كان "30 يونيو" موجة ثورية رابعة قبل أن ينقلب العسكر على مطلبها الرئيس بعد أيام، في الثالث من تموز/ يوليو. في حين كانت الموجة الثالثة تتمثل بخروج الحشود الغفيرة معترضة على الإعلان الدستوري السلطوي الذي أصدره الرئيس المعزول محمد مرسي في تشرين الثاني / نوفمبر2012. ولم تهدأ الاحتجاجات إلا بالتراجع عنه، كما لم تهدأ قبلها بعام في أحداث محمد محمود (الموجة الثورية الثانية) إلا بتوقف القتل والإعلان عن موعد تسليم السلطة في انتخابات رئاسية. وكما طالت الثورة وأهدافها الأصيلة في "العيش، والكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية" عملية تحويل، فإن الشعارات الدخيلة الطافية على سطح الحراك المتأزم الذي يشهده المجتمع المصري، تعكس هشاشة المسار العسكري/الأمني الراهن، وتفضح عناصر تقويضه الذاتي. فلم تكن الشعارات الأربعة الرئيسية محل جدال يتناول معناها أو أحقيتها في حين يعكس شعار "الدفاع عن الأمن القومي" و"مكافحة الإرهاب" قدراً من الخلاف حول تحديد المعنى وتقدير الأولوية والحكم على علاقة ممارسات السلطة الحالية بالشعارات المرفوعة.
الحرب على الإرهاب
شعار "الحرب على الإرهاب" يستلزم لتحققه عملياً وجود كل من "الحرب" و"الإرهاب". وإن كان المنطق يستدعي السبب (الإرهاب) قبل النتيجة (الحرب). لا شك في وجود الحرب. فالسلاح المحتكرة شرعيته مستخدم ميدانياً بكافة أحجامه وأنواعه وذخيرته، والضحايا والخسائر في صفوف "الأعداء" لم تتوقف عن السقوط، قتلى ومصابين ومعتقلين. الريبة، كل الريبة، في هوية هؤلاء الأعداء. هل هم إرهابيون حقيقيون أم مشروع إرهابيين؟ الملموس ميدانياً في سيناء وكرداسة أن المتورطين في أعمال العنف لم يتأثروا كثيراً بالحملات العسكرية والأمنية الموسعة، في حين تم الانتقام العشوائي والعقاب الجماعي لمناطق جغرافية بالكامل. بل أصدرت بعض الجماعات المسلحة، مثل "أنصار بيت المقدس"، تسجيلات مرئية وبيانات إعلامية تتباهى فيها بالخسائر التي أوقعتها في صفوف الجيش وقوات الشرطة الخاصة، والتي قد تكون أكبر بكثير من القتلى في صفوف الجماعات مجتمعة.
الانتهاكات البشعة التي طالت هذه المجتمعات المحلية كفيلة بصناعة الإرهاب، أو على الأقل بدفعها الى الثأر العنيف من السلطة ممثلة في الجيش والشرطة. وصف الانتهاكات بالبشاعة هو الوصف الدقيق لقصف المنازل بالطائرات والدبابات، وقتل الأطفال والنساء داخل منازلهم دون تحذيرهم قبل القصف، واعتقال أهالي المطلوبين كرهائن للضغط عليهم لتسليم أنفسهم، والتهديد العلني في مكبرات الصوت باغتصاب نساء كرداسة، واستنساخ حرق أثاث المنازل الذي طال عشرات البيوت في القرى الحدودية من شمال سيناء، وتكراره في بعض المنازل في كرداسة، فضلاً عن تجريف المزارع واقتلاع الأشجار، وإحراق السيارات وإتلافها، ونهب محتويات البيوت من حلي ذهبية ونقود، بل حتى الملابس والمواد التموينية والغذائية. فإذا كانت الممارسات في شمال سيناء قد تمت تحت غطاء من الجهل الجغرافي والأمني بها، والتمهيد لها عبر سنتين من الخطاب التفزيعي، فإن كرداسة القريبة من أهرامات الجيزة قد تمت شيطنتها في أسابيع محدودة وتصويرها كثكنة مسلحة دون أن تتحمل الصحافة عبء استكشافها ميدانياً.
