تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
كنتُ برفقةِ صديق شاعر ورسّام هو محمّد ثامر يوسف، أواخر العام 2019، يومَ بدأ الهجوم على ساحة التحرير من الأحزاب والمسلحين والخاطفين، بعنف مريع يفوق طاقة الشباب الحالمين بعراق آخر.
بدأتْ جولتنا من "نفق التحرير" وصولاً إلى شارع "الرشيد". مساحات من الألوان والتعابير الحرّة على طول هذا الطريق، حيث لم تألف بغداد هذا الاصطفاف الفنّي الغريب في مدينة استحوذت عليها لافتات الساسة ورجال الدين.
حال وصولنا مدخل شاطئ التحرير المتفرّع من إحدى زوايا شارع الرشيد، وجدنا شاباً من الرسّامين الجدد منهمكاً في إكمال رسمة له. وبلا مقدّمات دار هذا الحوار المشترك معه: "هل تفكّرون بمصير هذه الرسومات ما بعد هذا الحراك؟" قال: "ما قدّمناه تعبير عن لحظة وجوديّة، نعلن فيها عن أنفسنا، ونشهر رفضنا لمن أرادوا إلغاء من يفكرون باستقلالية وبتطلّع أبعد من أسوار التسلّط الجديدة". الشاب مستوعبٌ لفكرة تحويل الاحتجاج إلى منصة يطلق فيها موهبته، ويخلق أثره في فضاء عام لم يكن له من ذي قبل أيّة لمسة فيه، الفضاء الذي جيّره الآخرون لشعاراتهم ووجوههم.
عفوية بملابس "كشوال"
شيء من التنظيم العفوي أحاط بالرسومات التي تأسّس وجودها في لحظة طوارئ ومواجهة ثوريّة، انتظم فيها الرسّامون كجماعة يعرف أفرادها حدود كلّ واحد منهم داخل جنّة مختلقة هي نفق ساحة التحرير. مساحات ملوّنة ومنسّقة أرادت الإفلات من تاريخ البلاد وجراحها النازفة باستمرار، لنكون أمام تقديم "معرض فني شامل" من دون جهة تنظيميّة، وأمام مشاركين لا ينتظرون مسؤولاً حكوميّاً يقص شريط افتتاح فعاليّتهم، ومع شغل لم يرتهن للبحث عن مساحة يقفز منها إلى تنافس جاهز في الساحة الفنيّة.
ولعلّه من النادر أن يرسم أو يحضر من هو حديثُ عهدٍ في الفنّ، جنباً إلى جنب مع فنّانين لهم تجاربهم، من دون تحسّسٍ أو أستذة تمارس على الخاص والعام في الحياة الافتراضيّة والواقعيّة.
اشتغالاتٌ بأساليب متعدّدة، تَزيّن بها النفق، أو ما تناثر منها على الجدران المحيطة بساحة التحرير. إذ مع بدء التظاهرات في تشرين الأوّل 2019، شعرت مجموعة من الشباب أنّ هذه المساحة هي ملك صرف لحريّتهم، خارج مجال المدينة التي لم تصغِ إليهم. رسمة ثمّ رسمتان ثم ثلاث، ثمّ محفل شامل، يجمع بين شتّى المشاغل المحترف منها والمبتدئ، لتتشكّل هذه المقاطعة الفنيّة المُرتجلة. وهي بلا حاكم غير حرّاسها من هؤلاء المغامرين بملابسهم ال"كشوال" (casual) وألوانهم.
الرسومات باقية، دليفري الساحات تبخّر
في معنى هذه الطاقة المتفجّرة للجيل الأحدث في عراق اليوم، انعتاقٌ مؤقّت من الإحساس بالخيبة، حينما شبّوا ولم يجدوا ما يُطمئن ذواتهم قياساً لما يعاينوه في مواقع التواصل، أو في المدن التي أطلّوا عليها لأيّام مع عائلاتهم، شرقاً وغرباً، فكانوا في نطاق صدمة حضاريّة سريعة، كبرت في دواخلهم لتترجم انعكاساتها غضباً مُعلناً في الشارع.
يقول رسام شاب عن مصير اللوحات التي تزاحمت على جدران شوارع بغداد: "ما قدّمناه تعبير عن لحظة وجوديّة، نعلن فيها عن أنفسنا، ونشهر رفضنا لمن أرادوا إلغاء من يفكرون باستقلالية، وبتطلّع أبعد من أسوار التسلّط الجديدة".
