في الأوّل من أيلول/سبتمبر من العام الفائت، وبمجرّد تسلّم أسامة المزيني منصب وزير التعليم في حكومة حماس المقالة، وتحت شعار «لا إله إلا الله، في غزّة أغلى راية»، بدأ تطبيق برنامج «الفتوّة» في صفوف المرحلة الثانويّة في المدارس الحكوميّة بقطاع غزّة المحاصر.
البرنامج الذي جاء نتاج تعاون ما بين وزارة التربية والتعليم ووزارة الداخليّة والأمن الوطني وكتائب الشهيد عزّ الدين القسّام شمل حوالي مئة ألف طالب موزعين على محافظات القطاع، وكان حسب القائمين عليه - تمثلاً لقول الرسول «المؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف»، ونصرة للدين، ومحاولة حثيثة لحماية الجيل من بعض «المسلكيّات الخاطئة» التي استفاض في الحديث عنها محمد صيام، مدير الأنشطة التربوية في وزارة التعليم، موضحاً أنّها تشمل «الزيّ والشعر والملبس». صيام أشار إلى أنّ هذه «المسلكيات الخاطئة» بدأت تندثر بعد تطبيق برنامج الفتوّة الذي يسعى، بينما يسعى إليه، إلى ترسيخ مظهر شموليّ لا حياد عنه: الانضباط.
يشمل البرنامج جوانب تتعلّق بإعلاء الحسّ الأمني، وتثبيت «الهويّة الاسلاميّة»، والتدريب على بعض الفنون القتاليّة واستخدام السلاح والتعامل مع الأجسام المشبوهة واطفاء الحرائق، ناهيك عن رفع اللياقة البدنيّة وغرس معاني «الرجولة والبطولة والفداء» في وجدان جيل كان ولا يزال، حسب أهل البرنامج وداعميه، مهدداً «بالالتفات الى اللهو والضياع والانحراف».
خرّج هذا البرنامج دفعة مخيّمه الأوّل قبل بضعة أشهر في مهرجان احتفالي، كان يلوّح فيه رئيس الوزراء المقال اسماعيل هنيّة، من منصته العالية، للفتية الذين يسيرون في تشكيلات عسكريّة، في مشهد يذكر بمجتمعات سابقة تعسكرت واندثرت. وهو منسجم مع حكومة حماس التي لم تدّخر جهدا، لا بالقول ولا بالفعل، لتؤكّد على سعيها المقدّس، لا نحو حكم غزّة فحسب، بل وتغيير المدينة بقدّها وقديدها، وتشذيب ما خالف الايديولوجيا الحاكمة فيها، وجعل شبابها نسخا من قالب واحد متّفق عليه.
ففي حين كُلّفت الكتلة الاسلاميّة (ذراع حماس الطلابي) بالقيام بحملات «فضيلة» تحثّ الشباب على ترك التدخين واختيار تسريحات شعر «إسلاميّة» ورفع بناطيلهم، ومُنح أفراد الأمن المنتشرين في الشوارع «إذناً على بياض» للتدخل في أي موقف يشكّون في «أخلاقيّته» في الفضاء العام، يأتي برنامج الفتوّة ليقول الشيء نفسه، إنّما بأسلوب أكثر عسكريّة وشدّة. بل إنّ المسؤولين في وزارة التعليم يؤكدون أن «طموحهم» يمتدّ ليشمل برنامج الفتوة، في المستقبل القريب، طلاباً من المرحلة الإعداديّة!
