لم تسفر الحروب التي خاضها العراق منذ 1980 ولغاية 2003 ـ اذا ما افترضنا أنه لم يخض حرباً بعد 2003 عن حصد أرواح البشر فقط، بل ان العديد من عناصر الحياة العراقية تعرضت للإبادة جرّاء تلك الحروب. وسقطت مفردات كانت تشكل ركائز اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية يقف عليها سقف الوطن العراقي، بفعل نيران الأسلحة وبفعل السياسات العسكرية وسياسات داخلية أخرى، من دون أن يتهيأ لتلك الركائز المنهارة الظرف الملائم والاهتمام الجاد لإعادة إحيائها وزجّها في الحياة مرة أخرى. ولعل النخلة، أيقونة العراق وسيدة أشجاره، كانت أبرز ضحايا ما مر به هذا البلد على مدى الـ32 عاماً الماضية. فقد بات الحديث العراقي عن زهوها وأمجادها كحديث العرب عن فراديسهم المفقودة وحضاراتهم المنقرضة، حديث تعتريه الشجون ويطفح فيه حنين عارم الى ماضٍ لا تلوح في أفق الحاضر علامات تحمل بشرى عن إمكان استرجاعه.
خدعة بصرية!
السائر اليوم في المناطق العراقية التي يُزرع فيها النخيل ـ مناطق الوسط والجنوب ـ بإمكانه الحصول على مناظر من غابات نخيل كثيفة تتوزع بين أرياف تلك المناطق ومدنها، ولكن ليس على حد سواء بالطبع. فللأرياف الحصة الأكبر بطبيعة الحال، إلا ان ذلك لا ينفي وجود بساتين نخيل داخل المدن. فالعاصمة بغداد على سبيل المثال، تحتضن بساتين نخيل عدة، حتى في مركزها وليس على أطرافها فقط. ولعل بساتين نخيل قريتي «عرب جبور» و«البو عيثة» التابعتين لمنطقة «الدورة» من أشهر تلك البساتين، فضلاً عن أخرى صغيرة تتوزع في بعض المناطق المركزية في بغداد، ومنها «القادسية» و«العطيفية» و«الكرادة». وتستبشر عين الرائي بمناظر نخيل أكثر كثافة عند المرور بمناطق أطراف العاصمة والخروج منها نحو محافظات الوسط والجنوب، ولا سيما المحافظات القريبة من بغداد، كديالى وبابل وكربلاء والنجف، إذ تزخر الطرق الخارجية الرابطة بين تلك المحافظات بغابات نخيل كثيفة تقع على جوانبها لمسافات طويلة. ويمتد وجود النخيل من المحافظات المذكورة باتجاه الجنوب وإن بشكل غير متواصل، إلى حيث تقع المحافظة التي كانت في يوم ما موطن أجود أصناف النخيل في الكرة الأرضية كلها وليس في العراق فقط، أي محافظة البصرة. وتمتد بنسبة أقل مساحات من بساتين النخيل في المحافظات الغربية والشمالية. لكن وجود النخلة يكاد يكون معدوماً في إقليم كردستان، ولا سيما اربيل ودهوك، لعدم ملاءمة المناخ في تلك المحافظات لزراعة هذه الشجرة.
تلك المشاهدات التي تبعث على الاعتقاد بأن النخلة العراقية ما زالت في أحسن أحوالها، سرعان ما تتلاشى عندما تواجه لغة الأرقام الناطقة بلسان حال النخيل. وتختلف أحاديثها الواردة في البحوث والدراسات المعدّة لهذا الشأن، لكنها تتفق على محصلة نهائية بأن حال النخلة العراقية ليس على ما يرام، وأن عاملين أساسيين يقفان وراء التدهور الذي عانته وتعانيه: الحروب والإهمال.
