الرفض وما يفترضه: مغامرات عالم "17 تشرين" في لبنان / الميديا

كل ما كان ينشأ بعد 17 تشرين الاول/اكتوبر 2019 في لبنان – وهو كثير ومتنوع - كان يُسمّي نفسه "بديلاً" أو "جديداً" أو "ثائراً" أو "مُصلحاً" أو غير ذلك، لكنه كان بالتأكيد ممتلئاً بحماسة فريدة هي حماسة الإمكان وتحريك ما كان راكداً. فهل تستطيع مبادرات هي وليدة لحظة الانتفاض الاستثنائية أن تجد امتداداً وصياغات تجعل منها مشاريع مستمرة وغير عابرة؟
2020-12-11

صباح جلّول

كاتبة صحافية وباحثة في الانتربولوجيا البصرية من لبنان


شارك
| en
عن صفحة 17 تشرين على فيسبوك. تصوير: لؤي كرباج.

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

الجميع في لبنان منهَك تماماً بعد الانفجار- الجريمة في 4 آب / أغسطس 2020 في بيروت. وقد يبدو الآن أنّ موضوع هذا المقال صار خارج اللحظة، متجاوِزاً لأوانه ومنتمياً لوقت كان الاعتقاد فيه أنّ ثمّة ما يمكن فعله، أو ثمة ما يمكن إنقاذه بعد: محاولة رصد المبادرات الثقافية والإعلامية والإبداعية والشبابيّة التي وُلِدت بعد انتفاضة 17 تشرين الأول / أكتوبر في لبنان، كتعبير عن حيوية ما لدى الناس – على اختلاف منطلقاتهم وأساليبهم – ترفض الركون إلى الأمر الواقع والانصياع لمنطق فضاءاته المعتادة ووسائله المحدودة في التعبير.

أمّا الآن، وبعد كل ما حدث في البلاد منذ 17 تشرين الأول 2019 وحتى اليوم - أي مرحلة ما بعد المفصلَين: الانهيار والانفجار - يستحقّ علينا السؤال مجدداً: هل من نبض باقٍ؟ هل مَن يحاول وما زال؟ والأهمّ، كيفَ يُحاول؟

علينا العودة إلى لحظة التفاؤل العابرة التي تلت 17 تشرين الاول/اكتوبر مباشرة. فقد بدا ذلك وقتاً بين مرحلتين، يختزن الاحتمال المفتوح ويوفّر الفرصة الأكيدة. بدت الساحة مهيئة لاستقبال كل قول وفعل يخرج عن منطق جمهورية ما بعد الحرب. كل ما كان ينشأ كان يُسمّي نفسه "بديلاً" أو "جديداً" أو "ثائراً" أو "مُصلحاً" أو غير ذلك، لكنه كان بالتأكيد ممتلئاً بحماسة فريدة هي حماسة الإمكان وتحريك ما كان راكداً.

وهذا الذي كان راكداً، بل راقداً جاثماً على النفوس لثلاثين سنة خلت هو نظام البلاد السياسي الفريد الذي إذا استعرضنا شكله وصفاته، تبينّا بشكل أوضح ما يعنيه وجود هكذا مبادرات في هكذا ظروف. فمنذ اتفاق الطائف في العام 1990، ومع تعاقب حكومات "السلم الأهلي" المفترض، أُفرغت مواقع المسؤولية الرسمية في لبنان من السياسة، إلّا ما خصّ منها المناكفة وتوزيع الحصص في الدولة، والسعي لتحقيق أجندات حزبية ضيقة. وحوفظ على نوع عجيب من التوافق الهش الذي هو في العمق مجموعة من الخلافات المغلّفة تطفو وتختفي غبّ الطلب والظرف. كلهم أصدقاء وكلّهم أعداء في الوقت ذاته، حتّى اختُرعت لهم تلك الكلمة اللزجة "الأعدقاء" اللبنانيون. وقد راج في الانتفاضة الشعبية قول "كلّن يعني كلّن" بهذا المعنى. فمن في الحكم ليسوا أبداً على قلبٍ واحد ولا هم أحباب ولكنهم كلهم يلعبون بهذه الشروط المميتة ويقبلون باستمرار شرط استحالة الدولة. تمشي أمور البلاد بما يرضيهم جميعاً – "كلّن" - وفي نفس الوقت بما يبقيهم جميعاً غير مكتفين، شاعرين بالغبن وبأنّ حصتهم وسطوتهم كان من الممكن أن يكونا أكبر. المشهد الذي كان راكداً هو سياسية بلا سياسة، بلا خدمة أو فعالية، وهو "بيزنس" واستزلامٌ وزبائنية عميقة تقي الذين هم فوق سخط من هم تحت وتشتري ولاءات مرحلية أو دائمة – غالباً بواسطة الطائفية، موفِّرة ما يُصطلَح على تسميته بـ"الشرعية في الشارع" أو "التمثيل الشعبي"، فيما هو شراء للمناصَرة بواسطة الزبائنية والخوف على الطائفة من كلّ آخر. لعلّ "دولة القانون والمؤسسات" التي يسمع عنها اللبنانيون في الأساطير هي في الواقع علاقة مريضة بين عصابات ورعايا، لا بين نظام سياسي وأحزاب فاعلة من جهة ومواطنين أصحاب حقوق من جهة أخرى.

