تحفظ الذاكرة السياسية السودانية صورة بائسة عن اتفاقيات السلام، والتي ظلت تدور في حلقة مفرغة: اتفاق سلام، مشاركة في السلطة، خروج من السلطة، عودة الحرب، ثم اتفاق فحرب... وأشهر اتفاقيات السلام تلك، هي التي أوقفت حرب العشرين عاماً بين الحكومات السودانية المتعاقبة، و"الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة جون قرنق، والتي وقعت وسط زخم دولي عام 2005 بضاحية نيفاشا الكينية، وهي فعلياً أوقفت الحرب، وبدأت التنمية تزدهر، وتدفق النفط الذي كان أثره الاقتصادي كبيراً على كل السودانيين. لكن، وبالمقابل، انتهت الاتفاقية بإعلان دولة جديدة بعد انفصال جنوب السودان 2011، الذي أفقد الشمال مورد النفط، ودخل بعدها في مرحلة التدهور الاقتصادي المتصاعد.
اتفاق سلام منقوص!
بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير الذي أحكم قبضته على البلاد لثلاثين عاماً، لم يخطر ببال السودانيين أن يُتداول كلمة "تفاوض"، إذ أن الطبيعي أن تضع الحركات المسلحة سلاحها، ويعود قادتها إلى الوطن، وتنخرط مباشرة في العمل السياسي، وتتشارك مع بقية القوى السياسية في كيفية إدارة البلاد خلال مرحلة الانتقال.. والسبب بسيط، أو هكذا يبدو، لأن الحركات التي رفعت السلاح منذ 2003 كان هدفها إسقاط النظام، فسقط النظام عبر ثورة سلمية عارمة.
لكن الخلافات التي نشبت بين الأحزاب السياسية، والحركات المسلحة، والموقعة جميعها على ميثاق "الحرية والتغيير" - وهو التحالف الحاكم - جعلت الحركات المسلحة تتخذ موقفاً مختلفاً. واحتاج الوضع فعلياً لعملية تفاوض بين قوى الثورة نفسها.
بعد نحو عام من التفاوض المستمر، وقّعت الحكومة الانتقالية، و"الجبهة الثورية" - تحالف حركات مسلحة - على اتفاق سلام رعته دولة جنوب السودان، في آب/ أغسطس المنصرم. ومن المنتظر أن يُعلن الاتفاق بشكله النهائي مطلع تشرين الأول/ أكتوبر. وتضم الجبهة الثورية "حركة تحرير السودان" بقيادة مني أركو مناوي، و"حركة العدل والمساواة" بقيادة جبريل إبراهيم، و"حركة تحرير السودان-المجلس الانتقالي" بقيادة الهادي إدريس يحيى، و"الحركة الشعبية" بقيادة مالك عقار، وبعض المجموعات التي تمثل وسط وشرق السودان.
بعد سقوط حكم البشير، نشبت خلافات بين الأحزاب السياسية والحركات المسلحة، والموقعة جميعها على ميثاق "الحرية والتغيير" - وهو التحالف الحاكم – ما جعل الحركات المسلحة تحتفظ بسلاحها وتتحفظ. ولقد احتاج الوضع فعلياً لعملية تفاوض بين قوى الثورة نفسها.
لكن "اتفاق جوبا"، والذي يترقبه كثيرون، يظل اتفاق سلام منقوص، إذ لا تزال "حركة جيش تحرير السودان" بقيادة عبد الواحد محمد نور - وهي حركة بارزة في دارفور- ترفض التفاوض. وعلى الرغم من أنها أعلنت عن رؤية جديدة للسلام تُقاد من داخل البلاد إلا أنه في الواقع لم يحدث شيء. كما لا تزال المسافة بعيدة مع "الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال" برئاسة عبد العزيز الحلو، والتي تسيطر على مناطق بجنوب كردفان وجبال النوبة. ويطرح الحلو خيار علمانية الدولة، أو تقرير مصير مناطق جبال النوبة وهي مناطق ذات تعدد ديني.
ماذا خاطب "اتفاق جوبا"؟
خاطب "اتفاق جوبا" الموقع بين الحكومة الانتقالية، والجبهة الثورية ملف قسمة الثروة والسلطة، حيث نص الاتفاق في مسار دارفور على "استيعاب أبناء وبنات دارفور بنسبة 20 في المئة في كافة مؤسسات الخدمة المدنية، وأن تكون نسبة دارفور من الموارد النفطية والتعدينية المستخرجة من الإقليم 40 في المئة لمدة 10 سنوات". وفيما يلي مسار المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق): تضمن الاتفاق نصيباً من الثروة المنتجة محلياً يصل إلى 40 في المئة لمدة 10 سنوات. ويكفل الاتفاق أيضاً للمنطقتين حق التشريع استناداً إلى دستور 1973 الذي يعترف بالدينين الإسلامي والمسيحي، ويكفل المساواة في الحقوق والحريات لجميع مواطنيه.