وهذه جرائم لا تسقط بالتقادم، ولا تمحى من الذاكرة الجمعية في مجتمعات يستحضر شيوخها ذكرياتهم مع جيش الاحتلال الصهيوني في سيناء، ويقارن شبابها ما يرونه الآن بما رأوه من داخلية مبارك أو ما تابعوه عن بعد في سوريا.
اندلاع شرارة الثورة في 2011، يوم عيد الشرطة التي انتهكت أجساد الشعب وحرماته في دولة مبارك، وتركز التوزيع الجغرافي لنقاط الاشتعال الثوري في المدن التي شهدت أكبر قدر من التعذيب والقمع البدني، وخفوتها في المحافظات التي اعتمد نظام مبارك فيها على القوة الناعمة... كلها مؤشرات على ارتباط الثورة بالثأر. والنظام الذي يستمد التأييد الشعبي من منطلق شرعية "الحرب على الإرهاب" يجب أن يحافظ على وجود الإرهاب، أو يفتعله ويصطنعه، كي يستمر مسوغ وجوده. وهو ما يعني مزيداً من الثأر المتضخم في نفوس مجتمعات لا يغيب عن ثقافتها التسليح الأهلي، حيث لن تصمد آليات الضبط الاجتماعي فيها طويلاً أمام غضب أصحاب الحقوق المهدورة، بالأخص الشباب منهم.
"الامن مقابل الغذاء"
علاوة على التوسع الأفقي/الجغرافي لدائرة الانتهاكات وتربية الثأر، وبموازاته، هناك التوسع العمودي في شرائح مختلفة وحيوية من الشعب، أخطرها على الإطلاق هي الشرائح العمرية المتحررة من صفقة "الأمن مقابل الغذاء"، أي طلاب الجامعات والمدارس. تقطيع الأواصر الجغرافية سياسة منتهجة من قبل السلطة البوليسية العسكرية منذ 30 يونيو، سواء بتضييق الخناق على الحركة من سيناء وإليها وداخلها، أم بمحاصرة دلجا وكرداسة، أم حتى (والأنكى من ذلك كله) بتعطيل السكك الحديدية في عموم الجمهورية لأكثر من شهر ونصف بلا سبب مفهوم سوى التقليل من زحف معارضي الانقلاب إلى العاصمة من نواحي الأقاليم في الدلتا والصعيد. لكن إجراءات مثل هذه لم يمكنها أن تعطل الدراسة سوى جزئياً بتأجيل التسكين في المدن الجامعية للطلاب المغتربين.
يعجز التحليل الرصين عن وصف نزول الجيش والشرطة إلى المدارس، سواء للتوجيه المعنوي أم للمطاردة وفض المظاهرات والاعتقال وإطلاق النار التهديدي وقنابل الغاز. فهذا عبث سياسي وأمني. ومع جيل تشكّل وعيه، ولا يزال، على ضوء ثقافة "مكمّلين"، و"يا نجيب حقهم يا نموت زيهم"، و"هنفضل ثورجية لحد ما نوصل للحرية"... فإن أدوات القمع والهيمنة الكلاسيكية صارت مادة للسخرية واللعب والمناورة. بالتأكيد، لا يزال الانقسام ضارباً في أرجاء المجتمع، بدءاً من جدران القرى والمدن الصغيرة التي تتقاسم العبارات ورسوم الجرافيتي المؤيدة والمناوئة لكل من الطرفين، وحتى تأثر تلاميذ المدارس الابتدائية بتوجهات عائلاتهم. لكن الأكيد أيضاً أن وقوع ضحايا في صفوف الشباب والأطفال، بحسب ارجح المؤشرات الخطيرة الحالية، فضلاً عن اعتقال العشرات منهم تعسفياً، وتوجيه بعض التهم الكوميدية إليهم، واتخاذ إجراءات غير قانونية بحقهم، يؤدي ذلك كله إلى توسيع دوائر التضامن الآلي والعضوي في مجتمعات تحتشد طبيعياً لعدد غير قليل من الساعات يومياً.