اقرأ/ي أيضاً: مجموع المقالات الافتتاحية التي نشرها "السفير العربي" لمتابعة الوضع في لبنان خلال العام المنصرم

هذا الوضع الخانق لأي إصلاح حقيقي، المختلّ بنيوياً، كان هو "الطبيعي" في لبنان الهدوء النسبي ما قبل "17 تشرين". ثمّ أتت الحرائق غير المسبوقة في سلسلة الجبال الغربية، ثمّ ضرائب "الواتساب"، وأخبارٌ عن انهيارٍ اقتصادي آتٍ لا محالة، تلتها فوراً انتفاضة واسعة في طول البلاد وعرضها، إلى بدء علامات الكارثة، تدهور الليرة السريع، الحجز على أموال المودعين، الأسعار الفلكية، والأحلام المسفوكة. إذاً، في هذا الجو شديد التعقيد والخصوصية، سريع الاشتعال، وشديد السوداوية، ولدت هذه المحاولات. وإذا حافظنا على استحضار ما سبق كخلفية دائمة للمشهد، يمكن الاستدلال سريعاً على درجة صعوبة اختراق هذا الحقل من الألغام السياسية والاجتماعية المحبوك حبكاً متيناً مع نسيج الفئات الشعبية. من هنا يمكن القول أن هذه المحاولات هي بجدّ "مغامرات"، منها ما هو عفوي وليد اللحظة، ومنها ما هو جزء من مشروع سياسي بديل. فهل تستطيع مبادرات هي وليدة لحظة الانتفاض الاستثنائية أن تجد امتداداً وصياغات تجعل منها مشاريع مستمرة وغير عابرة؟

1- المنشورات

ليس خفيّاً أن الإعلام السائد في لبنان يرتبط بشكل عضويّ بالمال السياسي. يشير السوسيولوجي في الميديا نبيل دجاني إلى أن الإعلام المستقل في لبنان هو أسطورة، تحرّكه في الواقع تكتلات من الزعامات وأصحاب المال. فيُلحظ في هذا الإعلام دفقاً من المعلومات والمحتوى الغريب عن الاهتمامات الواقعية للمواطن العادي، يؤدي إلى حفظ، بل زيادة الانقسامات السائدة في المجتمع .(1) هذا من جِهة، ومن جهة أخرى، فالصحف في حالة احتضار على دفعات سببها أزمات تمويلية متلاحقة أصابت عدة صحف – حتى الكبرى منها - في السنوات الأخيرة، خالقة فراغاً هائلاً في المشهد الصحافي. بعد الانتفاضة التشرينية، كان لافتاً جداً استعادة عدة مبادرات إعلامية وثقافية مستقلّة للنشر الورقي، وإصرارها عليه في زمنٍ خفُت فيه الاستعداد للطباعة في الـ"ماينستريم". لهذا السبب، يفرد النص في ما يلي مساحة لرصد بعض التجارب في هذا المجال، مع ملاحظة عدم تجانسها الأكيد واختلافها في الشكل والمضمون اختلافاً بيّناً، لكن لعلّ هذا الاختلاف مؤشّر بدوره إلى مسألة انعدام "الصوت الواحد" في "انتفاضة تشرين" اللبنانية وضمّها لفئاتٍ واسعة جداً من اللبنانيين، مع رغبةٍ جليّة في استعادة الكلمة، على الأرض كما في الفضاء الإعلامي.

