انسحب إرييل شارون منفرداً من غزة عام 2005 ليلقي بها ملتهبة بعيداً عنه، بصراعاتها الداخلية وأعباء إدارة معبرها الوحيد إلى أراضٍ غير محتلة. لم يكن شارون يحلم بذلك اليوم التاريخي الذي سيأتي بعد تسع سنين من قراره الخبيث فتُحْكِم مصر الحصار على القطاع مرتكبةً جريمة تهجير قسري تعسفي بحق مواطنيها في رفح، في الذكرى الثامنة والخمسين لاجتياح الجيش الإسرائيلي لسيناء لأول مرة في 29 تشرين الاول/أكتوبر 1956.
عُقدت اتفاقية المعابر المجحفة قبيل انسحاب الاحتلال أحادي الجانب، فانتهى أمر معبر صلاح الدين الواصل بين شطري رفح وبقي أمر معبر جنوب رفح معلقاً لغياب التمثيل الإسرائيلي في إدارته وفقاً للاتفاقية، فكان الحصار الأول.
اجتاح الغزّيّون حدوداً لم تكن تتعدّى سوراً قصيراً وأسلاكاً شائكة، فانتشروا في ربوع رفح المصرية ومنها إلى العريش هاربين من شبح المجاعة والوباء. لم تلبث رياح الانتخابات التشريعية في 2006 أن أتت بما لا تشتهيه سفن السلطة الفلسطينية، صديقة نظام مبارك، وشريكة سلطة الاحتلال في التضييق على المقاومة وإدانة أعمالها. وقع الاقتتال الأهلي بين حماس وفتح بقيادة جهاز الأمن الوقائي الدحلاني، ثم حُسم الصراع عسكرياً بما أسمته فتح انقلاباً حمساوياً على سلطتها في 2007. اشتد الحصار الإسرائيلي على القطاع، وشاركت مصر فيه بإغلاق معبر رفح، فانتشر الغزّيّون في ربوع شمال سيناء وارتفعت الأسعار، ولم يجد سكان العريش سيارات أجرة من شدة الطلب عليها.
تدخلت المخابرات العامة المصرية بقيادة الراحل عمر سليمان، فتم حلّ الأزمة باتفاقٍ غير رسمي على التوسع في حفر الأنفاق الواصلة بين شطري رفح لسد الاحتياجات الإنسانية العاجلة. انسحب الغزّيّون، وتمت تعلية السور الحدودي وتحصينه، وعُدّل الملحق الأمني بمعاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية ليُسمح بنشر قوة محدودة من الجيش (750 عنصراً بتسليح خفيف) لأول مرة في هذه المنطقة منذ 1967. لم تمس الحكومة المصرية اتفاق المعابر، لكنها فتحت باباً خلفياً غير شرعي بغية اتقاء الوباء أو المجاعة في غزة، واستفادت منه كورقة ضغط دائمة وفعّالة على حكومة حركة حماس.
«قِدْرة الفول» بين مبارك والسيسي
اتبع نظام مبارك سياسة التنفيس عن قدرة الفول الجاري «تدميسه» بالحرارة والضغط، فتجنّب انفجارها بثقب غير معتاد (نفق) لعجزه أو لعدم رغبته في تحريك الغطاء (المعبر) قليلاً. ببرود معتاد من ناحيته، كان مبارك يتحدث في الإعلام بصراحة عن أن النفق الواحد له فتحتان، وأن من يريد إغلاق الأنفاق عليه أن يتحكم في الفتحات التي في جانبه قبل أن يطالب مصر بإغلاق الفتحات في جانبها. ولعلّ تصريحات قادة حماس التي أثنت على اللواء عمر سليمان، حتى بعد اندلاع الثورة المصرية وسقوط مبارك قد وجدت الآن ما يفسّرها. ويبدو أن نكتة دعم نظام مبارك للمقاومة لن تعود مضحكة بعد اليوم وستجد من يناقشها بجديّة بعد ما اقترفه السيسي!
