وهي تريني الشهادة التكريمية التي قدمتها لها وزيرة الثقافة "خليدة تومي" بمناسبة مشاركتها بمهرجان الراي بمدينة وهران – هذا المهرجان الذي تسعى من خلاله الوزارة إلى إظهار مزايا هذا الفن العالمي وخصائصه المحلية المنبثقة من ثقافة شعبية أصيلة بمجتمعنا الجزائري – احترت في كونها كرمت في نوع موسيقي يلقى الدعم من طرف الجميع لإبراز أصالته، ولم تكرم في النوع الموسيقي الذي تخصصت به هذه الفنانة أو "الشِيخَة" على الأصح، وأدته بطريقة يشهد لها الجميع بأصالتها وقوة أدائها.
الشِيخَة "نورية" فنانة، عُرفت في ساحة الراي الفنية بأغنية "رَانِي حَاصْلَة فِي لاَيْرُوبُورْ" ("انا عالقة في المطار")، لتتوالى ألبوماتها الغنائية بعد ذلك لكنها عُرفت عند جمهورها المحلي (الشعبي) أكثر بأغانيها الأصيلة، في نوع " المدّاحَاتْ" هذا النوع الذي يغفَل أغلب الناس، عن مدى أصالته بالمجتمع الجزائري ومدى تمثيله للثقافة الوطنية للبلد.
ما هي طبيعة فرق المدّاحات، وما هي مرجعية ظهورها بالمجتمع الجزائري؟
للزوايا بالجزائر أهمية كبيرة، ولها صيت ذائع وسط الجماهير الشعبية، وهي تضم الطبقات الفقيرة والمتوسطة بشكل عام، نظرا لطبيعة مهامها الخيرية. ويقوم الناس باحتفالات كلّ سنة من أجل التبرك بأضرحة مؤسسي هذه الزوايا ومعلّمي هذه الطرق الخيرية. وفي هذه الاحتفالات، ظهرت جماعات رجالية تقوم بمدح النبيّ، وصاحب الضريح، بأشعار وقصائد مشهورة، ومقابل هذه الجماعات ظهرت جماعات نسوية تقوم بالمدح كذلك، اقتصر غناؤها على المدح القدسي، ودعيت إلى حفلات الأعراس تبركا بهنّ وبمديحهنّ على الولي الذي زارته العروس قبل دخول بيتها الزوجي.
أدّت هذه النسوة اغاني المديح باستعمال آلات بسيطة كآلة البندير والشكشاكة، ثم تطورت مع الزمن لتحوي آلة الطبيلة. وإبداع الشيخات المؤديات للمدح وسط الأعراس جعلهنّ يطرحن مواضيع أخرى عدا المدح القدسي، ومدحن شخصيات أخرى عدا الرسول وأعلام الأضرحة.
لا يمكن معرفة التاريخ الدقيق لظهور فنّ المدّاحات، كونه عبارة عن ألفاظ تقليدية متوارثة من جيل إلى آخر، تحمل تغيرات ملائمة لكلّ زمن ومناسبة، إلا أن المؤكد أنّه فنّ نما وتطوّر مع ظهور موجة الصوفية والطرقية بشمال إفريقيا أي بأواخر القرن الثاني عشر الميلادي. وفي مدينة وهران، نجد من أوائل رواد هذ الفن الشيخة خيرة السبساجية المتوفاة سنة 1940، وهي من أصل مستغانمي، أدّت أغنية المدّاحات بشكلها الأصلي واضعة قصائد نظمتها بنفسها مثل قصيدة "سِيدَ الْهُوَارِي"، "مُولْ الْمَيْدَة"، سِيدِي عَبْدْ الْقَادَرْ"، وأخرى استنبطتها من قصائد الملْحون التي كانت مشهورة آنذاك كقصائد لخضر بن خلوف وهو شاعر شعبي كبير من القرن الاول الهجري ولديه ضريح يحمل اسمه في مدينة مستغانم.