جريدة 17 تشرين

في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 صدر العدد الأوّل من الجريدة التي أطلقت على نفسها اسم "17 تشرين"(2) . موقعٌ وصحيفة مطبوعة كانا نتيجة حوار وأفكار تفاعلت في ساحات الاحتجاج نفسها وخرجت من حلقات النقاشات العفوية التي طبعت ليالي الساحات في المناطق. من هذا المنطلق استهلّ رئيس تحرير الصحيفة بشير أبو زيد افتتاحية عددها الأوّل بـ "سلامٌ من الشّعب، بلغة الشّعب". يؤكّد القيمون على المشروع استقلاليتهم التامة، وكون تمويلهم لا يأتي إلّا بشكل حصري من تبرعات لبنانيين مشاركين في الانتفاضة الشعبية ومن مغتربين أحبّوا أن يكونوا جزءاً من الحركة على الأرض في الوقت الذي لم تسنح لهم الفرصة بالمشاركة بالجسد. العاملون في المشروع متطوعون، والصحيفة تصدر على أساسٍ شهري وتوزّع مجاناً، وقد كانت تُوزّع في أيام الاحتجاجات اليومية في الساحات على المتظاهرين في كل المناطق اللبنانية، كما حرصت على إيجاد نقاط توزيع من بيروت إلى النبطية وطرابلس والشويفات وسائر المناطق، تأكيداً على لامركزية الحركة الاحتجاجية وضرورة إعلاء الصوت في كل المناطق.

غلاف إلكتروني على صفحة "17 تشرين على فيسبوك" عند تعليق إصدارها مؤقتاً

فور صدورها، تمّ تلقّف جريدة 17 تشرين على أنها "جريدة الثورة" والناطقة باسمها، إلّا أنّ الجريدة تنفي عن نفسها تلك الصفة حصراً، معتبرة أنها تفتح باب المشاركة بالنصوص والصور والرسومات لأيّ من الراغبين. وهي تتضمّن مقالات رأي ومقالاتٍ في الثقافة والشعر، إلى جانب تبويبها الأساسي الذي هدف إلى التوثيق اليومي، كما تفرد الجريدة على موقعها مساحة دائمة "لذكرى شهداء الثورة".

وبدورها لم تنجُ "17 تشرين" من الممارسات المصرفية التعسفية، فقد أعلنت في آذار/ مارس الفائت تعليق إصدارها "بسبب احتجاز "مصرف فرنسَبنك" للتّبرّعات التي جُمعت من الشّعب قبل شهرين، من خلال حملة التبرّع الالكترونيّة عبر موقع "زومال"، بحسب بيانها على صفحاتها الإلكترونية. وقد أعلنت الجريدة موقفها من أمام "فرنسبنك" أن "لا بديل من النّضال في صراعٍ فُرض علينا لنحيا. وإن أفرغوا أقلامنا من الحبر، سنملأ الأوراق من فحم الحرائق القادم على عتبات مرافق النّصّابين". وفيما الأموال ما تزال حتى تاريخه محتجزة، إلا أن الجريدة استأنفت الطباعة في حزيران/ يونيو بعد إطلاقها حملة تبرعات أخرى لا تمرّ عبر القناة المصرفية ذاتها، وبعملها التطوعي الكامل. وقد تكون "17 تشرين" قد كانت الأكثر حضوراً في عزّ حركة الانتفاضة الشعبية على الأرض، قبل أن تخف وتيرة التحركات، والأولى من حيث الصدور طباعياً وكموقع الكتروني لمواكبة الحدث، حيث صدر عددها الأول في أواخر تشرين الثاني / نوفمبر 2019.

