تونس تقدم نموذجاً ثورياً مغايراً: التفاوض/ التوافق بالملموس 

بعد سنتين ونصف من الصراعات الحادة حول مسألة الهوية والحريات والنظام السياسي الذي سيتم اعتماده، بدأ المجلس الوطني التأسيسي نقاش مشروع الدستور بنداً بنداً. ويبدو الوصول أخيراً الى هذه اللحظة التاريخية وكأنه من جهة وليد الأزمة الحادة التي مرّت بها البلاد منذ اغتيال النائب محمد البراهمي، ومن جهة أخرى كنتيجة للخوف من تكرار السيناريو المصري في تونس. لقد أجبرت مختلف الأطياف السياسية على
2014-01-22

خنساء بن ترجم

صحافية من تونس


شارك

بعد سنتين ونصف من الصراعات الحادة حول مسألة الهوية والحريات والنظام السياسي الذي سيتم اعتماده، بدأ المجلس الوطني التأسيسي نقاش مشروع الدستور بنداً بنداً. ويبدو الوصول أخيراً الى هذه اللحظة التاريخية وكأنه من جهة وليد الأزمة الحادة التي مرّت بها البلاد منذ اغتيال النائب محمد البراهمي، ومن جهة أخرى كنتيجة للخوف من تكرار السيناريو المصري في تونس.
لقد أجبرت مختلف الأطياف السياسية على إيجاد جملة من التوافقات في ظل أزمة ثقة متفاقمة، حيث تم إحداث لجنة لهذا الغرض تلتزم فيها كل الأطراف الممثلة بالتصويت على النتائج التي تم التوصل إليها.وإن تنازلت حركة النهضة عن العديد من النقاط الهامة في الدستور لمصلحة المعارضة، فإن منطق التوافقات أدى إلى قبول الجميع بفصول غامضة تفتح المجال للتأويلات، وتؤجل حسم الصراعات إلى مرحلة ما بعد كتابة الدستور. كما أن هذه التنازلات تثير العديد من التوترات وحتى الإشكاليات داخل حركة النهضة التي وجدت نفسها، بالرغم من ثقل تمثيلها في المجلس، مجبرة على التخلي في صياغة الدستور عن جزء هام من هويتها الإيديولوجية. ومن شأن ذلك أن يزعزع وحدة الحزب ويعمق الهوة بين الجانبين الدعوي والسياسي فيه.بقيت علاقة الدين بالدولة محل نزاع.
فالفصل الأول من دستور 1959 الذي ينص على أن «تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها»، حاز على قبول الأغلبية لغموضه. فهو يمكّن من اعتبار الإسلام كدين الدولة أو كدين البلاد. فبعد أن قبلت حركة النهضة بحذف التنصيص على الشريعة أثناء المفاوضات حول الدستور، في آذار/مارس 2013، قام نوابها بإدخال العديد من الفصول اللاحقة والعبارات التي ترجح التفسير الأول لهذا الفصل، أي أن الإسلام هو دين الدولة.
ثم حدثت التوافقات فتم تعديل العبارة المثيرة للجدل في التوطئة: «وتأسيساً على تعاليم الإسلام ...» بـ «وتعبيراً عن تمسّك شعبنا بتعاليم الإسلام»، مما يترك للفصل الأول غموضه الأصلي. وبعد ذلك رفضت كل التعديلات المخالفة لذلك.وفي السياق نفسه، تم إدراج «مبادئ حقوق الإنسان الكونية السامية» في التوطئة، وتراجع نواب النهضة عن تقييدها بـ«الخصوصيات الثقافية»، بعد أن سبق لهم التأكيد عليها في اللجان، خوفاً من أن تتعارض مع مبادئ الإسلام وقيمه.كما يعتبر الإقرار بحرية الضمير في الفصل السادس من أهم ما انتزعته المعارضة. ولكن الفصل ذاته ينص في الوقت نفسه على أن الدولة «راعية للدين» وليس للأديان، كما طالبت به منظمات المجتمع المدني، و«حامية للمقدسات» من دون تحديدها، مما يترك المجال واسعاً للتأويلات. ومن الطرافة أنه لم تتم إضافة الفقرة في آخر الفصل التي تحظر «التّكفير والتّحريض على العنف» بعدما كانت رفضت، إلا إثر تكفير نائب من نواب النهضة زميلاً له من الجبهة الشعبية.لكن الجانب المحافظ بقي حاضراً.
ففي باب المبادئ العامة، تلي مسألة مكانة الأسرة مسألة الدين. وينص الفصل السابع على أن «الأسرة هي الخلية الأساسية للمجتمع، وعلى الدولة حمايتها». تبقى التداعيات القانونية لهذا الفصل غير واضحة، فهي كفيلة بتأويله الذي قد يمسّ من حقوق الفرد في حالات الطلاق أو العنف داخل العائلة، وذلك لفائدة تماسك الأسرة.يحفظ النص الدستوري عامة جملة الحقوق والحريات. وداخل لجنة التوافقات تمّ الاتفاق على رفع القيود التي كانت تكبلها في النسخة السابقة من الدستور. كذلك أضفى إدخال مبدأ «احترام التناسب بين الضوابط (الحادّة للحريات) وموجباتها» حماية أخرى لها.
إلا أن إمكانية الحد من الحريات تبقى قائمة إذا ما استند المشرع إلى الفصل السادس فرجّح حماية المقدسات على حماية الحريات. مما يوضح المكانة المهمة لما سيكون تأويلات، خاضعة بالضرورة لتوازنات القوى على مر الوقت. ولذلك، فقد كان الصراع حول استقلالية القضاء أثناء النقاشات داخل المجلس التأسيسي على أشده في هذا الصدد. فإلى جانب المحكمة الدستورية، سيكون القضاء مصدراً أساسياً لتأويل النصوص. ولا زالت بعض الفصول التي تحدث جدلاً عالقة.
ومن أهمها تلك التي تتعلق بشروط الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، وتلك المتعلقة بالسلطة القضائية وبالأحكام الانتقالية. كذلك بقي الفصل 38 الذي ينص على أن الدولة» «...» تعمل على تجذير الناشئة في هويتها العربية الإسلامية، وعلى ترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها» محل نزاع، وهو ينذر بالصراعات القادمة حول برامج التعليم.
ورغم ذلك، فلا مفرّ من الوفاق نظراً إلى أن التصويت على الدستور يتطلب أغلبية الثلثين، وأن كل الأحزاب ترفض الذهاب إلى الاستفتاء خوفاً من تمديد الفترة الانتقالية ومن تعميق الأزمة. وقد تبنى الرباعي الراعي للحوار الوطني، المتكون من الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة، والرّابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين، عملية استكمال التفاوض حول كل المسائل العالقة.هذه نبذة لبعض المسائل التي طرحت وأقرّت في المجلس الوطني التأسيسي، بانتظار المصادقة على بقية الفصول في غضون الأيام المقبلة.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

الاتحاد العام التونسي للشغل ومـواضـــيـع الــصــــراع مــع "الـنـهـضــــة"

عاشت تونس، منذ الإعلان عن الإضراب العام في 13 كانون الأول/ديسمبر الماضي، على وقع المفاوضات بين «الاتحاد العام التونسي للشغل» والحكومة. «هذا الاضراب الذي لم يُنَفَّذ» بلور كل التوترات، وأجّج...