لفهم المسائل التي تدور اليوم حول «الاتحاد العام التونسي للشغل»، لا بد من العودة الى تاريخ العلاقات التي عقدتها هذه النقابة المركزية مع السلطة. فمنذ تأسيسها، انخرطت الحركة النقابية، بدفع من مؤسسيها، فرحات حشَّاد ورفاقه، في النضال السياسي، نضال الحركة الوطنية.
لقد جسّد تأسيس «الاتحاد العام التونسي للشغل» (UGTT) في 20 كانون الثاني/يناير 1946، رفض مفهوم للنقابية محصور بالإطار الاجتماعي، بل وانخراطه في الحقل السياسي.
لم يضعف الدور السياسي للنقابة بعد الاستقلال، لكن التنظيم حافظ على علاقات متناقضة جداً مع السلطة. وإن كانت مصالح جزء من البيروقراطية النقابية مرتبطة بالسلطة السياسية القائمة، فإنّ الاتحاد لم يتحوّل إلى مجرّد تابعٍ للحزب الاشتراكي الدستوري (الحاكم قبل الثورة). وغالباً ما كان المناضلون النقابيون قريبين جداً من هذا الحزب، وهو أمر موروث من فترة الاستعمار، لكن كان هناك أيضاً تجاذب بين الولاء للحزب الدستوري، والرغبة بالاستقلال عنه ومقاومة تعليماته. ظلّت هذه العلاقة الملتبسة سارية خلال العقود الستة الماضية. وفي أعوام الستينيات من القرن العشرين قرر الحزب الاشتراكي الدستوري اعتماد البرنامج الاقتصادي الذي سبق وأعدّه الاتحاد العام التونسي للشغل. وتمّ تعيين الأمين العام الأسبق للاتحاد، أحمد بن صلاح، وزيراً للاقتصاد والمالية والتخطيط والشؤون الاجتماعية. وفي العام 1969، أدّى فشل تجربة التعاونيات إلى الإطاحة به، وفتح المجال أمام سياسة ليبرالية جديدة أرساها الهادي نويرة. بعدها أصبحت هذه النقابة عنواناً للتعبير عن المطالب الاجتماعية. وفي منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بدأ اليسار التونسي في الدخول إلى هذه النقابة، وهو أدّى دوراً في الدفاع عن الاستقلال النقابي.
"الخميس الأسود": نقطة التحوّل
حين لم تعطِ السياسة الاقتصادية الليبرالية النتائج المرجوّة، تضاعف عدد الإضرابات بدءاً من العام 1977. ولم ينجح «العقد الاجتماعي» الموقَّع بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل في التخفيف من توتّر المناخ الاجتماعي. وقد بدأ يظهر تفاوت بين الإدارة النقابية (القيادة)، والنقابات القاعدية والاتحادات المناطقية. ولم يكن بمقدور اللجنة الإدارية إلا تأييد الحركة الاحتجاجية. وقد حمّلت الحكومة، النقابة مسؤولية الأزمة الاقتصادية. وتورّطت ميليشيات الحزب الدستوري، بقيادة مهندسها محمد صياح بشكل كبير في الأحداث التي رافقت الإضرابات، والتهديدات بالقتل ضد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل الحبيب بن عاشور. وقد أثار اعتداء على مقر الاتحاد العام، نقمة النقابيين الذين استنكروا «الاستفزاز المدبَّر» الذي يستهدف «حصانة» مقرّهم.
ومنذ ذلك الحين، عبّر الاتحاد العام للشغل عن استقلاليته إزاء السلطة بوضوح، وهي استقلالية تجسدت باستقالة الحبيب بن عاشور من الحزب الدستوري الحاكم آنذاك، فطرح الاتحاد العام مسألة الديموقراطية في البلاد. وقد انطلقت حملة إدانة شرسة ضدّ النقابة، وطالبت اللجنة المركزية للحزب الدستوري بتطهير قيادتها.
وعلى اثر الإعلان عن الإضراب العام، اعتقل الحبيب بن عاشور ورمي به في السجن، هو الذي كان قد سبق له أن أدّى دوراً فاعلاً في دعم بورقيبة ضد صلاح بن يوسف. وفي معسكر المعارضة، وحدها «حركة الاتجاه الإسلامي» التي أصبحت في ما بعد حركة «النهضة»، عارضت الإضراب العام.
في 26 كانون الثاني/يناير 1978، أدّى القمع العنيف للغاية إلى سقوط أكثر من 100 قتيل، وموجة اعتقالات واسعة. وقد طبع ذاك «الخميس الأسود» الذاكرة التونسية الجماعية لوقت طويل. في أعوام الثمانينيات، وحتى مطلع الألفية الثالثة، ظلّ الاتحاد العام التونسي للشغل محكوماً بتناقضاته. فهو احتضن كل المعارِضين لبورقيبة ولبن علي، لكنه احتضن أيضاً وفي الوقت نفسه شخصيات ربطت مصالحها بشكل وثيق مع النظام. لقد تفاوتت درجة استقلالية النقابة إزاء السلطة بشكل كبير بحسب الحقبات، لكنّ دوره كمساحة وحيدة للتحرك الجماعي المنظم في تونس لم يتغير، أكان ذلك خلال انتفاضة الخبز في العام 1984، أم في أحداث الحوض المنجمي في قفصة عام 2008، أو أيضاً في إطار انتفاضة 17 كانون الأول/ديسمبر التي أدّت إلى سقوط بن علي. الاتحاد العام التونسي للشغل هو أكثر من اتحاد نقابي، «وهو أشبه بتنظيم حيث ارتبطت المطالب الاجتماعية تاريخياً بشكل وثيق بجدول الأعمال السياسي والوطني» (وفق هلا يوسفي، الباحثة المتخصِّصة في الحركة النقابية التونسية، «لوموند ديبلوماتيك»، تشرين الثاني 2012). وهذا التقييم يصح على الرغم من اعطاب الاتحاد، ومن المركزية الشديدة للبيروقراطية النقابية، ومن فساد مديريه السابقين في ظل رئاسة بن علي.
لا يمكن فهم المواجهة الواقعة حالياً بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الحاكم، أي «النهضة»، إلا على ضوء هذه المسيرة التاريخية. وهو ما يثبت أن التاريخ تصنعه الاستمرارية أكثر من الانقطاعات.
*******
يُقدَّر عدد المنتسبين إلى الاتحاد العام التونسي للشغل بأكثر من 500 ألف عضو في بلد لا يتجاوز تعداد سكانه عشرة ملايين نسمة. ويتألف الاتحاد من نقابات متعددة على مستويين: الاختصاص والمناطق، وهو ما يجعله فدرالية لنقابات عمالية متنوعة، لها في المناطق فروع وإدارات.
ينشر بالاتفاق مع le Maghreb Magazine، العدد 16، كانون الثاني/يناير 2013
* خنساء بن ترجم ضيفة "شباب السفير" لهذا الأسبوع:
لطرح الأسئلة: http://shabab.assafir.com/Interview/?InterviewID=149