الخندق

بعد جريدة 17 تشرين، ظهرت في المشهد مبادرة أُخرى في عالم المطبوع هي جريدة "الخندق" الشهرية (3) . هي "مغامرةٌ في عالم متداعٍ" بحسب القيّمين عليها، ويلعب الاسم على الخندق بما هو رمز للموقف المحدد الذي لا لبسَ فيه، ليوضح رئيس تحرير الجريدة بشار اللقيس (4) أنّ "الخندق" تتبنّى خياراً واضحاً، جوهره "أنّ معركة الفساد ليست منفكّة أو معزولة عن معركة مواجهة الهيمنة. اعتبرنا أن المواجهتين يجب أن تكونا متلازمتين". ويضيف، "لا نتحدّث عن مثاليات، فلعلّ لكل خيار شائبات في مكان ما وفوائد في أماكن أخرى، فالسياسة في الواقع هي مجموعة من الإكراهات التي يضطرّ المرء للموازَنة بينها. باختصار، آمنا بضرورة مواجهة الفساد وضرورة التغيير وفي الوقت نفسه بضرورة المحافظة على خط مواجهة ضدّ أميركا وإسرائيل." من هنا، تتبنّى الجريدة شعار "موقف، التزام، مواجهة"، وفيما يُنظر إلى خطابها كخطابٍ قريب من حزب الله، ينفي اللقيس أيّ ارتباطٍ بأية جهة حزبية، ويؤكد أنّ المشروع يعتمد على التبرعات والتطوّع بالعمل "من ألفه إلى يائه" من أفراد مقتنعين بضرورته.

مقالات ذات صلة

"نعم، خيارنا الكبير متعلق بالحفاظ على المقاومة، ولكننا ننادي بأن تتحوّل المقاومة لمشروع نهضة ينعكس في كلّ مفاصل الحياة... هذا هو بوضوح الاتجاه الذي اتخذناه، وهو عموماً لا يُرضى أحداً في لبنان"، يقول اللقيس. تبدو الجريدة جزئياً استجابةُ لنقاش تجدد بقوّة مع الاحتجاجات حول سلاح حزب الله كعنوان خلافي، وحول مساءلة الحزب عن دوره وتحالفاته في السلطة. وهي دليلٌ آخر على سِعة طيف المشاركين في الاحتجاجات على كامل مساحة البلاد والاختلاف في وجهاتهم، على الرغم من العناوين الكبرى التي جمعت المنتفضين في كل المناطق وطوال أسابيع التظاهرات.

على موقع الجريدة، نجد تبويات تتناول الوضع اللبناني وأخرى تتخطى المحلّي إلى ما هو أبعد، فهناك مثلاً: عربي ودَولي، إفريقيا، إسرائيليات، ثمّ أبواب تهتمّ بالفلسفة والثقافة والميديا والرياضة، بما يشبه تبويبات الجرائد اليومية إلى حدّ ما. لكنّ جريدة "الخندق" تريد لنفسها أن تكون "صحافة مواجَهة"، لا صندوق بريد يشوبه التمييع المسيطر على المشهد الإعلامي، على حدّ تعبيرها. وهذا بالنسبة للجريدة يعني الانحياز إلى القناعات بدلاً من الأحزاب والأجندات. "انحيازاتنا هي لما نراه صواباً، للخيار الذي نعتقد أنه يجنبنا توسيع الشرخ وتعميق الأزمة".

صورة غلاف العدد الأول من "الخندق" الصادر في نيسان/ أبريل 2020 (المصدر: الخندق)

رحلة

"تجريبية، سفليّة، حُرّة". هكذا تعرّف مجلّة رِحلة الشهرية (5) عن نفسها باقتضاب. والمجلة تجربة فريدة من حيث اللغة الحرة والميل إلى التجريب في الشكل والمحتوى. وإن كانت بدايات "رحلة" تعود لزمن ما قبل انتفاضة 17 تشرين، حين صدرت بشكل متقطّع عن مجموعة من الأصدقاء، إلا أن الانتفاضة دفعتها إلى معاودة الظهور بعد طول انقطاع، بجدية أكبر ووتيرة ثابتة هذه المرّة. يقول حرمون حمية، رئيس تحرير رحلة، أنّ "17 تشرين كانت لحظة استثنائية وفرصةً لإعادة التقرّب من بعضنا كأصدقاء، وأيضاً كمعنيين مباشرة بما يحصل. فكانت فكرة إعادة إحياء مشروع "رحلة"، لكي لا يفكّر كلّ على حِدة ـ فنستعيد روح العمل الجَمعي. فكما أنّ الناس حاولوا خلال انتفاضة 17 تشرين القول بأنّ مشاكلنا وأحلامنا واحدة، فكذلك نحن نعتقد بأن مشاكلنا الفردية لها أبعاد ومسببات في المجال العام، ووجدنا أنه من الأجدى أن نفكّر معاً".

