يعمل كل من محمود* وعبد الرحمان* على هذه القضية بالأساس انطلاقا من تونس. وقد التقيا سيلين بارديت صدفة في شهر جانفي 2017. سيلين هي محققة دولية في الشؤون الجنائية و مؤسسة جمعية "نحن لسنا أسلحة حرب" الناشطة في مجال مكافحة العنف الجنسي، حيث تساعد السيدة سيلين الضحايا على تجميع أدلّتهم من أجل بناء لائحة اتهام أمام المحاكم الدولية و لمَ لا اثبات وجود جرائم اغتصاب ممنهجة يُفترض أنّ عدد من الرجال كانوا ضحيّتها.
الجزء الأول: في تونس
سبتمبر 2016
بالرغم من وجود شارة تحذير تلوح في الأفق، فقد وصلت إيمان العبيدي، وهي شابة متظاهرة وإحدى الناجيات من سجون النظام، إلى فندق ريكسوس في مارس2011 عند بداية الثورة الليبية، لتدقّ المسمار الأخير في نعش نظام العقيد القذافي مندّدة باغتصابها على مرأى و مسمع العالم والصحافة الأجنبية التي كانت موجودة آنذاك. ولكنّها سرعان ما اختفت وسط الحشود التي وَصَمَتْها بالعاهرة وانتهى بها الأمر للهجرة إلى كندا.
بفضل فعلها الجنوني وحالة اليأس المستبدّة بها آنذاك، نجحت ايمان في لفت أنظار العالم نحو هذه القضيّة. و ما فتأت إشاعةُ جرائم اغتصاب الحرب التي أمر بها سيف الإسلام الابن الثاني لمعمر القذافي و قامت بارتكابها قوات الديكتاتور، أن انتشرت بسرعة هائلة. كما راج أيضا خبر الشاحنات المحملة بالفياغرا التي رست بميناء طرابلس. وهو ما جعل المجتمع الدولي يدق ناقوس الخطر ويدعو إلى إجراء تحقيقات بهذا الشأن. وفي أواخر أفريل 2011، وعد المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، برفع دعوى قضائية. و النتيجة ؟ لا شيء أو عدد ضئيل من التتبعات الجنائية.
و تصدرت ليبيا العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام، في الوقت الذي تعززت فيه الضربات الجوية لمنظمة حلف شمال الأطلسي وطرد الطاغية وإعلان التحول الديمقراطي الحتمي. ثمّ سرعان ضاع هذا البلد وسط حالة من اللّامبالاة مثله كمثل القارة السوداء المنسيّة والمتروكة، حيث انشغل المجتمع الدولي بالأخبار المفزعة القادمة من سوريا بكلّ ما فيها من حرب وأدفاق هجرة قسرية وأشاح بوجهه لفترة عن ليبيا.
أما اليوم، فقد أصبح البلد مخزنا للذخائر في ظل غياب الدولة، و في حضور حكومتين لا وزن لهما ناهيك عن الميليشيات التي تعد بالمئات تخطف و تنهب و تعذب ... و بالرغم من هذه الفظائع، لم يتمكن أحد حتى الآن من إثبات عمليات الاغتصاب التي تستعمل كسلاح حرب في ليبيا.
أكتوبر 2016
بقيت صورة ياسين لفترة طويلة تظهر كظل في الشاشة، فأنا لا أرى منه سوى خيال غير واضح على شبكة الأنترنت، فهو لا يتفوه بكلمة أو نادرا ما يتكلم. وفي أحد الأيام، وافق ياسين على القدوم إلى تونس، ولكنّ عبور الحدود ليس كافيا للتحرر من الخوف، فما إن وصل إلى المطار، حتى رام ياسين الهروب من الأسئلة التي كانت تطرح عليه وكان يريد أن يفسر لي بأن وجوده بتونس ما هو إلا تمثيل لضحايا الاغتصاب الآخرين الذين يريدون الحصول على مكان لتلقي العلاج بعيدا عن الأنظار. "الضحايا يلوذون بالصّمت خوفا من الوشاية وفقدان كل شيء: الأسرة والأصدقاء والعمل ... تطلبون منهم الوثوق في الطبيب؟ لا، هذا امر في غاية الخطورة …". هكذا تحدّث ياسين متلعثما، متلفّظا بخطاب تشوبه العصبيّة وعدم الارتياح.
وصلنا إلى شقة مجهولة تتكون من غرفتين في منطقة العوينة على مقربة من المطار. كان يتوجّب على ياسين تناول بعض المهدئات ما جعل حركاته بطيئة. يفتح ياسين حقيبته ببطء ثم يأخذ منها مصحف القرآن و جواز سفر ليبي وسجادة الصلاة. تبدو هذه الحقيبة الصغيرة المحملة صعبة الإفراغ. يتمدد ياسين على أريكة من الجلد المقلد الممزق مبادرا بالكلام: "يمكنك تقديم الملايين للضحايا للإدلاء بشهادتهم في المحكمة ... لكنهم سيقولون لك حرفيا: "هذا أمر مستحيل".. فنحن نفضل الاختباء". ينتقل ياسين من ضمير الغائب "هم" إلى ضمير المخاطب "أنا" و يتفحصني و الرعب يكسو وجهه.
التقرير الكامل على موقع "انكفاضة"