يتوجّه أكثر من خمسة ملايين ناخب تونسي يوم 26 تشرين الأوّل/أكتوبر الجاري إلى صناديق الاقتراع لاختيار ممثّليهم في مجلس نوّاب الشعب. ولئن كانت هذه الانتخابات وليدة توافق أفضى إليه الحوار الوطني للخروج من الأزمة السياسيّة التّي أعقبت اغتيال النّائب بالمجلس التأسيسي محمّد البراهمي في تموز/يوليو 2013، فإنّها تندرج في سياق سياسي عامّ يتّسم باحتدام الاستقطاب الثنائي بين حركة النهضة الإسلاميّة، وحركة «نداء تونس» التّي أعادت تجميع أجزاء واسعة من شبكات النظام القديم. والاستقطاب الذّي تشكّل في الشارع مرشّح لأن يترسّخ في صناديق الاقتراع، ممّا سينعكس سلباً على التوافق الذّي توصّلت إليه مختلف الأحزاب السياسيّة. وتبدو مرحلة ما بعد الإعلان عن النتائج على قدر كبير من الأهميّة لأنّها ستُفضي حتماً إلى تقديم ميزان قوى قد يُذكي الصراع بين مختلف الأطراف واضعاً الانتقال الديموقراطي على المحكّ.
هشاشة التوافق وحدّة الاستقطاب
يمثل انعقاد الانتخابات قبل نهاية هذا العام آخر مراحل خارطة الطريق التّي اتفق عليها الفرقاء السياسيّون. إلا أن هذا التوافق يتّسم بالهشاشة، خصوصاً أنّه لم يبتّ بالآليّات والقواعد التّي ستُدار على أساسها المرحلة الانتقاليّة المقبلة، مكتفياً بالتعجيل بإنهاء المرحلة السابقة.
والواقع أنّ التوافق كان نتيجة لعجز مختلف الأطراف عن حسم صراع دارت رحاه في الشّارع بين حركة النهضة المتمسّكة بالشرعيّة الانتخابيّة ومعارضيها الذّين سعوا لنسف المسار الانتقالي من خلال المطالبة بإسقاط المجلس الوطني التأسيسي. ولم تعد حركة النهضة قادرة على مواصلة حكم البلد في ظلّ تدهور الوضع الاقتصادي والأمني وتراجع دعم المؤسّسات الماليّة العالميّة المطالِبة بضمان حدّ أدنى من الاستقرار السياسي، بالإضافة طبعاً إلى تحوّل الوضع الإقليمي بعد الانقلاب في مصر. خوف النهضة من العزلة قابله عجز معارضيها عن إسقاطها في الشّارع. «توازن الضعف» هذا جعل من التوافق على الاحتكام للصندوق حلاً يضمن للإسلاميين مواصلة تطبيع وجودهم كقوّة سياسيّة مراهنة على حكم البلد، وللأحزاب المنبثقة عن النظام القديم إعادة إدماجهم في المشهد من خلال التخلّي عن قانون العزل السياسي.
ساهم انسحاب حركة النهضة من الحكم في خفض منسوب الاحتقان في البلاد، وفَسَح لها المجال لإعادة تنظيم صفوفها والاستعداد للاستحقاق الانتخابي، خصوصاً أنّ دفاعها عن عقد الانتخابات التشريعيّة قبل الرئاسيّة والتزامها بعدم تقديم مرشّح من صفوفها لهذه الأخيرة قد جعلها في منأى عن سهام جزء هامّ من معارضيها، الذي راحوا يطمعون في دعمها لهم في الرئاسيّات. في المقابل، تُمثّل هذه الانتخابات اختباراً هامّاً للأحزاب الدستوريّة لمعرفة أوزانها في صناديق الاقتراع. ذلك أنّ شبكات الحزب الحاكم السّابق، التجمّع الدستوري الديموقراطي، قد انفرط عقدها وتفرّقت بين مستقيل من العمل السياسي أو باحث عن تموقع انتهازي في مختلف الأحزاب (بما فيها حركة النهضة الإسلاميّة) أو عاجز عن توحيد الحركة الدستوريّة التّي قسّمتها الولاءات الجهويّة والطموحات الشخصيّة لقادتها.
تبدو حركة «نداء تونس» المدعومة من دوائر نافذة في مجال الأعمال الأقدر على الاستقطاب، خصوصاً أنّها خليط من شبكات مرتبطة بالنظام السّابق ومن نُخب حداثيّة رافضة لمشروع الإسلام السياسي، وكذلك ـ وهذا الأهمّ ـ من جزء غير يسير من الطبقات الوسطى والشعبيّة الغاضبة من الأداء الضعيف لحكومات الترويكا (التي أقامتها حركة النهضة وحلفاؤها) الذّي أدّى إلى تردّي الأوضاع المعيشية والأمنيّة. بين هذا وذاك، تقف قُوى سياسيّة تبحث عن كسر هذا الاستقطاب الثنائي وإحداث اختراقات في عدد من الدوائر قد تمكّنها من تكوين كتلة وازنة في مجلس النوّاب المقبل.