غلاف العدد رقم 13 لشهر آب/اغسطس 2020، تصميم: راوند عيسى (المصدر: رِحلة)

في صفحتهم التعريفية، يبدأون بيانهم بجملة "إن لم تنخرط في السياسة، فكن علي يقين أنّ السياسة ستنخرط بك"، للكاتبة كريستينا إنغيلا. "رحلتهم" مشاركةٌ في مدينة ملاهي السياسة كما يصفونها، "ولكي نتخيل سيزيف سعيداً، لا بدّ لنا من تعبيد الطريق، وتوجّب علينا تأمين الـ"رحلة"...". وتأمين الرحلة هذا يحصل على مبدأ اللا - ميزانية واللا - كلفة، إذ اتفق القيمون عليها على الإصدار بوجود المال أو عدمه، وعلى مبدأ "لمّة يا شباب" بين الأصحاب، حيث العمل فيها تطوعي بالكامل. وقد أطلقت مؤخراً حساب دعم جماعي عبر موقع "باتريون" لمحاولة تمويل جزء من المشروع.

غلاف العدد الاستثنائي الذي يتناول انفجار 4 آب/ اغسطس 2020 (المصدر: رحلة)

2- إعلام السوشال ميديا الموازي

إلكترونياً، برزت صفحات عديدة على وسائل التواصل الاجتماعي، بشكل رئيسي على فيسبوك وتويتر وانستغرام، شاركت محتوىً خبرياً عن التطورات الميدانية في ساحات الاحتجاجات، دعت للمسيرات، قامت بتغطيات مباشرة، شاركت أسماء معتقلين، نقلت آخر التطورات المتعلقة بالمصارف، دعمت المواطنين في سعيهم للحصول على أموالهم المحجوزة، وأعلنت مواقف مجموعات المتظاهرين من الأحداث. من هذه الصفحات على سبيل المثال لا الحصر، "مجموعة شباب المصرف" (7) ، "أخبار الساحة"، صفحة "تأميم المصارف" (8) ، صفحة "كافِح"، صفحة "لبنان ينتفض". وهذه الصفحات تحوّلت في عزّ جذوة المظاهرات إلى مصادر أوّلية لا ثانوية في استقاء الخبر أو الموقف، تسبق وسائل الإعلام وتعتمد على المشاركين على الأرض وتشارك عدداً هائلاً من الصور والفيديوهات ذات الصلة باللحظة.

منشور يحتفل بإبطال مشروع سدّ بسري الذي عارضته بشدة مجموعات الانتفاضة (المصدر: صفحة "أنقذوا مرج بسري"- فيسبوك)

مجموعات إلكترونية أخرى اتخذت طابعاً أكثر تخصصاً بقضايا محددة تسعى لتسليط الضوء عليها، فمثلاً صفحة "أنقذوا مرج بسري" (9) ركزت على مقاومة تمرير صفقة مرج بسري التي تؤمن بأنه سيدمّر مرجاً بيئياً هاماً وأثرياً من أجل مشروع يستدين من البنك الدولي ولا يضمن حلّ مشكلة المياه. مجموعات ناطقة باسم نقابات بديلة ظهرت على السطح كذلك، مثل "نقابة الصحافة البديلة" وغيرها. وهذه كلها مبادرات لم تنشأ إلا بعد الانتفاضة التشرينية وسرعان ما صارت أسماؤها مألوفة جداً لدى كلّ متابع للأحداث في البلاد.

مقالات ذات صلة

على الرغم من غياب التنظيم عن الصورة الكبرى للانتفاضة، بقيت هذه الصفحات وإن عشوائية ومتفاوتة، تظهر واحدة تلو الأخرى وتغذّي الفضاء الالكتروني، متجاوِزةً القنوات السائدة، ومستقلّة عن مصادر المعلومات المكرّسة. بطبيعة الحال، في وضعٍ يسوده القلق والحركة المستمرة في الشارع مع ما رافقها من عنف من السلطة أو اعتداءات على المتظاهرين، تطفو على السطح دائماً إشاعات لا حصر لها أو أخبار كاذبة أو غير دقيقة، وكثرة الصفحات التي وًلدت من ساحات الاحتجاج قد تلعب دوراً مزدوجاً في هذه الحالة، فتكون مصدراً "بديلاً" عن الإعلام الرسمي، دقيقة أو غير دقيقة بالضرورة، ولكنها تتيح مقارنة الأخبار والتمحيص من مصادر متعددة.