نفق ساحة التحرير وفّر "معرضاً فنياً شاملاً"، من دون جهة تنظيميّة وأمام مشاركين لا ينتظرون مسؤولاً حكوميّاً يقص شريط افتتاح فعاليّتهم، ومع شغل لم يرتهن للبحث عن مساحة يُقفز منها إلى تنافس جاهز في الساحة الفنيّة.
الانبثاق الفني لم يُرِد للهتاف أن يبدو لوحده في منازلة القوى التقليديّة، إنّما أراد أن يكون تمثّلاً لخيالات متنوّعة وجدت في الجدران حاضنةً مثاليّة، وتأسيساً جماليّاً لتلك الجماعة التي لا تنتمي إلا للحظةٍ تشرينيّة، خارج النسق الرسمي والكيانات الثقافيّة والفنيّة المعروفة. فما بعد الموت المعلن في الساحات، ثمّةَ ردٌّ يعاكس الرصاصة التي تنطفئ سخونتها في الأجساد، ويحوّل حالة اقتلاع الشباب من الحياة إلى جسر للحقيقة له قيمته المعنوية آنياً، وإمكانيته على خلق الأثر الباقي مستقبلاً.
تمكّن نفق التحرير من خلق روابط فنيّة على الأرض، ومن نشر فعله الناعم إلى ساحات أخرى خارج بغداد جنوباً. لكنّه ليس انتشاراً على أساس المركز والمحافظات الأخرى التي تلتحق به، إنّما التأثير والتأثّر الخلاق، بمعنى الساحات التي تتناغم مع بعضها وتتآزر من أجل الثبات.
____________
من دفاتر السفير العربي
2019: انتفاضات مبتورة النتائج
____________
سِيقت اتّهامات كثيرة، أريد لها أن تلغي الطابع العفوي لدى السواد الأعظم من الفاعلين في حركة "احتجاجات تشرين"، فلم يصدق البعض بروز جيل يرفض منطق ما بعد 2003 في تأكيد سطوة القوالب الطائفيّة على الحياة العامّة والتعاملات اليوميّة وسلك التوظيف. فجاء الرفض قويّاً لمن يريد أن يكتب مرثية للنزعة الطائفيّة ولحسابات "نحن وهم"، رفضٌ وصل إلى حدود إلصاق كلّ صغيرة وكبيرة بهؤلاء الشباب. يقول متابع لسياق ما حصل: تعالت القوى والأحزاب على مجتمعها، وارتاحت لما هي فيه من ضياع. ولمّا انفجر الغضب الشعبي، اتّسعت القطيعة مع هذه المجموعات من السياسيّين والمرتبطين بهم وظيفياً وتنظيميّاً.
بالطبع، وبلا إنكار، جرى اختراق الساحات بخيم مدفوعة الثمن وأُجراء يهتفون ويتحرّكون من أجل كيانات معيّنة. لكنّ ذلك لم يخفِ السطوع الأكبر الذي وثقته الصور عبر آلاف الوجوه الصادقة، وبلا شك فإن الرسّامين في طليعة المبادرين في جوّ "تشرين". كان فعلهم الذي بقي بعد رفع الكثير من الخيم المموّلة، وانسحاب الناشطين "الدليفري"، متطابقاً في معناه مع مقطع من رواية "وليمة لأعشاب البحر"، إذ ترد لحيدر حيدر عبارة يمكن نقشها على جبين ذلك النفق في بغداد، "التاريخ يشبه البحر. ففي لحظة الغضب يلفظ من أحشائه الطحالب.. وحطام القراصنة، إلى شواطئه، ويظل البحر..".
النفق برسوماته، هو هذا البحر الصافي في الحراك الثوري العام الماضي، حمل معه رغبة في صناعة نموذج من قلب بغداد مكتمل الملامح والأركان، غير ملفّق، ملموس على الأرض، بالضدّ من موت الدولة وفشل نهوضها وسراب الوهم الذي وقع فيه المجتمع وهو يحلم ويحلم، ومن ثمّ يكتشف أنّه أسير أخبار مكررة لمشروع سياسي قائم على ترويع الناس، وإخافتهم من بعضهم البعض.