البرنامج الذي تسوّق البروباغندا الرسميّة له باعتباره سعياً نحو خلق «مجتمع مقاوم»، ما هو في حقيقته إلا عسكرة لا وزن استراتيجيّ لها، ومحاولة من قبل فصيل لابتلاع مجتمع بأسره. في البرنامج وحصصه، ترتبط الدوافع الوطنيّة بتحليلات ايديولوجية معينة. عبّر عن القلق من هذا البرنامج عدد من المشتغلين بمجال علم النفس وحقوق الانسان وعلم الاجتماع، والذين كان من بينهم سمير زقّوت، مدير البحث الميداني بمركز «الميزان» لحقوق الانسان، في مقابلة تلفزيونيّة له حول تداعيات برنامج الفتوّة. زقّوت اعتبر البرنامج «خطوة جوفاء بالكامل» ووضع يده على حقيقة أنّ خطوة من هذا النوع، والتي تعني ما تعنيه من تأثير على جيل بأكمله، لم يستشر فيها أحد، وخططت لها ونفذتها الحكومة التي هي، بالتعريف البنيويّ، من ايديولوجيا واحدة ولون فصائلي واحد. بداهةً، سيواجه أيّ نقد لهذه الخطوة بالقدح في وطنيّة صاحبه ومنطلقاته المبدئيّة. إذ من هذا الذي يجرؤ على رفض المقاومة ويطالب بتحجيمها؟
لكن، ليس في «الفتوّة» مقاومة كي يرفضها من يرون في الفتوّة فعلاً متعدياً وشموليّة مقيتة. كيف يكون تعليم شباب المشية العسكريّة مفيداً لقضيّة فلسطين؟ وكيف يكون تدريبهم على السلاح الخفيف اسهاماً ايجابياً في الصراع مع اسرائيل الذي تجاوز، أقلّه في غزة، مرحلة الاشتباك المباشر بالبنادق، ورست مراكبه عند تبادل الصواريخ؟ كما أنّ غزّة ليست بحاجة إلى من يحضّ شبابها، وفق فهمه المغلق، على حبّ فلسطين والاسلام.
ما كان للمقاومة، على اختلاف فصائلها، أن تنشط في غزّة وتتمدد لولا الطبيعة الديموغرافية لأهلها، ونشأتهم التي هي ـ من دون تدخل خارجي ـ تدفع لاعتناق كلّ ما يلزم من أفكار وطنيّة وحسّ أمني ومهارات مدنيّة.
والمقاومة تعمل اليوم بكل أريحيّة، على الصعيد الداخلي، دون أية معوقات تذكر. كما وأنّ درب الانضمام إليها معروفٌ للجميع، ويمكن للشباب بعد سنّ معينة أن يسلكوه إذا رأوا في نفسهم الكفاءة والاتّساق. أما أن تتعسكر المدارس، دون استشارة ولا دراية، ويصبح النشاط الوحيد المتاح صيفاً، بعد إلغاء الأونروا لمخيّماتها الترفيهيّة، هو المزيد من المخيمات العسكريّة، وأن يجري التهليل لمشاهد شباب في السادسة عشرة من عمرهم، ستقتل إسرائيل من تقتل منهم بالصواريخ، يفكّون، معصوبي الأعين، بنادق روسيّة تكاد تكون خارجة بالمطلق عن الاستخدام...
مواضيع
برنامج "الفتوّة" في غزة: خدمة للمقاومة؟
مقالات من غزة
خالدة جرار مسجونة في قبر!
"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...
اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة
لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...
كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..
شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...
للكاتب نفسه
الكنيست الإسرائيليّ كما يُشاهد من غزّة
عادت مشاركة العرب الفلسطينيين في إسرائيل في انتخابات الكنيست لتحتّل نصيب الأسد من جدالات المقاهي وشبكات التواصل. الحدّة التي تتسم بها هذه الجدالات بين أطراف يصعب على مراقب خارجيّ أن...
داعش والأربعون مثقّفًا
ضجّ الفضاء الإلكتروني الفلسطيني في الأيّام الأخيرة بأحاديث تتعلّق بالدولة الإسلاميّة ووجودها في قطاع غزّة. جاء هذا بعد أن عثر طلاب في جامعة الأزهر بغزّة على بيان يحمل شعار الدولة...
لا نريد «رام الله» أخرى هنا
«ما حققناه، وأقول هذا تواضعًا، هو أننا خلقنا رجالاً جددا»: الجنرال كيث دايتون، مدير المركز الأمني الأميركي في الضفّة الغربيّة، في خطابه أمام معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.قدّمت الحكومة الفلسطينيّة...