مقـاربـة سـوسـيولوجيـة لحركيّـة السـلطة السـياسـية المحليـة

التنافس على السلطة هو في جوهر الحياة الاجتماعية والسياسية. ولا نقصد صعيدها العام فحسب، بل الصراع الدائم بين مجتمعات مصغرة، ما قد يأخذنا إلى متاهات متنوعة. والحديث عن السلطة المحلية يتناول صراعاً مستمراً وديناميكية معقدة، وفي الوقت نفسه هو حديث عن استراتيجيات متجددة لفك الصراعات، وعن وسائلها. والاهتمام بظاهرة السلطة المحلية نابع من أهمية السيطرة على حركيتها لضمان توازن الصراعات الاجتماعية
2013-01-30

خالد بن فافة

باحث سوسيولوجي واستاذ جامعي من الجزائر


شارك
في أحد شوارع وهران (من الانترنت)

التنافس على السلطة هو في جوهر الحياة الاجتماعية والسياسية. ولا نقصد صعيدها العام فحسب، بل الصراع الدائم بين مجتمعات مصغرة، ما قد يأخذنا إلى متاهات متنوعة. والحديث عن السلطة المحلية يتناول صراعاً مستمراً وديناميكية معقدة، وفي الوقت نفسه هو حديث عن استراتيجيات متجددة لفك الصراعات، وعن وسائلها. والاهتمام بظاهرة السلطة المحلية نابع من أهمية السيطرة على حركيتها لضمان توازن الصراعات الاجتماعية الداخلية. فالصراع رغم خطورته، عنصر مهم وصحي في تحقيق التغييرات الاجتماعية اللازمة،بل هو شرط أساسي من أجل أن تلعب عوامل أخرى دورها الفعال في الانتقال الاجتماعي والتحول. وهو في الوقت نفسه جزء من التغيير الاجتماعي، باعتباره هو بذاته تغييرا لواقع اجتماعي سابق.

منافسة أم صراع. هل هناك فارق؟

والمعروف في الحياة السياسية استعمال مفهوم المنافسة للإشارة إلى المظهر السلمي من رغبة جهة معينة أو شخص محدد الحصول على مكانة سياسية تؤهله إلى اكتساب سلطة معينة. أما في حال أخذت هذه الرغبة مظهرا عدائيا، وأصبحت الغاية منها ليس اكتساب السلطة فقط بل الإطاحة بالطرف الآخر وهزيمته فتسمى صراعا. واهتمامنا هنا، هو بذلك الصراع الذي ينشأ في الحياة السياسية لاكتساب السلطة وسط المجتمعات المحلية، كونه غالبا ما يكون غير معلن.
وجود أو عدم وجود المجموعات السياسية في المجتمعات المسماة غالبا «بدائية» هو الاهتمام الأول الذي انحصرت حوله الأبحاث الأنتروبولوجية الاولى المهتمة بالسلطة السياسية.

بنية مجتمع السانيا في وهران

بلدية السانيا أو «المجتمع السانياوي»، مجتمع محلي بمدينة وهران، حديث التشكيل مجالياً، أي أن التمركز السكاني به لا يتجاوز حقبة بداية الاستعمار الفرنسي (العام 1844 تقريبا). كانت المنطقة عبارة عن حقول زراعية تعود ملكيتها للمستوطنين، الذين جعلوا أهلها عمالاً بها، ليتوسع التمركز السكاني بها بعد ذلك. وهكذا شهدت المنطقة وفود قبائل عديدة، أهمها تلك التي تنقلت في كامل الغرب الجزائري بعد تضررها من المرسوم 1863 الذي أصدره الاستعمار الفرنسي بغية تحطيم القبيلة، وشل حركة المقاومة وتجديد البنية الاقتصادية، بل توليد أخرى. على رأس الوافدين قبيلة «الزمالة» المعروفة بموالاتها للحكم العثماني آنذاك، ويعتبر أعضاؤها المتواجدون محليا حتى الآن أنفسهم «زْمَالَة» بالمدى الأول، و«سَنْيَاويينْ» بالمدى الثاني و«تَلِيِّينْ» بالمدى الثالث (نسبة للتل الوهراني). أمّا قبيلة»الحْمِيَانْ» فوجودهم حديث بالمجتمع المحلي.
«أناَ سَنْيَاوِي، أَنَا وَلْدْ البْلَادْ ، حْنَا وْلاَدْ الدَوَّارْ، حْنَا حْجَارْ الوَادْ ، هَذَا حْمِيَانِي، زْوَاوِي، هَذَا شَاوِي...إلخ» انطلاقا من هذه التعابير المحلية والممارسات الاجتماعية، يحتوي المجتمع «السَانْيَاوِي» على مجموعتين هامتين (أصليين ودخلاء) تنقسمان بعد ذلك إلى مجموعات فرعية. وهذا المجتمع مهيكل على أساس علاقات اجتماعية مبنية خاصة على الأسبقية في السيطرة على المجال المسكون وعلى مسار كسب الشرعية في الأرض. فقد كانت البنية الاقتصادية للمجتمع المحلي ذات طابع فِلاحي. وبعد الاستقلال، طرأ تغيير كبير في تنظيم هذه البنية، خاصة مع إدخال موجة التصنيع وتشكل المنطقة الصناعية على المستوى المحلي، وكذا بحكم احتوائها على مجمع جامعي، وقربها من مطار الولاية. كل ذلك جعلها منطقة مفتوحة لتفاعلات اقتصادية واجتماعية وثقافية من خارجها.