إمضاءات الغرافيتي المؤنث
كثير من تجارب الغرافيتي في العالم، قُيّدت باسم فنّان مجهول ترك بصمته وتوقيعه على الجدار ثمّ مضى. فكان الرسم على السطح العام منطلقاً لتوجيه رسالة من فنّان إلى سلطة ما، أو حتّى إلى المجتمع. في حالتنا العراقيّة، خاض أفراد من المثقفين والفنّانين – وأنا منهم - تجاربَ في ترسيخ حضور الغرافيتي في الفضاء العراقي. رسمٌ مع صورة لشخصية إبداعيّة، أو رسمُ مقطع شعري يدين الثارات العشائريّة، لتُترك هذه الأعمال في مواجهة الشارع كي يطّلع عليها.
في ثورة "تشرين" الأمر مختلف. لم يتوارَ فنّانو الغرافيتي الذين رسموا أسلحة القنّاصين وأشكالاً وهيئاتٍ من سلطات صنعت كلّ هذا القهر الاجتماعي، بل على العكس، كانوا أشجع من غيرهم. هم المتظاهرون أنفسهم الذين اعتصموا، ووقفوا لساعات في وضح النهار وفي ظلام الليل، وهم يكملون - بأدوات الرسم - ملامح من يترصّدهم في الخارج.
كان الغرافيتي ما قبل تشرين ممارساتٍ فرديّة ضمن مبادرات، يرمز الفنان لاسمه بأحرف أو علامات. في الجمهورية الجديدة، جمهورية تشرين، تكتب الرسّامة اسمها ملاصقاً لاسم زميلها، أو تتفاخر أخريات بأسمائهنَّ وهي منظورة بخط واضح على النفق. لذا الغرافيتي هنا ليس متحدّياً ومتحالفاً مع المستحيل فحسب، ومُهدّداً بالفناء، بل هو مؤنث أيضاً، أبطال إنتاجه إناث برفقة زملاء لهنَّ.
في ثورة "تشرين" الأمر مختلف. لم يتوارَ فنّانو الغرافيتي الذين رسموا أسلحة القنّاصين، وأشكالاً وهيئاتٍ من سلطات صنعت كلّ هذا القهر الاجتماعي، بل على العكس، كانوا أشجع من غيرهم، هم المتظاهرون أنفسهم الذين اعتصموا ووقفوا لساعات في وضح النهار وفي ظلام الليل، وهم يكملون -بأدوات الرسم- ملامحَ من يترصّدهم في الخارج.
كان الغرافيتي ما قبل تشرين ممارساتٍ فرديّة ضمن مبادرات، يرمز الفنان لاسمه بأحرف أو علامات. في الجمهورية الجديدة، جمهورية تشرين، تكتب الرسّامة اسمها ملاصقاً لاسم زميلها، أو تتفاخر أخريات بأسمائهنَّ وهي منظورة بخط واضح على النفق. لذا الغرافيتي هنا ليس متحدّياً ومتحالفاً مع المستحيل فحسب، ومُهدّداً بالفناء، بل هو مؤنث أيضاً، أبطال إنتاجه إناث برفقة زملاء لهنَّ، يملكن ما هو أكبر من التوصيفات التقليديّة للمشاركة "الناعمة".
من الحبوبي إلى نهاوند
لم تكن رسومات النفق ببغدادَ هي التمثّل الأوحد لطاقة التعبير الشبابيّة. ربّما هي منطلق مركزي، فإلى مسافة 360 كم جنوب غرب بغداد، يمكن اعتبار الناصرية معقلاً لمواجهة اجتماعيّة من نوع خاصّ مع الأحزاب، تتخطّى فعل التظاهر وحده، إلى صوغ عبارات وكتابة لافتات سريعاً ما انتشرت من البصرة إلى بغداد، كيف لا، والمدينة مرجلٌ يغلي بالشعر الفصيح والعامي، وعلاقتها بإشهار الكلام والحكم قديمة.
هيّأ ميدان الاحتجاج هناك فرصةً لإظهار قطيعة اجتماعيّة مع السلطة من نوع خاص، بلغة الناصرية وأصوات أهلها الذين انتظروا طويلاً كي يغادر الطعم المرُّ أفواههم.