يعرف أهل العريش جيّداً قصة ضباط الأمن الوقائي الذين هربوا من غزة في زورق بتنسيق مع البحرية الإسرائيلية، فوصلوا ميناء العريش في صيف 2007، وسلموا أسلحتهم الشخصية للسلطات المصرية واستقبلهم الجيش في معسكر «الكتيبة 101». أقيمت لهم الخيام فرفعوا عليها علم فلسطين، فطُردوا من معسكر الجيش وانطلقوا في المدينة يستأجرون «الشاليهات» القريبة من البحر متمتّعين بحصانة أمنية كلاجئين. لكن في الوقت ذاته، يعرف أهل رفح جيّداً كيف أن كل ما تم تهريبه إلى غزة، بما في ذلك السلاح، كان بعلم السلطات المصرية، التي انتفع ضباط أجهزتها الأمنية المختلفة من تجارة الأنفاق أكثر مما استفاد أصحاب الأنفاق أنفسهم. يفسّر المحليون ذلك بأن نظام مبارك، على الرغم من شروره، إلا أنه لم يتخل عن حد أدنى من الحصافة جعلته يدرك أن مصلحته تقتضي أن يترك للمقاومة مجالاً للدفاع عن نفسها، من دون تفوق نوعي، وأنه لو لم يتحكم في حجم ونوع السلاح المهرب إلى غزة فلكان ذلك سيتم بدون علمه.
تجاوزت تجارة الأنفاق المواد الإغاثية من دواء وسلع تموينية رئيسية، وتوسعت لتشمل سلعاً تكميلية وأخرى ترفيهية. فأنشأت حماس وزارةً للأنفاق، وصرفت الرواتب للعاملين فيها، وفرضت الجمارك على البضائع المهربة منها، مع التشديد الصارم على مكافحة تهريب المخدرات. في الجانب المصري، علا صوت الشكوى من الأنفاق وتحميلها ما لا تطيقه من أسباب عن إخفاقات أمنية معقدة، لا ترتبط بها في كثير من الأحيان من قريب أو من بعيد. طرحت أفكار عدة لمواجهة مشكلة الأنفاق، مع الإصرار على عدم تحرير معبر رفح من خضوعه للهوى الإسرائيلي. كان من بين هذه الأفكار إقامة منطقة تجارية حرة محل الأحياء السكنية التي تحوي فتحات الأنفاق. تصدّر هذه الفكرة شلة رجال أعمال جمال مبارك، ولم يكن في حسبانهم أي إشراك لأصحاب الأراضي والعقارات المزمع تهجيرهم، فرفض الناس ولم ترحب المخابرات العامة، وجمدت الفكرة تجنباً لصراع أهلي موسع ضد سكان رفح لم يكن ليخلو من مواجهات مسلحة.
أتى السيسي رأساً لانقلاب عسكري بعد عامين ونصف من طفرة هائلة شهدتها الأنفاق عقب سقوط مبارك، في عهدي كل من المجلس العسكري ومحمد مرسي. وعلى الرغم من حديثه الموثق بالفيديو لقادة الجيش عن عدم استعداد القوات المسلحة المصرية لمواجهة الإرهاب في سيناء بالقوة، وأن ذلك سيشكل خطراً لا يقل عما حدث في جنوب السودان ودارفور، لأن الجيش وفق تعبيره «آلة قتل»، إلا أنه قد خالف كل ما قاله وانطلق في حرب مسعورة في شمال سيناء، بعد ارتكابه المجازر بحق معارضين سياسيين في شوارع العاصمة. ويبدو أن موقفه قد بلغ من التأزم والهشاشة السياسية درجة عدم الاكتراث بانفجار قدرة الفول، التي لم يعد عابئاً بالتنفيس عنها.
جريمة لا تسقط بالتقادم
انتشرت الهجمات على قوات الجيش والشرطة من شمال سيناء إلى جنوبها، ثم إلى الإسماعيلية على الضفة الغربية لقناة السويس، ومديريتَيْ أمن الدقهلية في قلب الدلتا والعاصمة القاهرة، ثم وصلت إلى واحة الفرافرة في أقصى غرب مصر. وعلى الرغم من أن هذا الانتشار الواسع مرتبط بالحدود المفتوحة مع السودان وليبيا أكثر من ارتباطه بسيناء، إلا أن السيسي ترك كل هذا وأرجع جذور الإرهاب في مصر إلى مجاورة قطاع غزة بطول 14 كيلومترا، مع تجنب أية إشارة لأي خطر محتمل من مجاورة الأراضي الفلسطينية المحتلة بطول أكثر من 180 كيلومترا.
