رأسي أسفل الأريكة".. ندبة اعتداء جنسي

توالت الشهادات المجهّلة، تنشرها مدوِّنات أو صحافيون وصحافيات توثقوا قدر المستطاع مما استمعوا إليه من روايات. لم يعد هنالك شك في جدية الاتهامات، لكن بقيت الصدمة تحكي عن الكم المسكوت عنه من إيذاء، عن نهج متسلسل اعتمد بشكل كامل على مدار السنوات على صمت الضحايا.
2020-09-01

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
أسماء فيومي - سوريا

"حشر راسي تحت كنبة الصالون، ولما أرفع الكنبة براسي عشان أقوم يضربني أكتر".
(شهادة 1)

****

حكت عنه أخيراً، عن هذه السادية والجنون.. عن الواقعة التي تحولت إلى ذكرى كريهة، أحكمت الخناق على روحها، وبددت سلام جسدها على مدار تسع سنوات.

"قال إننا رايحين نقابل حد مهم، وصلنا منطقة سكنية تحت الإنشاء، شقة قال إنها مقر اجتماعاته، فضل يدخل الأوض ينده على أسامي ناس ومحدش ظهر، وفجأة لقيته خرج وفي إيده الحزام، وابتدا يضربني ويطلب مني أقلع، فضلت بالطرحة وبنطلوني وملابسي الداخلية، لأنه ابتدا يضرب أعنف في لحظتها، صرخت واترجيته عشان يوقف، وأنا عارفة إن محدش هينجدني في المكان ده."

هكذا كانت الدقائق السابقة للحظة الأشد إيلاماً، فهل بقيت روحها حبيسة هذه الوضعية المهينة طوال سنوات؟ وهل يكفي الكشف عن الجاني، وفضحه الآن لكي تخرج وتطل بـ"رأسها" من "تحت الأريكة"؟ أم إننا انسحبنا جميعاً إلى هناك، وبقينا لا نعطف المضارع على الماضي"محشورات" في هذه المساحة الضيقة إلى أن يذهب الجاني إلى ساحات القضاء؟

بحثاً عن نقطة البداية

بدأ النقاش، وانقسم الجمع حول احتمالين، فإما هى قصة اغتصاب صحافية مبتدئة، أو اغتيال معنوي لصحافي نافذ. سرعان ما تدورت كرة الثلج والنار، وتوالت الشهادات المجهّلة، تنشرها مدوِّنات أو صحافيون وصحافيات توثقوا قدر المستطاع مما استمعوا إليه من روايات. لم يعد هنالك شك في جدية الاتهامات، لكن بقيت الصدمة تحكي عن الكم المسكوت عنه من إيذاء، عن نهج متسلسل اعتمد بشكل كامل على مدار السنوات على صمت الضحايا، تشككهن في أنفسهن، عدم الثقة بالنظام القضائي، الخوف منه، ومن الفضيحة.

اطلقت مجموعة فتيات مصريات صفحة عبر تطبيق انستغرام بعنوان "بوليس الاعتداءات الجنسية". ونشرت أول شهادة عن طالب الجامعة الأمريكية، ابن العائلة النافذة الذي يستغل ملكية أهله لصالة رياضة شهيرة لتصوير الفتيات وابتزازهن وإجبارهن على ممارسة الجنس.

نهج سادي يتقصد غالباً الفتيات الأقل خبرة، والأضعف حيلة ليخترق أرواحهن، ويفرض سطوته عليهن تحت إدعاء المعرفة، والقدرة على تقديم علاج نفسي يداوي ما يعرفه هو، والجميع عن اهتزاز يصيب الشخصية في مجتمع تستشري فيه مشاعر الخوف والنفاق والكبت. ثم وفي نقلة سريعة، تسحب الشابة إلى نفق الجنس جبراً واعتداءً، أو خوفاً وابتزازاً.

تفتيشاً في الأرجاء

"من أول محادثة وهو بيتكلم بفوقية شديدة. بعدها دخل بالحركة بتاعة أنا متخصص في التحليل النفسي الجنسي، ولما رفضت استجيب لطلباته هدد بكلمة واحدة: هاوريكي".
(شهادة 2)

****

"عرض أنه يوصلني بعربيته بعد انتهاء التدريب، وفجأة مد يده واعتصر عضوي التناسلي، ونظر لي نظرة مخيفة كأن ما يفعله هو حق له".
(شهادة 3)

****

الندبة هذه المرة ذات ملامح مريضة، لكنها ليست منفصلة عما تم الكشف عنه في الأشهر الثلاثة الأخيرة. كانت البداية مع إطلاق صفحة عبر تطبيق انستغرام بعنوان "بوليس الاعتداءات الجنسية"، أسستها مجموعة فتيات مصريات، تمّ نشر أول شهادة عن طالب الجامعة الأمريكية، ابن العائلة النافذة الذي يستغل ملكية أهله لصالة رياضة شهيرة لتصوير الفتيات وابتزازهن وإجبارهن على ممارسة الجنس. وفي وقت قياسي وصل عدد الشهادات إلى 100 شهادة بحق الشاب نفسه، وأصبح السؤال المجتمعي: لماذا؟ وفي هذا الوسط المتعالي مرتفع المستوى الاجتماعي والاقتصادي؟ ومن أين تشكلت هذه النفسية غير السوية رغم صغر السن؟

أدرك الجميع أهمية وضرورة تلك الشهادات، حيث فتيات يرددن جميعاً في الظلام: "وأنا أيضاً"، هذه الصرخة التي انطلقت حول العالم منذ ثلاثة أعوام، وحصدت الكثير وكشفت عن الأكثر.