"بروباغندا": الميديا أداة تحريض

من الصفحات الإلكترونية التي اختارت ألّا تخوض عالم الخبر "بروباغندا". عوضاً عن ذلك تشهر شعار "حلّل، حرّض، تَنَظّم". بشكل واضح وبلا مواربة تعلن الصفحة سعيها للفعالية السياسية المباشرة. يقول فريق بروباغندا "تبلورت الصيغة الإلكترونية لبروباغاندا بعد انتفاضة 2019، غير أن هذا المنبر التحريضي هو امتداد لتيار فكري يساري تحرري ذو جذور عريقة، نجد بذورها في أولى انتفاضات شعوب المنطقة على الإستعمارات المتعاقبة التي مرت على هذه الجغرافيا، وصولاً إلى إنشاء هذه الكيانات الدولاتية بأنظمتها السياسية القمعية والبرجوازية التابعة". يؤكّد الفريق أن اسم بروباغندا يعبّر تماماً عن عملهم كمنصّة اعلامية مسيّسة غير مهتمّة بنقل الواقع بطريقة حيادية، بل عبر السعي إلى التحليل والتأثير والتحريض وحضّ الطبقة العاملة على الانتظام لمواجهة سلطة رأس المال. فلبنان بالنسبة لهم "ليس حدثاً أو خبراً، بل هو سرديات تتناحر بين تماوجات الغضب الشعبي وإرادة التنظيم الطبقي التحرري الشامل"، على حدّ تعبير الفريق.

تطالعنا صفحاتهم (على فيسبوك، تويتر، انستغرام) بمنشورات غرافيكية فيها الرسم والصورة والكلام في خدمة الموقف الذي تحاول نقله، كما تنشر الصفحة مقاطع فيديو تعتمد الـ"voice-over" الذي يبني من مجموعة معطيات مقرونة بالصور والمقاطع الإخبارية أو الأرشيفية تحليلاً أو تحريضاً.

منشور بمناسبة ذكرى مجزرة تلّ الزعتر، يحرّض الانتفاضة الراهنة على التثوير (المصدر: بروباغندا)

في ظلّ الجو السياسي والمالي الهدّام والمحبط في البلاد، يؤمِن فريق "بروباغندا" أن إطلاق المنصة لا يتعلّق بمسألة ظرفية بقدر ما هو تبلورٌ لواقع الحالة السياسية التي تنتمي إليها المنصة كتيار يعرف عن نفسه بكونه ماركسياً أممياً. "نحن لا نهدف إلى بناء منصّة إعلامية، بل إلى بناء تنظيم ثوري تكون هذه المنصّة إحدى أدواته. فعالية منصتنا الإعلامية مرتبط بحركية هذا التيار الفكري الذي، إذا ما نظرنا إلى الوضع السياسي في لبنان كجزء من المشهد السياسي العالمي، بات أكثر تأثيراً مما كان في العقود السابقة"، يقول فريق بروباغندا، الذي بدوره يعمل بشكل تطوّعي بالكامل.

نُشر بعد انفجار 4 آب/ أغسطس 2020 (المصدر: بروباغندا)

"نقوم بعملية التفكيك/التحليل المؤدلج هذه من خلال الاشتباك والتناحر في صفوف الطبقة العاملة على الأرض، فبالنسبة لنا لا ينتهي الإعلام مع عملية نقل الخبر، بل يبدأ منه نحو فعل تحليلي توجيهي ممنهج لا ينحاز إلى مآسي الناس فحسب بل إلى تنظيم استراتيجيات لعملية التحرر من المنظومات التي تُعيد إنتاج تلك المآسي...". إذاً، تحريض، فتجذير فتنظيم، هو نهج عمل الفريق الذي يسعى للدفع نحو تبني موقع النقيض - لا المعارض - للنُظُم الحاكمة. "تستدعي هذه العملية إخراج الحركة الشعبية من آنياتها المطلبيّة الضيّقة"، يضيفون. ومن هنا، نجد في منشورات "بروباغندا" اشتباكاً في النضال النسوي الجنساني، الاشتراكي، العمّالي، الطبقي ضدّ البورجوازية والسياسات النيوليبرالية والرأسمالية والاستعمار ليس في لبنان فقط، إنما في العالم العربي وسائر العالم، في تكثيفٍ مؤدلجٍ عن سابق تصوّر وتصميم، تفترضه طبيعة أهداف المنصة.

