ليس غريباً أن تسترعي الأخبار المتعلقة بقضايا الجنس انتباه الهوس العربي به، فيتحول قرار المحكمة الأمريكية العليا بإلزام الولايات الخمسين بتقنين زواج المثليين، إلى قضية جدلية مشتعلة على مواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية في مجتمع مأزوم جنسياً كما هو حال المجتمع المصري مثلاً. فإن كان ذلك مصدر إزعاج مفهوم لأوساط الإسلاميين والمحافظين دينياً واجتماعياً، فإن التناقض الأبرز كان لدى التقدميين الذين لم يكترثوا لتقنين زواج المثليين باستفتاء شعبي في آيسلندا قبل بضعة شهور، لكنهم انجرفوا مع موجة "قوس قزح" الأمريكية التي حسمها فارق صوت واحد في هيئة المحكمة المكونة من تسعة قضاة، قبل بضعة أسابيع. أي أنه بالتزامن مع انشغال المحافظين بالدفاع عن القيم الدينية والثقافية الظاهرية، مقطوع الصلة بالواقع المعاش في مجتمع يتفشى فيه التحرش والعنف الجنسي والدعارة، فإن زاعمي الانحياز للنضال الجماهيري تركوا أولويات مجتمعاتهم – بما فيها قضايا الحقوق والحريات الجنسية – وانصرفوا إلى الاحتفاء بخطوة يرونها تقدمية، وإن أتت من رأس الدولة (لا من الجماهير) في عاصمة الإمبريالية الجديدة.
حَوَل المحافظين عن أزمة الجنس
اندلعت موجة من التحرش الجنسي الإلكتروني بالمتظاهرات اللبنانيات في الحراك ضد تكدس النفايات ("طلعت ريحتكم") ووقعت ملاسنات بين أقلّية من رواد مواقع التواصل الاجتماعي المصريين الذين استنكروا هذا السلوك المشين وبين أكثرية ممن دافعوا عن "خفة ظل" ذاك المزاح، الذي بلغ درجة المقارنة الأنثوية بين اللاجئات السوريات وبين نظيراتهن اللبنانيات المرتقبات!
وفي سياق موازٍ، دشّن أحد الحقوقيين حملة إلكترونية لنشر قصص التحرش الجنسي كما ترويها الضحايا في رسائل مخفاة الهوية، تحت وسم (هاشتاغ) #لا_عذر_لمتحرش. وإذا بالصدمات تتوالى، لينكشف المجتمع "المتدين بطبعه" أمام قصص الضحايا التي لم تفرِّق بين طبقة اجتماعية وأخرى، ولا بين ريف وحضر، ولا بين طائفة دينية وأخرى، ولا بين عائلات متدينة وأخرى علمانية، ولا بين عرب ونوبيين، ولا بين بالغات وقاصرات، ولا بين تحرش في الشارع أو في المواصلات أو في المنزل أو في المسجد أو في الكنيسة أو في المدرسة والجامعة أو في العمل أو في أماكن مفتوحة أو مغلقة.
في أيام قليلة، هي عمر تلك الحملة الارتجالية، تهاوت كل الأعذار والحجج، فإذا بالمعتدين من جميع الأعمار، متزوجين وعزّاباً، أقارب وجيران وغرباء، معلمين ومحفظي قرآن وأطباء ورؤساء عمل وزملاء ومرؤوسين، ذكوراً من ذوي الميول الجنسية المغايرة وإناثاً من ذوات الميول الجنسية المثلية. وإضافة إلى الضحايا المتوقعات من الإناث البالغات، لم تخل القصص المنشورة من كوارث أخلاقية واجتماعية شائعة في التحرش الجنسي بالأطفال من الجنسين، وتحرش الإناث بالذكور، فضلاً عن التواطؤ الاجتماعي على الضحية والتماهي مع المعتدي أو إعذاره.