الصراع المحتدم داخل الاجهزة
للثورة المضادة /الانقلاب العسكري/ تحالف السلطة الحالي، دوائر من الدعم وأركان يقوم عليها. تبدو هذه الدوائر من القوة، وتلك الأركان من الثبات، بينما هذا يخالف حقيقتها. فالمؤشرات والمصادر تنبئ بصراع محتدم بين أجنحة متناحرة داخل الأجهزة الإدارية والبيروقراطية في الدولة. والدوائر الشعبية الداعمة يدخل أغلبها في الصفقة الضمنية، "الأمن مقابل الغذاء"، وهي صفقة جيلية من الطراز الأول، ليس بالمحدد العمري فحسب وإنما بالمحدد الثقافي، الذي يرتضي اعتزال الشأن العام وتعكير صفو الأمر الواقع مقابل أمنه الاقتصادي والمعيشي المعتاد.
القواعد الشعبية التي شاركت في مظاهرات "تفويض" الجيش لمواجهة "العنف والإرهاب المحتمل"، وفق نص دعوة عبد الفتاح السيسي في 24 تموز/يوليو الفائت، هي إما شرائح من الطبقة الوسطى الكلاسيكية ترى في الجيش حارساً أميناً لوضعها الطبقي وما اعتادت عليه مهنياً ومالياً واجتماعياً، مما قد يكون أشد بؤساً من تطلعاتها فقيرة الخيال، وإما هي من البسطاء المتأثرين بحملة الدعاية التليفزيونية والصحافية الرسمية التي لم تسلم منها وسيلة نشر، ومن اعترض تعرض للإغلاق.
الصراع داخل أعلى مؤسسة سياسية يفترض أنها تمثل إحدى دوائر صنع القرار في تحالف السلطة الراهن، بلغ حد الشقاق بين المستشار السياسي والمستشار الإعلامي للرئيس المؤقت، وهو يتزامن مع أرضية هشة من جماهير جمعتهم الحاجة للأمن، دون أن تكون في مأمن من الاقتتال إذا تعرض غذاؤهم للخطر. "الأمن مقابل الغذاء"، أي الأمن والغذاء مقابل التنازل عن الحريات ودولة القانون، صفقة تعجز عن الوفاء بها سلطة متورطة في جرائم وعقوبات جماعية بحق مئات القتلى وآلاف المصابين وعشرات الآلاف من المعتقلين وعائلاتهم وأهالي المطلوبين وسكان مناطق جغرافية كاملة. بالتوازي مع صراخ المؤشرات الاقتصادية بالانهيار الوشيك والأزمة غير المسبوقة، فإن استمرار المظاهرات الاحتجاجية اليومية المتزامنة في بقاع مترامية بما يفوق قدرة أي فصيل سياسي منفرد على الحشد، يربك الحسابات المراهنة على "الحقْن المالي" الخليجي، الذي لا يكفي وحده.
افتضاح كذب الدعاية الرسمية امتد ليشمل أهالي ضحايا العشوائية الأمنية والعقاب الجماعي الذي طال قطاعات من أخلص مؤيدي الجيش، كما شمل صفوف الجنود الذين سمعهم بعض الأهالي يراجعون أنفسهم حين لم يجدوا "الإرهابيين" الذين يتم شحنهم في معسكراتهم ضدهم. ولما ناقض فصيل من الثوار نفسه، مثل "تمرد" وجانب من جبهة الإنقاذ، وجمدوا موقفهم من أجهزة السلطة القمعية نكاية بالإخوان والإسلاميين، لم يكونوا يدركون حجم ما ستصل إليه الانتهاكات والمذابح. ولا يبرح تحالف السلطة الحالي أن ينفرهم ويستعديهم بجوره على الحريات والحقوق. أما جماهير صفقة "الأمن مقابل الغذاء" فلن يطول صبرهم طويلاً، وقد تضرروا كثيراً في معيشتهم اليومية، ولم يمسهم أي تغيير اقتصادي إيجابي، بل لم يصلهم أي مؤشر الى أن أوضاعهم ستبقى كما كانت عليه دون تدهور... كلها قد تجدد الأمل في استكمال المسار الثوري حتى بلوغ غاياته.