اجتمع مجلس الدفاع الوطني برئاسة السيسي مساء الجمعة 24 تشرين أول / أكتوبر المنصرم عقب هجوم «كرم القواديس» شرق العريش، الذي أسفر عن أكثر من 50 قتيلاً ومصاباً في صفوف الجيش، ثم أعقبه اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة صباح السبت التالي. خرج السيسي في حديث تلفزيوني ليتهم أيادي خارجيةً لم يسمّها، ويعلن التصعيد من أجل علاج هذه المشكلة من جذورها، ذاكراً قطاع غزة وقاصداً بذلك مشكلة الأنفاق. أُعلنت حالة الطوارئ في المنطقة الشمالية الشرقية من سيناء (العريش والشيخ زويد ورفح والقرى التابعة)، كما تم تقنين حظر التجوال المطبق فعلياً منذ أكثر من سنة. وانطلقت في وسائل الإعلام حملة منهجية شعواء تطالب بتهجير أهل سيناء لتسهيل الحرب المزعومة على الإرهاب.
لم يشر الإعلام الموالي للسلطة إلى إصابة قياديين رفيعين من الجيش الثاني الميداني في الهجوم الأخير، وبالتالي لم يتساءل أحد عن الاختراق الاستخباري لصفوف الجيش بحيث تستطيع جماعة «أنصار بيت المقدس» تحديد الزمان والمكان الأنسب لخططها. ولم يتجرأ أحد على الجهر بالتساؤل عن الإجراءات التي ينبغي أن تتخذ حينما تقع هجمات مسلحة أخرى بعد تنفيذ التهجير القسري التعسفي، سواء في سيناء كما حدث بالفعل ـ أم خارج سيناء. صدر القرار مخالفاً لدستور 2014 الذي وضعته لجنة موالية بالكامل لسلطة انقلاب 3 تموز / يوليو، وضُرِب بالمادة 63 عرض الحائط، وهي تقول: «يحظر التهجير القسري التعسفي للمواطنين بكافة صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم»، وشرع الجيش في تنفيذ تهجير قسري تعسفي بحق سكان الشريط الحدودي من رفح يوم 29 أكتوبر / تشرين الأول المنصرم.
يعلم الجميع أن أنفاق رفح كانت ممراً لسلع تجارية كثيرة، وكان من بينها السلاح العابر من سيناء إلى غزة. لكن السيسي يريد أن يقنع العالم، بخلاف المنطق، أن غزة هي مصدر السلاح إلى سيناء. يعلم أهل سيناء جيداً أن أعضاء الجماعات المسلحة آمنون بعيداً عن الشريط الحدودي في جنوب الشيخ زويد، بين أطلال قرىً دمرها الجيش ولم يعد يدخلها. لكن التعتيم الإعلامي الذي يمارس بلا هوادة يريد أن يضلل الرأي العام ليتوه بين مجاهل الجغرافيا. تزعم الحكومة المصرية أن تهجير أكثر من 1150 أسرة (ما يقرب من 10 آلاف فرد) وهدم منازلهم وتشريدهم بدون خطة إخلاء منظمة لإقامة منطقة عازلة، إنما هما ضرورة لدواعي الأمن القومي المصري، وليس من أجل التنسيق الأمني الإقليمي مثلاً. ويأبى التوقيت إلاّ أن يربط بين العدوان الإسرائيلي على سيناء في 1956، وبين عدوان السلطة المصرية على أهل سيناء في اليوم نفسه من الشهر الذي كان أهم ما يميّزه انتصار العاشر من رمضان بالتوقيت الهجري. أما مشاهد التهجير فلم يكن في الذاكرة المعاصرة لأهل سيناء من المصريين واللاجئين الفلسطينيين أبلغ من وصفها بـ:«النكبة».