عقب أقل من شهر أعلنت "شرطة الاعتداءات" عما هو أصعب: "حادث الفيرمونت" أو اغتصاب جماعي من مجموعة شباب صغار في السن لسيدة متزوجة قبل ست سنوات، داخل غرفة بفندق شهير، والتلذذ بتصويرها وتبادل المقطع على الهواتف على نطاق واسع. تم تحديد الجناة الستة، وتم تبادل صورهم في العلن مع المطالبة بمحاكمة هؤلاء ممن ينتمون هم أيضاً للشريحة العليا في الطبقة العليا.

وهكذا لم يعد السؤال من أين يأتون جميعاً؟ ولكن لماذا لم يكترثوا باحتمال انكشافهم على الرغم من سطوة طبقتهم؟

بحثاً عن مشهد الختام

‎"ـ هو: إنتِ مش خايفة مني؟ إنتِ معايا في الأوضة لوحدك ووراكِ السرير
ـ أخاف إيه، البس الجاكيت واخلص عشان متأخرين".
(شهادة 4)

****

جاءت هذه المحادثة في شهادة أرسلتها صاحبتها، وقالت أرسلها كمشاركة قد تتحول لقرينة ضمن قرائن أخرى، تكشف عن سلوك مريض متسلسل. وهكذا أدرك الجميع أهمية وضرورة تلك الشهادات، حيث فتيات يرددن جميعاً في الظلام: "وأنا أيضاً". هذه الصرخة التي انطلقت حول العالم منذ ثلاثة أعوام، وحصدت الكثير وكشفت عن الأكثر.

ولكن هل هذا يكفي؟ ولم لا يخرج من هم في الظلام إلى النورعلى الرغم من أن ردود الأفعال الواسعة في القضايا السابقة، والمطالبات بحماية الناجيات قد نتج عنها عدة خطوات هامة. فعلى سبيل المثال سُنّ قانون "سرية بيانات الشاكيات"، ومعه تشجعت إحداهن. وخلال أيام أعلن عن القبض على الشاب الأول، وتدخلت مؤسسات رسمية قائمة على ملف المرأة ليستمر العمل لمدة شهرين، نُشرت خلالهما صور المتهمين في قضية الفندق، أسماؤهم وبيانات عائلاتهم، حتى أمرت النيابة العامة المصرية بتوقيف 7 شباب، لكن جاء الأمر متأخراً بل وقد يحمل شبهة تواطؤ فقد هرب 5 منهم خارج البلاد.

أما دار الإفتاء المصرية فقد بادرت بفتوى لاقت ترحاباً واسعاً، قالت فيها "إلصاق جريمة التحرش النكراء بقَصْر التُّهْمَة على نوع الملابس وصفتها، تبريرٌ واهمٌ لا يَصْدُر إلَّا عن ذوي النفوس المريضة والأهواء الدنيئة. فالمسلم مأمورٌ بغضّ البصر عن المحرَّمات في كل الأحوال والظروف".

لماذا لا تتحدث إذاً الفتيات ممن تقوم مهنتهن على الإفصاح والكلام؟ لا يوجد تفسير محدد أو أحكام. تتباين الآراء.. فهناك احترام وتقدير لمخاوف الفتيات من الكشف عن هويتهن نتيجة أي انحرافات داخل مؤسسة التحقيق، وقد يدفعن الثمن من سمعتهن، ويتعرضن لمزيد من المضايقات داخل أماكن عملهن. وهناك احترام وتقدير لدور الشهادات المجهلة في تعرية وكشف ما هو مسكوت عنه مما قد يكون مدخلاً صحيحاً وكافياً للانتقال لمرحلة خلق بيئة آمنة، وسن تشريعات تطرح آليات حماية داخل أماكن العمل وخارجها. وهناك احترام وتقدير لمخاوف من أن تتحول الشهادات المجهلة إلى سلاح للتشهير بأبرياء لإنجاز تصفية حسابات عامة أو شخصية. وهناك احترام وتقدير لدعوات ترى النضال العام يستدعي الدفع بتلك القضايا إلى ساحات التحقيق بهدف تطوير الأداء داخلها، وكسب مساحات إنصاف قانونية أوسع وأكثر تطوراً بمرور الوقت.

بادرت دار الإفتاء المصرية بفتوى لاقت ترحاباً واسعاً، قالت فيها "إلصاق جريمة التحرش النكراء بقَصْر التُّهْمَة على نوع الملابس وصفتها، تبريرٌ واهمٌ لا يَصْدُر إلَّا عن ذوي النفوس المريضة والأهواء الدنيئة. فالمسلم مأمورٌ بغضّ البصر عن المحرَّمات في كل الأحوال والظروف".

وبين هذا وذاك يلوح في الأفق سيناريو مستقبلي كئيب، تمحو فيه الأيام تأثير اللحظة، ينطوي الخزي، تتراجع مؤسسات اتخذت مواقف ضد المتهم، يتوجه ـ دون أن يصدر حكم بات فيما نسب له ـ إلى مساحات وبلاد أخرى ويستأنف عمله، يكسب تعاطف بل وقد يحصل على أحكام ضد قائدات الحملة بتهمة التشهير، ويذهب بهن إلى السجن ويفشل المجتمع في إدانته قضائياً، ومن ثم تزيد احتمالية تعرض أخريات لسيناريوهات انتهاك قد تكون أشد صعوبة وانتقامية.
..

"أنا اتعرض لحملة تشوية ممهنجة" (منشور للمتهم بالتحرش والاغتصاب)
وعليه، لا يزال المشهد مفتوحاً وقابلاً للتطوير بل مرغماً عليه.

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...