حسابات الصندوق ومنطق السياسة
من المرجّح ألا يحصُد أيّ حزب الأغلبيّة في المجلس المقبل، خصوصاً أنّ نظام الاقتراع يضمن تمثيل عدد كبير من الأحزاب والتيّارات، مع إمكانيّة تشتيت أصوات النّاخبين. بالتّالي فإنّ الفترة التّي ستلي الإعلان عن النتائج ستشهد تفاوض القوى السياسيّة الفائزة لتشكيل حكومة قادرة على نيل ثقة المجلس. في هذا الإطار، قرّرت حركة النهضة استباق النتائج والدعوة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنيّة يفتح باب المشاركة فيها للأحزاب المحسوبة على النظام السّابق. وعلى الرّغم من التعليقات التّي رأت في هذا المقترح مجرّد مناورة، فإنّها تعكس في الواقع قراءة براغماتيّة وواقعيّة للمشهد السياسي التونسي. فلقد أثبتت تجربة الترويكا للإسلاميين أنّ الاستقواء بالشرعيّة الانتخابيّة لا يعني بالضرورة القدرة على حكم البلد، وأنّ الاستقرار السياسي لا يتقرّر وفق منطق حسابي، بقدر ما يضمنه توافق واسع يأخذ بالاعتبار القوى السياسيّة والأطراف الاجتماعية الفاعلة والمؤثّرة، كاتّحاد الشغل واتّحاد الصناعة والتجارة على حدّ سواء. كما يلعب الوضع الإقليمي الرّافض لصعود الإخوان دوراً أساسيّاً في كبح جماح «النهضة» التّي تعلم جيّداً أنّ جيران تونس لن ينظروا بعين الرضا لهيمنتها على الحكم، خصوصاً أنّ المرحلة المقبلة ستشهد إعادة صياغة النظام السياسي عبر انتخاب السلطات المحليّة والجهويّة، بما تحمله من فُرص سيطرة الإسلاميين على مفاصل الدولة.
بالمقابل، فإنّ فوز حركة «نداء تونس» في الانتخابات التشريعيّة قد يُمثّل انقلاباً على المسار الانتقالي عبر صناديق الاقتراع، لأنّه سيُمهّد الأرضيّة لتكوين ائتلاف واسع يعزل الإسلاميين.
بالمحصّلة، فإنّه من المهمّ أن تتولّى شؤون البلد حكومة وحدة وطنيّة بعيداً عن منطق الأغلبية النسبيّة، لأنّ تجربة الترويكا أثبتت أنّ الديموقراطيّة لا تُبنى في المراحل الانتقاليّة بآليّات الصراع والمغالبة بين حكومة معتدّة بشرعيّتها الانتخابيّة ومعارضة مستعدّة للالتجاء للشارع لتغيير موازين القوى الناتجة عن صناديق الاقتراع. التوافق على حكومة وحدة وطنيّة مهم أيضاً لجهة قطع الطريق على الصفقات الثنائيّة بين طرفي الاستقطاب، والتّي تمرّ عادة عبر التضحيّة بمطالب الثورة، خصوصاً أنّ المرحلة المقبلة مؤهّلة لأن تكون فترة تُفتح فيها الملفّات الكبرى كالعدالة الانتقالية، والإصلاحات الاقتصادية والجبائيّة، وانتخاب السلطات المحليّة التّي تقتضي إعادة صياغة النظام السياسي ونمط التنميّة الذّي عرفته تونس منذ استقلالها.
التوافق لإعادة الاعتبار للسياسة
يطرح كثيرون التمديد لحكومة التكنوقراط كحلّ لتجاوز انقسامات الطبقة السياسيّة وعجزها عن التوافق. ينظر هؤلاء للتكنوقراط على أساس أنهّم يمثّلون الكفاءة والحياد والابتعاد عن الحسابات الحزبيّة، معتبرين أنّ المواطن العادّي ضاق ذرعاً بالصراعات السياسيّة، وأنّه يبحث عن حلول لمشاكله المعيشيّة، وأنّ هذه الحلول هي تقنيّة بالأساس مرتبطة بالقدرة على التنفيذ واتّخاذ القرار المناسب، وهذا ما لا يملكه السياسيّون. خطورة هذا الخطاب لا تكمن فقط في تمجيد التكنوقراط، ممّن جعلوا الحياد والصمت وغياب الموقف والانتهازيّة تحت الديكتاتوريّة.. ورقة لصعودهم بعد سقوطها، ولكنّه خصوصاً في تبخيس السياسة بما هي استفتاء في الخيارات الكبرى المطروحة اليوم في تونس، وحسم في الصراعات الاجتماعية والاقتصاديّة، بما يضمن إعادة الاعتبار للفئات والجهات المهمّشة. تبخيس السياسة والتعالي عليها يعكس رفضاً للاحتكام إلى الشعب، مصدر السيادة في الديموقراطية التمثيليّة. حكم التكنوقراط فيه تعالٍ عن السياسة ودعوة إلى الحكم بدون الشعب.
التوافق على حكومة وحدة وطنيّة في المرحلة التّي ستلي الإعلان عن النتائج لن يكون مجرّد خطوة على طريق إرساء قواعد إدارة الشأن العامّ بين مختلف الأطراف السياسيّة، بل فرصة حقيقيّة لإعادة الاعتبار للسياسة، خصوصاً أنّ التقديرات بارتفاع نسبة العزوف عن التصويت قد تُشكّل امتحاناً حقيقيّاً لكلّ الطبقة السياسيّة.