"اعتصام في ساحة الحبوبي"، "عبوة ناسفة قرب ساحة الحبوبي"، "أهازيج ساحة الحبوبي اليوم"... هكذا جاءت أخبار تلك الأيّام والحبوبي متصدّر لها، ولا غرابة في أن يحمل هذا الميدان اسم محمد سعيد الحبوبي، الشاعر والفقيه والإنسان المتمرّد بما عبّر عنه في قصائده وحياته.
هيّأ ميدان الاحتجاج في مدينة الناصرية - 360 كم جنوب غرب بغداد - فرصة لإظهار قطيعة اجتماعيّة مع السلطة من نوع خاص، جرت بلغة الناصرية وأصوات أهلها، وهي مرجلٌ يغلي بالشعر الفصيح والعامي، وعلاقتها بإشهار الكلام والحكم قديمة. أهلها الذين انتظروا طويلاً كي يغادر الطعم المرُّ أفواههم.
ساحة الشاعر الشاخص بتمثاله، زاخرةٌ بالطاقة الشعريّة والتعبيريّة، هناك اكتشفنا "نهاوند تركي"، أشجع صوت نسائي في المحافظة، بعد أن عُرفت بإلقاء أبيات من الشعر الشعبي، نظّمتها لاستنهاض الثورة، ورفْدها بما يعطيها زخماً وقدرة على المواصلة.
الهتافات والأهازيج التي أطلقتها نهاوند ومن حولها العشرات من النساء، مشهدٌ لم نألفه في جنوب العراق. كانت هذه الشابة دليلاً على حيوية مجتمع بأكمله، وعلى قدرة نسائه على خوض مواجهة نبيلة وحاسمة لكنّها انتحاريّة. وبالأخص حينما تكون هي عرضةً للرصاص، وتنجو منه مصادفة.
"نهاوند تركي" أشجع صوت نسائي في محافظة الناصرية، وقد عُرفت بإلقاء أبيات من الشعر الشعبي، نظّمتها لاستنهاض الثورة. كانت الشابة دليلاً على حيوية مجتمع بأكمله، وعلى قدرة نسائه على خوض مواجهة نبيلة وحاسمة، لكنّها انتحاريّة.. وبالأخص حينما تكون عرضة للرصاص وتنجو منه مصادفة.
وممّا تناقلته المواقع وصار صوتها فيه يعلو من الهواتف الجوالة، شيء من هذه المقاطع: "كَالوا كم ليلة يملون وما ملينا / نحرك كم خيمة يرجعون وما ملينا.."، "هاي رمز للفداء هاي هاي الناصرية/ هي أهل الشهداء هاي هاي الناصرية"، "خل تسمع كلّ الحزبية / ذوله إحنه الجيل الصامد.. لا أتباع ولا لوگية / ذوله إحنه الجيل الصامد.. صوتياتك ما هزّتنا / ذوله إحنه الجيل الصامد".
كربلاء والنجف: مستجدات المعطى البصري
وسائل الإعلام وشاشات التلفزة لم تتعمّق في خطابها للبحث عن صور ولوحات حياتيّة أخرى داخل مدن بعينها. عرفنا عن كربلاء الطقوس العاشورائيّة ودرجة تواشجها مع المسرح الملحمي التراجيدي، إلا أنّنا لم نعرف الكثير عن قيمة الفنّ التشكيلي لدى الجيل الكربلائي الجديد وعلاقته بالحداثة، أو مدى تفاعله مع الصورة، حيث المعطى البصري من كليّة هذا النشاط، هو من سيبني ذاكرة هذا الجيل.
____________
من دفاتر السفير العربي
العراق ينتفض: أريد حقي، أريد وطناً!
____________
وما دام "الإنسان سليل العلامة"، والعلامة منحدرة من الرسم والتخطيطات، لذا فإنّ مدينةً مثل كربلاء لها ارتباط قويّ بأصوات المنابر وبخطابات النعي، كان لافتاً أن يتقدّم فيها شبان التظاهرات، وهم يرسمون أشكالاً من الغرافيتي تتوسّطها كلمات محسوبة وذات مغزى، لتكون هذه الأعمال محطّةَ استقبال للمارّة كي يتفاعلوا معها، ومجالاً للتأويل والتواصل العابر لحدود هذه المدينة نحو بغداد والناصرية والبصرة وغيرها.