أدَّت الشيخة السبساجية المدح بشكله الأصلي، ونكهته الشعبية المميّزة. إلاّ أنّها لم تؤد المدح القدسي فحسب، بل كانت لها أغان أخرى كأغنيتها "يا سَايَقْ الطُونُوبِيلْ" و"شْعُورْهَا مَطْلُوقِينْ". وبتأثير من قصائدها والقصائد الشعبية الأخرى، ظهرت كوكبة من الشيخات... ولعلّ من أهمهنّ، تلك التي ساهمت في صنع البصمة الخاصة وبعث النفس الجديد لأغنية المدّاحات الوهرانية، هي الشيخة "خديجة مُولاَة الرْبَابْ" وتسميتها أخذتها كونها أوّل من أدخل آلة الرباب بحلقة المدّاحات، فالشيخة خديجة عزفت في بداياتها على آلة "القنبري"، وهي آلة وترية معروفة في الصحراء الجزائرية، وكانت في فرقة "القرقابو" (فرقة موسيقية إيقاعية، يعتقد مؤدوها بفعالية طردها للأرواح الشريرة ومعالجة الأمراض، منتشرة بشمال افريقيا). وحيث ابدعت الشيخة خديجة، دخلت الرباب الى اغاني المديح، واكتسبت بعدا اعتقاديا.
حلقة المدّاحات
هناك مصطلحان يستخدمان في مواضع مختلفة من قبل عازفي وشيخات حلقة المدّاحات، هما "الحضرة" و"الحلقة"، فما هي طبيعة المفهومين وما شرعية استعمالهما عند شيوخ وشيخات المدّاحات؟
إن مصطلح الحضرة الذي يأتي من الفعل حَضَرَ، يشير إلى الحضور، ويستعمل كثيرا عند "العيساوة" و"القَرْقَابُو"، كون هذان النوعان من الموسيقى الشعبية يستلزمان مشاركة الحضور في إحياء طقوسهما (استحضار وطرد الأرواح الشريرة...) وعندما نقول حضور، فنعني بها هنا حضور البشر وكذا الأرواح. أما عند المدّاحات فالحلقة تعني كل شيء استدار، وجلسة تكون على شكل دائري، وتوظيف هذا المصطلح للإشارة إلى حلقة المدّاحات مستنبط من حلقة " القناديز" (باللهجة العامية، وتعني التلاميذ وطلبة حفظ القرآن) التي كانت تدار من طرف شيوخ الزاوية.
تكون حلقة المدّاحات على شكل هلال، فتتوسط الشيخة الحلقة وتكون في أغلب الحالات هي العازفة على آلة الطبيلة، ويكون على جانبيها الأيمن والأيسر عازفا آلة البندير، ويتقابل عازفا آلة الشكشاكة والرباب من كل جهة. لقد كان هذا الترتيب قديما مهما جدا، حيت كان يساعد على إعطاء توازن بصدى الصوت عند الأداء، لكن الآن ومع استعمال آلات الصوت الحديثة، لم يعد لهذا الترتيب أهمية "تقنية"، إلا أن جلسة الحلقة لا زالت كما كانت قديما تقام على الأرضية وعلى شكل هلال وبوسط الحلقة يوضع الطبق. ويأتي استعمال "الحَضْرَة" بخطابات شيخات المدّاحات عند الكلام عن مرحلة "الجَذْبْ" (حالة روحانية، تدخل بها النسوة، بعد الإستماع للموسيقى ذات الإيقاع المتسارع المنتظم والصاخب التي تعزفها فرق المدّاحات، وتتمظهر في حركات جسدية راقصة، عنيفة، يُعتقد أنها حالة صراع الأرواح الشريرة داخل المريض) التي تقام عند زيارة أضرحة التبرك، فتنعقد الحلقة في البداية بمدح الرسول وصاحب الضريح، لتتحول تدريجيا إلى "حَضْرَة" عندما يتغير الإيقاع وتدخل في مجال الروحانيات والجذب.