التقسيم الجغرافي سوسيولوجي ايضاً

يلاحظ من يدخل بلدية السانيا تقسيمها إلى جانبيين جغرافيين: منطقة «الدُوَارْ» ومنطقة «الفيلاج» (village). وهذا التقسيم دليل على وجود مجموعتين محلياً، وهو مظهر من مظاهر التمسك بوحدة الجسم الاجتماعي لكل كتلة. ينطبق هذا التقسيم الجغرافي على الممارسات الطقْسية الممثِلة لكل مجموعة. فمنطقة الدوار تحتوي السكان المسمون «أصليين»، و هم من قبيلة الزمَّالة غالبا، ويسجل اتفاقهم على طقوس معروفة محليا، أهمها « الوَعْدَاتْ» (جمع وعدة ومعناها الوليمة مع الاحتفالية التي تقام على شرف ولي صالح كل سنة، ويتم بها عرض الفانتازيا وإطعام الجميع بالكسكس).وأهم وَعْدَة تجمع جميع المجموعات الثانوية، هي وعدة «سِيدِي لَخْيَارْ»، هي وليمة موسمية تقام على شرف أحد الأولياء الصالحين المعروف بالمنطقة. وتجلب حتى أشخاصاً غير منتمين إليها، وهذا راجع لحاجة السكان الأخرين إلى قطب مماثل يصنع أجواء تذكرهم بأجوائهم الأصلية، وكذلك لكون الأعضاء المشاركين فيها يستمدون من تلك المشاركة شرعية اجتماعية، يتفق على تسميتها «البركة»، وهي كلمة تستعمل غالبا من أجل الإيحاء بقبول المجتمع المحلي بالشخص الأخذ لها. فالمقدم أو الشيخ الذي يعلن أخذك البركة يكون قد أعطاك تأشيرة قبولك لدى الجميع، (وهذا ما يستقطب حضور الممثلين الرسميين للدولة بهذه الوعدة). إلا ان هذا لا يمنع وجود وعدات أخرى تقام على مستوى كل عائلة كبيرة، بل وحتى عند العائلات الصغيرة في بعض الأحيان. وهي ولائم بسيطة تقدم الأكل للفقراء، أو تجمع شمل العائلة الكبيرة بذبح أضحية.
أما السكان المسمون «الدخلاء»» والمتواجدون بمنطقة «الفيلاج» غالبا، فلكل مجموعة شكلها الطقسي كعامل من عوامل التمييز بينها. فالمجموعة المنتمية للزاوية العلْوية مثلا تقوم بإحياء احتفالية تدوم ليالي بوسط الزاوية وذلك بالذكر والأناشيد والإطعام...

مأسسة المجتمعات المحلية

إن «المجتمع السياسي» هو مجموعة العمليات والميكانيزمات السياسية الرسمية وغير الرسمية، القائمة على تسيير الشؤون العمومية لتشكيلة اجتماعية معينة، حيث أنه، وبشكل مؤقت، يمكن تسميته بالدولة. فعلى المستوى المحلي، تنعت الدولة أو تسمى غالبا بـ«الجزائر» أو «الحكومة»، ومسار تكوين الدولة على المستوى المحلي كان متماشيا مع مسار تكوين المجتمع المحلي (للسانيا) وعرف خاصة مع الاستعمار الفرنسي، حيث انه في هذه الفترة بالذات عرفت التشكيلة الاجتماعية المحلية هنا، على غرار أغلب المناطق الأخرى من التراب الجزائري، انشاء سلطات من أجل مأسسة السلطة المحلية. ومن بين هذه المؤسسات السياسية، هناك الإدارة المحلية، (البلدية، الدائرة، مصلحة الضرائب...الخ)، وهي أجهزة منظمة على شكل بيروقراطي، موروث عن النموذج الفرنسي في الممارسات الإدارية، ولكنه لا يمكن اعتبارها «بيروقراطية عقلانية»(على نموذج «فيبر» الذي عينها كخاصية من خصائص الدولة الحديثة)، لأنه لا يوجد بالجزائر دولة حديثة، بل أجهزة سياسية إدارية فقط.