وفي النجف، المدينة الدينيّة التي يكتفي الإعلام معها، كما في كربلاء، بما هو موجود من ملامح ثابتة ومختصرة للمكان هناك.. في تشرين تخلخلت الصيغ، من دون القول أنّ هناك صيغةً جديدة أزاحت القديمة السائدة في المدينة، إنّما صعدت إلى سطح الأحداث ممارساتٌ شبابيّة كانت مطمورةً تنتظر ساعة للولادة، بالتجاور المعتاد بين الكتابة والرسم. إلا أنّ هذا التلاقي الإبداعي على الجدران، وإن كان عفويّاً وغير مستوف للشروط الجماليّة المطلوبة، لكنّه يسجل مفارقته، حينما خطّت معالمه بنات جريئات بعباءاتهنَّ السود ومعهنَّ زملاء لهنَّ، ممّا يعطي للأعمال فاعلية مختلفة في محيطها، تبدو فيه حتى تلك البساطةُ الظاهرة من بعض الجدران، مقبولةً كتمرين أوّل في مدينة لها موجهاتها ومحدداتها المعروفة.
خيم مبدعة
أحد أطواق الخيبة التي أحاطت بالمجتمع العراقي، ومنذ 17 عاماً، هي السيل المُتلاحق من أخبار التراجع العام والتدني في مستويات التعليم والعمران المهمل والعشوائيات المنتشرة. فلم يكن نشوء خيم ثقافيّة وفنيّة، إلا مسعى لتشكيل كيان مثالي ناجح ينتصر لذاتٍ محاصرة بالأنباء المرهقة، ورغبة في تحقيق تفوّق على الأرض يترافق مع الفعل الاحتجاجي وينطلق منه أيضاً. تسميات مختلفة للخيم، تبدأ من "جواد سليم" ولا تنتهي بأسماء الشهداء الذين سقطوا في ساحات عدة. وفي بغداد، يمكن تحديد ثلاثة اتّجاهات للخيم الإبداعيّة في ساحة التحرير، الأوّل: خيمتان اختصّتا بالسينما والمسرح، والثاني: خيم للقراءة واستعارة الكتب، والثالث: خيم للتداول والندوات النقاشيّة، ويصح عدّ خيمة نقابة المحامين الأنموذج الدقيق المعبّر عن الاتجاه الأخير.
في المحافظات الأخرى الثائرة، كانت خيمة الاعتصام - في الغالب - هي الحاضنةَ لأي نشاط إبداعي أو ندوة حواريّة، ربّما لأنّ مجال الحركة في بغداد داخل الساحة كان أكبر، إذا ما قورن بساحات أخرى تفسح المجال لفعاليات ثقافيّة، لا تخصّص فيها كما حصل في العاصمة، حيث نتذكّر خيمة "سينما الثورة" و"مسرح التحرير".
يبقى أن نثبّت حقيقةً تتعلّق بخيم القراءة من خلال الكتب التي عُرضت: كان المسؤولون عنها يعرضون كتباً تثير سجالاً فكريّاً، منها ما هو متعلّق بالفكر الإنساني، ومؤلّفات سرديّة، وإصدارات تناقش التاريخ الاجتماعي العراقي. وهنا غاب صنف من الكتب ضجّ به "شارع المتنبي" بعد سقوط النظام السابق، مثل كتب المذكرات السياسيّة التي كانت محظورة فيما سبق.
أحد أطواق الخيبة التي أحاطت بالمجتمع العراقي منذ 17 عاماً، هي السيل المُتلاحق من أخبار التراجع العام والتدني في مستويات التعليم، والعمران المهمل، والعشوائيات المنتشرة. فكان نشوء خيم ثقافيّة وفنيّة مسعى لتشكيل كيان مثالي ناجح ينتصر لذاتٍ محاصرة بالأنباء المرهقة، ورغبة في تحقيق تفوّق على الأرض يترافق مع الفعل الاحتجاجي وينطلق منه أيضاً.
كأنّنا أمام اندفاع لنيل مواطنةٍ تلتقي مع الآخر، لا أن تتبعه أو تتقاطع معه بلا فكر متجذّر، مع إنّ الاعتراف واجبٌ بأنّ ذلك غير مأمون النتائج على صعيد عمق الوعي الشخصي للأفراد لاحقاً، خاصّة إذا ما عرفنا أنّه نتيجة طبيعية للسأم الفردي والجمعي من كوارث الشأن المحلي، وادعاء امتلاك الحق والحقيقة بين جماعات ومكوّنات صارت تقدّم مصالحها على مجمل الحسابات اللازمة لإنقاذ البلد.