خاتمة

لا يحيط النصّ بالتأكيد بكلّ المنصات الإعلامية أو الثقافية والإبداعية الصغيرة والكبيرة التي حفّزت ولادتها انتفاضة 17 تشرين الاول/ اكتوبر 2019 وما تلاها من تحركات احتجاجية، ولكنه قدم عيّنة يتضح من خلالها أنّ ثمّة مروحة واسعة من المبادرات متباينة المنطلقات والأهداف والنتائج وطُرق العمل. بل قد يصل اختلافها إلى الانفصال الكامل في ما يحرّكها وما تنتمي إليه فكرياً، أو قد تجد نفسها قريبة من مجموعة وبعيدة كل البعد عن أخرى. يبقى أنّ كل ما هو بديل عن السائد وكل ما هو وليد الانتفاضة – خاصة في الشق المتعلق بالميديا - يخضع أيضاً لتقييم نقدي بين المنتفضين (غير المتجانسين) أنفسهم، أو أنهم يجدون ما يوافق هواهم فيتابعونه أو يخالفه فيشيرون إليه بالنقد. وذلك أمر لا يُشترط بالضرورة أن يشرذم جمع المنتفضين، على اعتبار التنبه لخطورة إعادة إنتاج الأنماط القديمة في إعلام المحاور أو الوقوع في الأدوار الاستعراضية أو المائعة غير الفعالة. هذه الفضاءات الجديدة، باختلافاتها، تكمن أهميتها في كونها بالدرجة الأولى مؤشّراً على ما بقي من رمق في بلدٍ يكاد يقنعك بأنّه ليس سوى جثّة هامدة أصابه نصيب من كل مصيبة.

ومع لحظ علاقات القوة والاختلالات المستشرية بين الإعلام والمال والسياسة، بين رأس المال وسطوته على الفنون والثقافة، بين "برجزة" فضاءات الفنّ وتغريب الطبقات الشعبية والعمال والطلاب عن دوائره الكبرى، ومع هيمنة المركز الثقافية على الأطراف وحصر المتاحات بالمشروعات الممولة من الجهات والمؤسسات غير الحكومية ذات التمويلات الأجنبية، حيث يجد الشباب "فجأة" صوتاً لهم وهامشاً أكبر من الحرية وأساليب أكثر "عصرية" وإغراء للتعبير... مع كلّ هذا كواقعِ حال، وبعد تحريك الراكد في شوارع بيروت وطرابلس وصيدا والنبطية وغيرها من المناطق، يمكن فهم حتمية ظهور عدد كبير من المبادرات المتنوعة لمواكبة الشارع، خاصة في غياب رؤية موحدة أو رؤى متعددة واضحة لمشروع ثوري في ذلك الوقت الذي طبعته التلقائية وسرعة تدحرج الأحداث في البلاد.

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________

Dajani, N. 2019. The Media in Lebanon. Fragmentation and Conflict in the Middle East. London: I.B. Tauris & Co Ltd -1.
2- موقع جريدة 17 تشرين
https://17teshreen.com/
3- موقع الجريدة:
http://al-khandak.com/
4- اعطيت المقابلات للكاتبة وللسفير العربي
5- موقع رحلة:
https://www.rehlamag.com/
6-فيديو العدد 11 بعنوان "هباءً منبثّاُ"، توليف علي دلّول. المصدر: رحلة
https://www.facebook.com/155417794618528/videos/598692754334188
https://www.facebook.com/msmasref -7
https://www.facebook.com/ta2mimalmasaref -8
https://www.facebook.com/savebisri -9

مقالات من لبنان

كلنا مستهدفون، كلنا HVT

خوف الناس من وحشية آلة الحرب الإسرائيلية قد تحوّل إلى خوف من بعضهم البعض. وصار هاجسهم ألا يكون الشخص الذي يقف إلى جانبهم، أو ذاك الذي يقود السيارة التي تسير...

للكاتب نفسه

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

أجمل من خيال

صباح جلّول 2023-07-06

إنها أجمل من الخيال والأفلام، هذه الحكاية، والناس في حكاياتنا أجمل من الأبطال الخارقين أيضاً وأكثر إبهاراً. ننظر إلى المشهد مرة أخرى، فنتفاجأ بشبان عاديين، عاديين تماماً، ولكن قادرين تماماً...