وسط هذا المستنقع، يغوص المحافظون حتى آذانهم في أوحال مجتمعاتهم كما يدور المتعامون عن الفيل حوله في الغرفة. وعوضاً عن مواجهة مشكلاتهم، إذا بهم ينصرفون للعراك والجدال حول أوضاع الحريات الجنسية على الناحية الغربية من المحيط الأطلسي وفي شمال البحر المتوسط. ولا يجد بعضهم غضاضة في ذم القصور التشريعي الذي جعل القضاء يحكم ببراءة مجموعة من الشباب دُمّرت حياتهم بسبب حلقة تلفزيونية قدمتها مذيعة محرّضة ومتعاونة مع أجهزة الأمن، اتهمتهم فيها بممارسة الجنس المثلي الجماعي والتجاري في حمام شعبي. اللطيف أن تأييدهم لـ"مذيعة الحمام" في حراستها للفضائل تطلّب تضامناً ضمنياً مع قناة "القاهرة والناس" التي عرضت هذه المهزلة، وهي الفضائية نفسها – المملوكة لإمبراطور الإعلانات طارق نور عرّاب دعاية آل مبارك – التي انتهكت خصوصية بعض الشخصيات العامة، وأذاعت مكالماتهم الشخصية على الملأ بهدف اغتيالهم المعنوي لصالح النظام. فكم هو بائس ومأساوي أن ترى رقاب المحافظين تحت بيادة العسكر، حقيقةً أو مجازاً، ثم لا يشغلهم سوى حماية الفضيلة الدينية والاجتماعية عبر البحار والمحيطات. المفارقة أن النظام العسكري البوليسي القمعي يستخدم مثل هذا الخطاب الوصائي الأخلاقي الزائف في وصم الثوار والمعارضين، والهيمنة على أجساد المدنيين. وأبسط مثال على ذلك هو كشوف العذرية للمتظاهرات التي اعترف المشير عبد الفتاح السيسي، مدير المخابرات الحربية آنذاك، بإجرائها في 2011، وهو الإجراء ذاته الذي صار منذ عدة سنوات ضمن الفحوصات الروتينية على فتحات شرج الذكور قبيل تجنيدهم إجبارياً.
التقدميون وسوسيولوجيا الجنس: اغتراب ونخبوية
لا يحتاج الأمر كثيراً من التعمق في الجدل النظري التقليدي بين اليساريين والليبراليين كي ندرك أن هناك منظوريْن رئيسيين لقضايا الحقوق والحريات: الأول هو المنظور الثقافي المعرفي الغالب على تفكير ما يسمى بالمجتمع الدولي، كهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة والحكومات الغربية الراعية للديمقراطية وحقوق الإنسان، والثاني هو منظور الصراع الاجتماعي السياسي السائد لدى الحركة الحقوقية غير الحكومية. في المنظور الليبرالي، يرى ذوو الملابس الرسمية الأنيقة، من دبلوماسيين وتكنوقراط، أن أزمة الديمقراطية والحقوق والحريات تكمن في النصوص التشريعية والإجراءات التنفيذية من ناحية، وفي ثقافة المجتمعات الأقل تحضراً، التي تحتاج إلى توعية وتوجيه، من ناحية أخرى. أما في منظور الحركات الاجتماعية، فإن الحقوق والحريات قضية صراع جماهيري مع السلطة بالأساس، ولا يمكن أن تتقدم حالتها إلا بقدرٍ من تمكين الجماهير لانتزاع حقوقها عبر مسارات النضال المتنوعة. فما علاقة التقدميين المصريين، الذين انخرط أغلبهم في حراك مناهض للعولمة والإمبريالية قبل عقد واحد، بجني المجتمع الأمريكي ثمرة نضال قطاع منه امتد لأربعين سنة؟ وهل ينطبق عليهم القول الشعبي الدارج بتباهي الصلعاء بشعر ابنة أختها؟
ارتبطت قضايا المثليين في أمريكا بالثورة الجنسية المندلعة في الستينيات وما تلاها من تمييز واضح وعنيف بين المتحررين من القيم المحافظة من ذوي الميول الجنسية المغايرة وبين أقرانهم من ذوي الميول المثلية. شنت السلطة، ممثلة بجهازها الشرطي القمعي، حملات مداهمة لأماكن تجمعهم الليلية في البارات الخاصة بهم، فاعتقلتهم، وانتهكت أجسادهم وكرامتهم، ولفقت لهم التهم، ونبذهم المجتمع وحاربهم، وتطوع متطرفون بالعدوان البدني عليهم بدوافع دينية، فقُتل منهم كثير وانتحر منهم كثير، وطُردوا من أعمالهم وبيوتهم. وفي ذلك الوقت، كانت حركة الحقوق المدنية في صعودها الذي بلغ ذروته بإلغاء التمييز العنصري واللوني ضد الأمريكيين من أصل أفريقي، وهو ما تم بصيغة دستورية وقانونية تحظر التمييز بين المواطنين الأمريكيين على أي أساس. ثم بدأت أولى مسيرات الإعلان عن الهوية الجنسية المثلية، والافتخار بها، بأعداد بسيطة في منتصف السبعينيات قبل أن تتحول إلى احتفالات مليونية في السنوات الأخيرة.