الطقوس
كانت هذه الفرقة نسوية خالصة، كون العائلات الجزائرية كانت تخصصها فقط للجناح الخاص بالنساء في العرس. وكانت صاحبة العرس، وهي أم العريس، تقوم بالاتصال بالشيخة وتطلب منها المجيء لإحياء الحفل، فكانت الشيخة تشترط هدايا بدل النقود، فتأخذ معها عادة "بْلُوزَة" أي فستان تقليدي خاص بمنطقة الغرب الجزائري، والحلوى، وقفة مملوءة بأدوات التجميل (صابون، عطر...) إلاّ أنّ "الطْبَقْ" كان من الطقوس الضرورية في حلقة المدّاحات، وهو كمصدر دخل للفرقة عامة، رمز من رموز "الهمّة" للعائلة، أي إظهار مدى فخامة الناس الحاضرين بالعرس ومدى فخامة أهل العريس، وهو إناء مفلطح مستدير مصنوع من الحلفاء، ويكون عادة ملونا بألوان زاهية، وقد جرت العادة أن يكون مربوطا به قماش أخضر تم إحضاره من مقام الوالي الصالح، أي أنه حافز مشجع للنسوة لملأ الطبق بالنقود، فالمقابل سيكون رضا الولي الصالح .
وبالتدريج، ومع مرور الزمن وتغيّر الظروف الاقتصادية والاجتماعية، أصبحت الشيخة تطلب مقابلا نقديا لنفسها وتحتفظ بالطبق كمقابل للفرقة، مع الحفاظ على الهديّة كأحد أوجه الاحترام التي يقدمها أهل العريس للشيخة. وتعطي هذه الهدية الشيخة حافزا أكبر لمدح أهل العريس، والأم بصفة خاصّة، وذكر اسم العائلة عامة وتعظيم شأنها وإظهار كرمها بأغانيها.
أوّل ما تجلس الشيخة وتتم الحلقة، تقوم الشيخة بإهداء أغنية للجميع، تمدح فيها غالبا الرسول، ويكون مباحا للجميع الرقص، وعند انتهائها تقوم أم العريس ب"فتح الحلقة" فتضع مبلغاً معيّناً في الطبق، تطلب على أساسه أغنية لترقص عليها لوحدها، ثم تتوالى بعدها الطلبات مقابل مبالغ مالية تعطي صاحبتها الحق في الرقص لوحدها وسط حيّز الرقص. وكلّما كان المبلغ المالي كبيراً كان مشهودا لصاحبته "بالهمّة" أي الرفعة والقيمة الاجتماعية العالية.
أمّا بأيامنا هذه فنلاحظ اختفاء عنصر الطبق من حلقة المدّاحات، كون الشيخة أصبحت تطلب المقابل نقدا مباشرة لها ولأعضاء فرقتها، والثمن يكون حسب أهمية الشيخة محليا، أي ذيوع صيتها الفني، وامكانات العائلة المستضيفة، وكذلك وفق اعتبارات اقتصادية واجتماعية وثقافية خاصة بالمجتمع المحلي عامة، إذ أنّ الجمهور المحيط بالحلقة يكون من طبقات متفاوتة اجتماعيا فلا يمكن للجميع أن يساهم بملئه، وعليه لن يكون بإمكان الجميع الاستمتاع بالحفلة. وقد تمت الاستعاضة عنه ب"التبراح" أحيانا، وهو قيام أحدهم بوضع مبلغ كبير من المال وتحية أسماء بعينها من الحضور، ولم يعد الجميع ملزما بوضع المال، وتُرِك المجال للأغنياء لإظهار كرمهم إلى حدّ المنافسة فيما بينهم.