فوتوغراف لجردة حساب
غير سمات الكرم والإيثار التي أبرزتها الساحات بين المشاركين في التظاهرات، مكسبٌ ثان أعطتنا إيّاه تشرين، هو هذا العدد الجيّد من الفنّانين الفوتوغرافيّين الذين تباروا في نشر صور بكاميراتهم لأجواء الاحتجاج. ميزة اللقطات الجديدة أنّها توثّق حالات متناقضة في الزمن نفسه، الموت والحياة، رصاص وورد، خوف وأمل، شعب يتعرّف على نفسه بشكل مغاير، وقوًى تمعن في تخوينه ومعاداته.
"ثورة تشرين" في العراق... مرّ عام!
08-10-2020
أتذكّر كيف أنّ صوراً بعينها قلبت المزاج في مواقع التواصل، وغيّرت الموقف في الساحات، وجعلت ما هو مرئي ولا مرئي متاحاً للتناول الشعبي، فلم يكن كافياً التواري خلف كليشيهات مستعادة تستجلب فكرة المؤامرة، والمؤامرة قائمة بضياع فرصة تلو أخرى لبناء البلاد وحمايتها.
في ساحة التحرير ببغداد ظهرت ثلاثة أنواع من الخيم الإبداعية: خيمتان اختصّتا بالسينما والمسرح، وخيم للقراءة واستعارة الكتب، وخيم للتداول والندوات النقاشيّة. في المحافظات الأخرى الثائرة، كانت خيمة الاعتصام - في الغالب - هي الحاضنة لأي نشاط إبداعي أو ندوة حواريّة.
صور تشرين، بوجوهها ولافتاتها، جردةُ حساب مع مرحلة منقضية، ستبدو فيما بعد وثائقَ عن الدم المسفوح، وعن استماتة أكثر من طرف على جعلها مجرّد مشاهد طارئة يحوم حولها الشك، وهي بالتالي- أيّ هذه اللقطات- دليلُ قدرة لأفراد واعدين على صناعة الكثير لو توافرت لهم بيئة أفضل.
سيظلّ الأرشيف الفوتوغرافي محفوظاً عن تلك الأيام، ولن تختفي معه آثار ضربات البنادق التي طالت عدسات بعض الفنّانين، أو ما اختزنته هواتفهم النقالة من عبارات وعيد وتلميحات ترهيب، من أجل اعتزال هذا الدرب، درب ملاحقة الإرادة الصلبة في الساحات وتوثيق ما جاد به أصحابها.
قصائد الأنفاس المغتالة
في النطاق الواسع لحضور المتن الثقافي والفني في حراك تشرين، كُتبتْ عشرات القصائد، بين الفصحى والعاميّة، وقع كثير منها في بيدر التضامن والوقوف مع الثورة الشبابيّة، بما نستخلص منه أنّ الهبّة الجماهيريّة هي من استقطبت الشعراء إلى منطقتها، ولم يكن الشعر في "تشرين" محرّكاً للجموع، بقدر ما يصح عدّه مسانداً ومديناً لتضحيات الفتيان.
غير سمات الكرم والإيثار التي أبرزتها الساحات بين المشاركين في التظاهرات، مكسب ثان أعطتنا إيّاه تشرين، هو هذا العدد الجيّد من الفنّانين الفوتوغرافيّين الذين تباروا في نشر صور بكاميراتهم لأجواء الاحتجاج. ميزة اللقطات الجديدة أنّها توثّق حالات متناقضة في الزمن نفسه.
شيء من الانتصار للأنفاس المُغتالة في الساحات، أحدثته بعض القصائد، بيد أنّها لم تؤشر تخطّياً على مستوى الفنّ الشعري، سواء قصائد النثر أو حتّى التي كتبت بالعاميّة العراقيّة.
الشعر في كراسة تلك الأيّام، بدا مدوّناً لمواقف أسماء ما، ومنبّهاً إلى غياب أصوات شعريّة عن موعد وطني، لأسباب عديدة ينطلق بعضها من الارتهان لقناعات وتفسيرات مذهبيّة جرى الترويج لها منذ بدء أحداث العام الماضي. هذا على صعيد النصّ، أمّا بما يمثّل الشعراء أنفسهم، فكانوا ضمن جسم الاحتجاجات، منظّمين وداعمين ومتفاعلين بدرجات متفاوتة.