على مدار أربعة عقود، طوّر المثليون آليات حراكهم، وعقدوا تحالفات نضالية مع الحركة النسوية والأقليات، واندمجوا مع المتحولين جنسياً وذوي الميول المزدوجة، فصارت حركتهم مشتهرة بالحروف الأولى لتلك الفئات الأربعة (LGBT). صنعوا خطاباً وأدبيات خاصة بهم، وأنتجوا الآلاف من الدراسات الأكاديمية والأعمال الأدبية والفنية والصحافية والفاعليات الجماهيرية، فانتزعوا – مع غيرهم – مساحات واسعة من الحقوق والحريات العامة، وكذلك الحقوق والحريات الخاصة بهم، ونجحوا في التحول من هدف لرماية المحافظين والشعبويين إلى موضع تملق من الشخصيات العامة، الحريصة على جماهيريتها، والسياسيين الراغبين في أصوات الديمقراطيين والليبراليين، وأشار إليهم الرئيس أوباما في خطاب تنصيبه لفترته الثانية مطلع 2013، وصارت "الهوموفوبيا" (أو رهاب المثليين) وصمة يتبرأ منها الحريصون على احترام التنوع. وفي ختام هذه المسيرة، وبعد نجاحهم في تقنين زواجهم في عدة ولايات، أرادوا أن يتوّجوا هذا الدرب الطويل بالاستفادة من مزايا التخفيض الضريبي للزوجين، وكذلك تقنين توارثهم المالي في حالة وفاة أحدهما، فضلاً عن تسهيل إجراءات تبني الأطفال.. أي أن القضية المرفوعة في المحكمة العليا لم يكن لها مغزى جنسي بقدر ما كانت رغبة في إتمام المساواة الاقتصادية والاجتماعية بين أزواج المثليين وبين الأسر "التقليدية".
أما في مصر، حيث تزامنت الثورة الجنسية في أوروبا وحركة الحقوق المدنية في أمريكا مع هزيمة حزيران /يونيو 1967 وتداعياتها، والتي انشغل مجتمعها في السبعينيات بما بعد حرب تشرين أول/ أكتوبر 1973، وتوجه السادات إلى إسرائيل، واتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام، ثم اغتياله مطلع الثمانينيات والحرب مع الجماعات الإرهابية، ثم استبداد مبارك ومشروع التوريث والخصخصة وسياسات الإفقار والإذلال والقمع وتكميم الأفواه والرقابة على الهمس وانتهاك المجالين العام والخاص.. فما هي أولويات المثليين، بل الأغلبية من المغايرين، في حقوقهم الجنسية؟ وما الذي يدفع الليبراليين والتقدميين لتلوين صورهم على موقع فيسبوك بألوان الطيف ابتهاجاً لشأن أمريكي أو أوروبي، في حين أن الزوج المصري يتردد في توديع زوجته في المطار أو محطة القطار بالعناق والتقبيل من فرط الوصاية الأخلاقية السائدة، سلطوياً ومجتمعياً على حد السواء؟
فجأة، تحول مناهضو العولمة والإمبريالية إلى مواطنين عالميين يشاركون زملاءهم المثليين انتصارهم في ولايات الجنوب الأمريكي المحافظ، في الوقت ذاته الذي لم يبذلوا فيه جهداً يذكر لمواجهة ختان الإناث في جنوب مصر، أو مكافحة الاغتصاب الزوجي، أو على الأقل مناهضة الوصاية الأخلاقية السلطوية والمجتمعية على المساحات الخاصة للمواطنين. اللافت أن نشطاء المثليين في مصر لم يشاركوا في الأجواء الاحتفالية التضامنية مع المستجد التشريعي الأمريكي، لكن الذين فعلوا ذلك كانوا من المغايرين جنسياً الذين أرادوا إثبات تسامحهم مع المختلف عنهم في الميول الجنسية. فإذا بالنزعة النخبوية تنكشف لدى مثقفين وكوادر غير مكترثين بأولويات مجتمعهم، ولا بقبولهم الجماهيري، المنشغلين عنه وعن معارك التغيير والنضال الحقوقي على أجندة تلك الجماهير بمظاهر التعبير عن تسامحهم العابر للقارات.
هكذا، لا يبدو أن هناك أفقاً لمواجهة جادة مع مشكلة الجنس المأزومة في مصر والعالم العربي، بل يبدو التيه مقدوراً على مجتمعات مقموعة، يتنازع حراكها أغلبية من مهاويس الصراع الثقافي الحضاري المحلّقين في سماء القيم ونصوص المرجعيات المختلفة، منبتّين الصلة بأوحال الواقع ومستنقعاته، في مقابل أقلية من ليبراليين وتقدميين لم يتخلوا عن نخبويتهم ولم يثبتوا جدية في الانطلاق في النضال الاجتماعي كما تريده جماهير مجتمعاتهم وتحتاجه، لا كما يتمنونه هم.