مجالات غير رسمية: المسجد والعشيرة

إن المجال غير الرسمي للسلطة السياسية المحلية ببلدية السانيا مفتوح لحركيتها.ومن أهم الأماكن غير الرسمية لها لدينا المساجد. فبغض النظر عن بنية وتاريخ تكوينها، هناك وجود قوي للأئمة على مستوى الحقل السياسي غير الرسمي، حيث أنه غالبا ما يلعب الأئمة دور الوسيط في حالة الخلافات السياسية والاجتماعية المحلية. ولدينا كذلك الجماعات التقليدية، وهي تلك المكونة من كبار أهل العشيرة أو القبيلة وأعيانها. فلحد الآن ما زالت العائلات السانياوية، وحتى بعض إطارات المؤسسات الرسمية للسلطة المحلية، يستعينون بهم من أجل حل النزاعات المحلية، ورؤساء تلك المجموعات يشاركون بقوة في تسيير الشؤون المحلية لهذه الجماعات المغلقة.

«السياسي» يشبك الحيز الرسمي وغير الرسمي في آن

تعتبر أماكن السياسي من العوامل المهمة في فهم الديناميكية السوسيو- سياسية المحلية. فإن كان السياسي يوجد في الأماكن الرسمية وبطريقة قانونية وشرعية، فإنه يوجد كذلك في الأماكن غير الرسمية، وإن كانت هناك جوانب غير رسمية في المجال الذي هو أصلا رسمي، وهذا يصح في مختلف جوانب التنافس السياسي حول السلطة المحلية. ففي الجانب الرسمي، هناك المجلس الشعبي البلدي ورئيسه، هناك كذلك حركية غير رسمية في الديناميكية السوسيو- سياسية المحلية، تتمثل في الجماعات التقليدية وأئمة المساجد، والتي تعتبر مالكة للسلطة التقليدية. إن كلا المجالين الرسمي وغير الرسمي يعملان في وقت واحد لتأسيس النظام الاجتماعي، وبذلك نلاحظ أن السلطة السوسيو- سياسية ليست ممتلكة من شخص واحد ولا من مجال واحد، بل مشتتة بين المجالين الرسمي (الحديث) غير الرسمي (التقليدي).
إن كان موضوع الأنثروبولوجيا السياسية هو التعبير المؤسساتي والإيديولوجي للكلية الاجتماعية، والعلاقات الخاصة التي تربط مختلف المجموعات على مستوى هذه الكليات، فإن الإيديولوجيا المستعملة في الحقل السياسي المحلي لامتلاك السلطة السياسية المحلية أو المحافظة عليها،لا تنفصل عنها. فإن كان أعضاء المجلس الشعبي البلدي ورئيسه والإداريون الآخرون المالكون للسلطة الرسمية، وكل ممثلي الأحزاب السياسية على المستوى المحلي، يشاركون بطريقة أو بأخرى في إنتاج وإعادة إنتاج الإيديولوجية السياسية المقررة من طرف السلطة المركزية، المتمثلة خاصة في الإيديولوجيا الوطنية عن طريق المشاركة في المواسم والأعياد الوطنية بكثافة، فهناك كذلك إيديولوجيا غير رسمية في مسار السلطة والمحافظة عليها، وكذلك في الغاية من امتلاكها: الأبوية، الرابطة الإقليمية، الجوار، الرابطة الدينية، الرابطة الاثنية... التي تتواجد في وقت واحد مع الإيديولوجية الرسمية.

تبقى حركة الصراع على السلطة السياسية تتأرجح بين الرسمي وغير الرسمي في مجتمعاتنا المحلية.ولفهم الصراع على السلطة،فعلينا الاهتمام بالتقاط التغيرات الفعلية التي تحدث على الهيكل الاجتماعي لما هو غير رسمي. فالقاعدة هي التي تسمح للسلطة باكتساب الشرعية.وهذه القاعدة، بخصوصياتها الاجتماعية المختلفة، تصنع أنماطاً متنوعة لحركية السلطة السياسية ببلادنا.

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه

غناء المدَّاحات في الجزائر

وهي تريني الشهادة التكريمية التي قدمتها لها وزيرة الثقافة "خليدة تومي" بمناسبة مشاركتها بمهرجان الراي بمدينة وهران – هذا المهرجان الذي تسعى من خلاله الوزارة إلى إظهار مزايا هذا الفن...