السودان وجدل الشريعة.. السياسي
11-06-2014
وخاطب الاتفاق قضية ملكية الأرض، والتي تُعرف محلياً بـ "الحواكير" وهي من القضايا شديدة الأهمية والحساسية، إذ تتعلق بالسكان الأصليين، والذين جرى توطينهم خلال سنوات الحرب. عطفاً على ذلك، خاطب الاتفاق ملف الترتيبات الأمنية، والذي يسود اعتقاد أنه تم التوافق عليه بشكل مرضٍ لكل الأطراف، وهو من أعقد ملفات التفاوض في عمليات السلام، ودائماً ما ينطوي على "شيطان التفاصيل" لأنها تتعلق بمصير جيوش الحركات المسلحة، والتي تُقدر بـ 40 ألف مقاتل، ونص الاتفاق على تشكيل قوة مشتركة من جيوش الحركات الموقعة على اتفاق السلام، والقوات النظامية (الجيش، الشرطة، الأمن والدعم السريع) على أن تكون القوة المشتركة المكونة من 12 ألف جندي بنسبة 50 في المئة للقوات الحكومية، و50 في المئة لقوات الحركات، واعتبر أنه موكل لها حفظ السلام في مناطق النزاع، على أن تتم عملية الدمج خلال 40 شهراً من توقيع الاتفاق. وينتظر أن تقود الترتيبات الأمنية إلى بناء جيش ذي عقيدة وطنية موحدة، ويطوي السودان سنوات الحرب، لكن تظل الإرادة السياسية القوية هي الفيصل، ولا يزال الجدل مستمراً حول إعادة هيكلة القطاع الأمني والعسكري بعد الثورة.
يتخوف كثيرون من مطبات "الترتيبات الأمنية" إذا ما تعثر إنفاذ السلام، وللسودان تجارب مريرة في هذا الصدد. وإن كان ثمة تميّز في اتفاق السلام الحالي، فهو جاء بعد سقوط نظام البشير الذي شن حروباً في عدد من الجبهات، وحصد بندا الدفاع والأمن 70 في المئة من ميزانية الدولة على مدى سنوات طويلة.
صمتت البندقية.. ولا يبدو أن أحداً راغب في استمرار الحرب، في ذلك أيضاً تأثير الضغوط الدولية التي تصاعدت بعد ثورات "الربيع العربي". وفعلياً، على الأرض، توقفت العمليات العسكرية منذ سنوات باستثناء الصراعات القبلية المسلحة.
ويتخوف كثيرون من مطبات "الترتيبات الأمنية" إذا ما تعثر إنفاذ السلام. وللسودان تجارب مريرة في هذا الصدد. وإن كان ثمة تميز في اتفاق السلام الحالي، وهو أنه جاء بعد سقوط نظام البشير الذي شن حروباً في عدد من الجبهات، وحصد بندا الدفاع والأمن 70 في المئة من ميزانية الدولة على مدى سنوات طويلة. ووفقاً لأستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، حامد التيجاني، فإن الحكومة أنفقت 24 مليار دولار على الحرب في دارفور منها 10.1 مليار دولار مصروفات عسكرية، و7.2 مليار دولار عبارة عن الخسارة الإنتاجية للنازحين، و2.6 ملياراً فاقد إيرادات حيوات من فقدوا أرواحهم بسبب الحرب، و4.1 مليار هي قيمة ما لحق من أضرار بالبنية التحتية. كما أن كلفة تداعيات الحرب على الدول المجاورة، وتكلفة عمليات حفظ السلام بلغت 10.9 مليار دولار، وهذه لم تدرج ضمن الإحصائيات (1).
سودان الغد: الرسائل - التعهدات الخمسة عشر
22-08-2019
السودان: التحالفات الهشة تتسيّد المشهد
30-04-2020
صمتت البندقية.. ولا يبدو أن أحداً راغب في استمرار الحرب. في ذلك أيضاً تأثير الضغوط الدولية التي تصاعدت بعد ثورات "الربيع العربي". وفعلياً، على الأرض، توقفت العمليات العسكرية منذ سنوات باستثناء الصراعات القبلية المسلحة، إذ ينتشر السلاح في أيدي الميليشيات على نطاق واسع في الإقليم المأزوم. وهذه قد لا تمثل قضية كبيرة بعد اتفاق السلام الذي تم توقيعه. لكن المعضلة في إنفاذ الاتفاق نفسه، والإشارة هنا ليست حول مدى التزام الأطراف الموقعة أو عدم التزامها، بل المعضلة في تمويل عملية السلام نفسها، والمتعلقة مباشرة بالوضع الاقتصادي بعد الثورة. وحتى الآن لا حديث صريح حول التزام واضح لتمويل عملية السلام، بل لا يلوح في الأفق أي مساعٍ حقيقية لإنقاذ الوضع الاقتصادي، ويتسارع معدل التضخم السنوي في السودان على نحو غير مسبوق، إذ بلغ في آب/ أغسطس 166.83 في المئة، بعدما كان 143.78 في المئة في تموز/ يوليو، وأعلنت السلطات قبل أيام الطوارئ الاقتصادية، وشنت حملات اعتقال واسعة ضد تجار العملة في محاولات – كسيحة - لكبح جماح الدولار أمام الجنيه السوداني الآخذ في التدهور. يبقى الوضع الاقتصادي ليس مهدِّداً لاتفاق السلام فحسب، بل هو يهدد الفترة الانتقالية ككل.
1-حامد التيجاني علي - موارد التنمية المهدورة، تكلفة الحرب في دارفور. إصدار مشروع الفكر الديمقراطي، وقراءة من أجل التغيير 2017.