الإحصائيات تنفخ الروح في الإحباط
تذكر إحصائيات تنسب لجهات غير رسمية غالباً، أن عدد أشجار النخيل في العراق في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كان يبلغ أكثر من 30 مليون نخلة، لكن بفعل اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية العام 1980، وما اعقب ذلك من تبعات بيئية وعسكرية واقتصادية، بدأ هذا العدد يتناقص بشكل سريع. ومع أن وزارة التخطيط أكدت أكثر من مرة أنها لم تجر إحصائية رسمية للنخيل في الوقت الحاضر، وأنها ستجري تلك الإحصائية بالتزامن مع إجراء التعداد العام للسكان الذي لم يُحدد موعد له حتى الآن، إلا ان بعض التقارير الصحافية تتحدث عن تراجع عدد أشجار النخيل في العراق في الوقت الحاضر إلى نحو 16 مليون نخلة. وتتحدث تقارير أخرى عن تراجع العدد الى نحو 13 مليون نخلة، وتقول غيرها انه تراجع الى نحو 10 ملايين نخلة، بينما تزعم تقارير صحافية أخرى أن عدد النخيل في العراق اليوم لا يتجاوز 6 ملايين نخلة، بل انها لا تزيد على 3 ملايين نخلة في الوقت الحاضر. أما وزارة الزراعة فتدحض جميع تلك الأرقام، إذ يؤكد مسؤول رفيع في الوزارة أن وزارته تمكنت وبـ«خطوات مدروسة» من رفع عدد أشجار النخيل من 7 ملايين نخلة إلى 21 مليون نخلة!
حلول تبارز الطواحين
ولم تتمكن الإجراءات الحكومية التي اتخذت منذ سنة 2005، وفي مقدمتها استحداث هيئة أطلق عليها تسمية «الهيئة العامة للنخيل» لتكون إحدى تشكيلات وزارة الزراعة، لم تتمكن إجراءات كهذه من تحويل مجرى القلق على وجود النخلة العراقية نحو ضفة الاطمئنان. فما زالت الجهات الرسمية تعلن بين آونة وأخرى عن مخاطر تواجه تلك الشجرة، ومن جملة ذلك ما أعلنه المجلس المحلي لناحية «مندلي» التابعة لمحافظة ديالى قبل نحو سنة عن فقدان الناحية 80 في المئة من بساتين نخيلها خلال الاعوام الثلاثين الماضية، وبقاء 1000 دونم فقط تحتضنها وما زال عدد النخيل فيها يعاني انحساراً مستمراً. كما أن الاجراءات الحكومية، والتي من بينها إنشاء 30 محطة لبساتين الأمهات ومشاتل فسائل النخيل في مواقع مختلفة من المحافظات، تشغل مساحات متفرقة يبلغ مجموعها الكلي 4458 دونماً (الدونم في العراق يعادل 2500 متر مربع)، لم تفلح حتى الآن في خلق انطباع لدى العراقيين بأن نخلتهم ستعود الى سابق عهدها. وقد يكون لمعاناة المزارعين دور في تقليل ثقة الناس بخطوات الدولة وجهودها المعلن عنها لإعادة أمجاد النخيل، لأن تلك المعاناة تبدو عصية على الحلول في المدى القريب. ويأتي على رأسها موضوع شح المياه الذي حول مساحات زراعية شاسعة الى أراض قاحلة، إذ لا يُنتظر من دولة تستند قواها السياسية ـ المتنازعة دائماً ـ إلى قوى إقليمية أن تنجح في إعادة فتح الروافد والجداول الـ45 التي أغلقها الجانب الإيراني، والتي كانت تغذي الأنهار والأهوار في العراق، أو حمل تركيا على إطلاق حصة العراق من المياه بغية إنقاذ أغلب الأراضي الزراعية من خطر الجفاف. كما لا يُنتظر من دولة لم تكلف نفسها لغاية الآن عناء رفع أنقاض المباني التي قصفت أو التي نهبت في حرب 2003 أن تعمل على إزالة آثار الحرب العراقية ـ الإيرانية والأضرار التي سببتها للزراعة وللنخيل خصوصاً.
هذا الواقع الشائك الذي أصاب العراقيين بدوار حياتي مزمن، لا يقوى اليوم على أن يقدم لهم سوى حلم أن يروا أسواقهم تغص من جديد بأصناف ثمرة النخيل (التمور) التي أنجبت أرضهم 629 صنفاً منها، بينها الأصناف الأكثر جودة في العالم مثل «البرحي» و«البربن» و«التبرزل»، وأن يروا بلدهم مرة أخرى في صدارة البلدان المنتجة للتمور، بعد أن قيل ان إنتاجه شكل في أحد الأعوام ما نسبته 80 في المئة من مجموع الإنتاج العالمي (بحسب منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة)، وبعد أن أكدت دراسات محليَّة أن 10 في المئة من العراقيين يعتمدون على النخيل وثماره كمصدر لمعيشتهم، وبعد أن صار العراق يستورد فسائل نخيل من بلدان قد لا تعادل مساحاتها الكلية مساحات الاراضي التي كانت تحتضن نخيله في السابق.