أبناء ثقافة الصورة
هل من سرّ في أنّ فنون الغرافيتي والرسم عموماً ظهرت في الثورة بشكل بليغ وقوي؟ ومن دون ستار أو قناع، وبما يجعلها متقدمةً خطوات على فعاليات شعريّة ومسرحية موازية. ربّما لعلاقة الجيل الأحدث في عراق اليوم بالخطاب البصري، فهو لصيقُ التقانات الحديثة، يحب القراءة نعم في الأعم الأغلب منه، لكنّه ابن ثقافة الصورة السريعة، يجد فيما يستدعيه من عبارات وخطوط على الجدار، تعبيراً عن ذاته ومتبنّياته التي تحتاج إلى الصقل والمعرفة وخوض التجارب. هناك حاجة للمعرفة.. نعم بلا شك. فالذي حصل في تشرين الفائت، بداية تغيير اجتماعي، أهمّ ملامحه تلك الحالات والصور والأعمال.
فوزٌ لزمن آتٍ
جزءٌ من حالة النجاح التي اتّسمت بها رسومات نفق ساحة التحرير وشارع الرشيد ومقتربات شاطئ التحرير، وصولاً إلى بقية ما جرى رسمه في المحافظات، أنّها تخلّصت من الطابع الشعبوي الذي لازم الكثير من الفعاليّات والمظاهر بعد نيسان 2003، والذي امتدّ أيضاً إلى بعض النتاج الشعري المناصر للثورة والمشار إليه أعلاه.
صور تشرين، بوجوهها ولافتاتها، جردة حساب مع مرحلة منقضية، ستبدو فيما بعد وثائقَ عن الدم المسفوح، وعن استماتة أكثر من طرف على جعلها مجرّد مشاهد طارئة يحوم حولها الشك. سيظلّ الأرشيف الفوتوغرافي محفوظاً عن تلك الأيام، ولن تختفي معه آثار ضربات البنادق التي طالت عدسات بعض الفنّانين، أو ما اختزنته هواتفهم النقالة من عبارات وعيد وتلميحات ترهيب.
هل من سرّ في أنّ فنون الغرافيتي والرسم عموماً ظهرت في الثورة بشكل بليغ وقوي، ومن دون ستار أو قناع، وبما يجعلها متقدمة خطوات على فعاليات شعريّة ومسرحية موازية. ربّما لعلاقة الجيل الأحدث في عراق اليوم بالخطاب البصري، فهو لصيق التقانات الحديثة، يحب القراءة نعم في الأعم الأغلب منه، لكنّه ابن ثقافة الصورة السريعة.
تفوّق حققته هذه الأعمال، يتلخّص في تخطّي اللحظة العراقيّة الراهنة، وما فيها من انهيار وتداعٍ أبعاده نفسيّة وثقافيّة، ليظفر الشباب بفوز آني مع أنفسهم، سيخلّف أثراً كبيراً في المستقبل، وفي حدود أبعد من المناطق التي وجد فيها.
متحف البراءة العراقي
لكن، وباستعارة عنوان رواية أورهان باموق "متحف البراءة"، عندما افتتحه فعليّاً على الأرض العام 2012 بـ 83 واجهةً (فاترينةَ عرض زجاجية) تجسيداً لفصول روايته، نعود إلى ذلك الشاب الذي التقيناه مصادفة قبل أشهر، كان جسوراً في حلمه وتعبيراته، حينما أعدنا عليه سؤالنا ثانية: هل تفكرون بمصير هذه الأعمال، لو مسحها أحد، لو ألغتها البلدية من الحيطان؟
كان الجواب يشبه التشرينيّين في غضبهم وإيمانهم بذواتهم: "حتى وإنْ اختفت الكثيرُ من هذه الرسومات، سنعمل لها متحفاً افتراضيّاً، وسنطمح لمتحف أو معرض شامل يجمعها كلّها". هذه الكلمات بقدر خضوعها لنبرة وجدانية عالية، غير أنّها صادقة، ومفيد أن نعلن بحقّها: أخيراً صار لدينا متحفُ براءة عراقي، ممزوج بالدم والدموع وأحلام السيادة واستقلال القرار الوطني.
محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.
*تصوير الغرافيتي - حسام السراي