اتفاقيات «إيفيان» مع فرنسا (آذار/ مارس 1962)، مبعوثَه لإقناع أحمد بن بلة بالتحالف مع القيادة العسكرية لإسقاط غريمها المدني، الحكومة المؤقتة للثورة، نظير منصب الرئيس بعد الاستقلال. كما كان بوتفليقة أحد وجوه الانقلاب البومديني في 1965، وظل وزير خارجية الجزائر إلى يوم وفاة ولي نعمته في 1978. وبالنظر إلى هذا السجل، لم يُعدم في 1999 حلفاءَ داخل السلطة، ولا من قدامى كبار الضباط الذين احتفظوا بشبكاتهم المصالحية والاستخباراتية من يرضون برئاسته لهم. وقد ثبت ذلك بقبول نور الدين يزيد زرهوني، نائب رئيس الاستخبارات العسكرية في أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، بأن يكون وزيرَه للداخلية، وما كان «رجل ملفات» مثله سيقبل بهذا المنصب لو كان منصبا صوريا، ولا بالعمل مع «ثلاثة أرباع رئيس».
العامل الثاني لنجاح بوتفليقة في تحييد الجيش سياسيا هو ما ميز حكمه من رخاء مالي لم يُعرف له نظير منذ الاستقلال، سمح له باكتساب شعبية كبيرة (خاصة في أولى سني حكمه) وببسط نفوذه في البلاد وكأنه لم يغادرها طيلة 20 سنة. فازدياد عوائد الصادرات البتروغازية (600 مليار دولار بين 2000 و2012)، وما نتج عنه من تضخم عوائد الخزينة الضريبية، مكّنه من تحسين مداخيل قطاعات كبيرة من الفئات الوسطى لكسب ودّها، وحصر تحركات الجبهة الاجتماعية الراديكالية في مواقف لأكثر مكوناتها هامشية (الشباب البطال)، وتقنين احتجاجات الطبقة العاملة عن طريق توزيع بعض الريع البترولي عليها لشغل نظرها عن تسيير كارثي للاقتصاد جعله أكثر تبعية للمحروقات من أي وقت مضى. وعلى صعيد آخر، ساعد هذا الرخاء المالي الرئيس على تكوين شبكات إدارية وأمنية واقتصادية لا ولاء لها إلا له، انضافت إلى شبكات فاعلة داخل الحزبين «الرسميين»، جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي، وحتى داخل التيار الإسلامي (مشاركة حركة مجتمع السلم الإخوانية طيلة سنوات في «التحالف الرئاسي» مع هذين الحزبين).
وازدهرت شبكات بوتفليقة الإدارية بفضل ازدياد ميزانيات الإدارات على كل مستوياتها (ميزانية التسيير تضاعفت 3 مرات بين 2007 و2012) وبفضل تعيينه المسؤولين الإداريين، حتى أقلهم وزنا، بمراسيم جمهورية تعزز سلطتهم على مرؤوسيهم، وهدفُها شبه المعلن اكتساب زبائن يدينون للرئاسة مباشرة بمناصبهم. كذلك، تحولت الشرطة في عهده (بقيادة وزيريه للداخلية، نور الدين يزيد زرهوني ثم دحو ولد قابلية، العضو السابق في استخبارات جيش التحرير) إلى هيئة أمنية ذات وزن لا يستهان به، وازداد عدد أفرادها بشكل لافت من 106 آلاف في 2006 الى 140 ألفا في 2008 والى 200 ألف حاليا، حسب أرقام قدمها مديرها العام الحالي، اللواء عبد الغني الهامل (أي شرطي لكل 110 مواطنين مقابل شرطي لكل 270 مواطنا في فرنسا وعدد سكانها ضعف عدد سكان الجزائر). أما شبكات الرئيس الاقتصادية فساهم في تشكيلها، بشكل مباشر وغير مباشر، توزيعُ المال العام على «الأصدقاء» من رجال الأعمال بإيلاء مؤسساتهم مشاريع حكومية كبيرة وإشراكِها في المشاريع التي تنفذها شركات أجنبية.

السؤالُ الذي يطرح نفسه اليوم: هل ستعجل قرارات بوتفليقة الأخيرة بزوال «دولة الاستخبارات» وبزوغ فجر «دولة القانون»؟ قبل الإجابة، تجدر الإشارة إلى أنه ما كان الرئيس، وهو على هذه الحالة الصحية، ليعلن الحرب على قائد الاستخبارات العسكرية لو لم يكن وراءه سند يستند إليه. شبكاته الإدارية والأمنية والاقتصادية هي التي تحركت في الواقع من خلال شخصه لمنع انهيار نظام ريعي بناه هو وتستفيد منه هي أيما استفادة. وما يهم هذه الشبكات، بطبيعة الحال، ليس القضاء على «الدولة الأمنية» لكن إضعافَ خصم لدود بدأ التحقيق في فضائح التسيير الاقتصادي البوتفليقي (لابتزاز خصومه، لا إشفاقا على المال العام ولا حبا في العدالة). أما دولة القانون فمؤجلةٌ ما دام النقاش يدور عن اسم خليفة الفريق محمد مدين لا عن واجب إخضاع الاستخبارات العسكرية للرقابة الشعبية أيا كان رئيسها.

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه

الجزائر: لئلا يُحوَّل ترسيمُ اللغة الأمازيغية إلى جدل "هوياتي" عقيم

يقترح مشروع الدستور الجزائري المعدّل في مادته "3 مكرر" الاعترافَ بالأمازيغية لغةً "رسميةً" إلى جانب "اللغة الوطنية والرسمية"، العربية. ولا يسع كلَّ عارف بما يمثله عدم حل المشاكل اللغوية العالقة...