رجال يقتبسون من المداحات
عرف المجتمع الوهراني حيث يزدهر هذا الفن عدّة شيوخ رجال، أدّوا أغنية المدّاحات وسط الحلقة التقليدية، بنصوصها الأصلية، وحافظوا على العبارات كما هي، ومادحين الأولياء الصالحين بالطريقة ذاتها التي مدحت بها الشيخات قديما. كما أبدعوا بنظم نصوص جديدة في المدح والغزل والهجاء والذم، بل وأعطوا أبعادا جديدة لحلقة المدّاحات. ورغم اتجاه الشيوخ والشيخات الجدد إلى أغنية الراي وتسجيل أشرطة تجارية، إلاّ أنّهم لا زالوا يؤدون أغنية المدّاحات على الطريقة التقليدية في بعض الأعراس المحافظة على حب هذا النوع من الأغاني، وسواء كان قديما أو حديثا. فحلقة المداحات كانت ولا زالت تُطلب من طرف النسوة وخاصة بجناحهنّ في الأعراس.
اشكالية الاعتراف الرسمي
تحوي الثقافة الشعبية جميع خصوصيات التراث الشعبي الشفوي. ومن ميزاتها أنه يمكنها التغيير والتحول في التفاصيل، أما الشكل العام لملامحها ومقوماتها الأساسية فلا يمكنه مسايرة هذا التغيير، لذلك نجدها تعيد إنتاج أنماط جديدة لتمظهرها الاجتماعي وسط المجموعات الجديدة التي يمكن أن تتبناها أو تمارسها. وهذا ما ساعد التراث الشعبي على التوسع والانتشار بمجموعات قد تكون أحيانا غريبة عنها وعن ممارساتها.
وبحملها لدلالات وتمثلات عميقة ذات أبعاد اجتماعية متنوعة، تتمظهر قوة هذه التقاليد اللفظية بسرعة وفعالية ملامستها للمشاعر الفردية والجماعية، مستعينة غالبا بحركات جسمية وأصوات ثانوية، كمؤشرات جمالية خاصة.
يقول الموسيقي زهير خوجة في مداخلة له في شهر أيار/مايو 2012 بالمعهد الموسيقي العالي في الجزائر أن "الموسيقى المغاربية المسماة كلاسيكية (عتيقة)، شعبية، طقوسية ودينية، تظهر في أيامنا هذه وكأنها على خطأ، غير وظيفية أو معترف بها، بدون معنى. هذه الوضعية هي نتيجة التلاعب الاجتماعي/التجاري الفني والجمالي. تراثنا المستوحى من الأجداد غني ومتنوع، وهو في طريقه إلى الاندثار وعدم الاندماج بثقافتنا، والاختفاء جراء عدم الممارسة، عدم الاتقان وعدم أداء وظيفة معينة".
وهذا حكم صحيح إذا ما نظرنا إلى الامر من الزاوية الرسمية، أي الى مقدار التبني الرسمي للتراث الموسيقي. فالبراغماتية في التعامل مع الموسيقى الشعبية هي السياسة التي تنتهجها الجهات الرسمية، حتى في شعاراتها الرنانة حول "الحفاظ على التراث الشعبي اللامادي"، إذ تخلو من الاكتراث بطريقة الحفاظ عليه بشكل يحمي أصالته ولا يمنع في الوقت نفسه اندماجه وسيره في المعاصرة.
ويتمظهر الإنتاج الثقافي في تعدد المهرجانات المحلية، الجهوية، والوطنية لمختلف الأنواع الموسيقية، وتنوع الإنتاج الوطني للتسجيلات، والحضور القوي في الإذاعات المحلية والوطنية. إن قوة حضور أنواع موسيقية معينة على أنها من مكونات صنع التراث الثقافي لمجتمعنا، عنصر مهم في صنع صورة الهوية الوطنية (كأغنية الراي، الأندلسي، الحوزي الشعبي، القناوة، البدوي... ). استمدت هذه الموسيقى قوتها من حضورها الرسمي (بقرار مركزي) في المهرجانات الوطنية والعالمية. إلا أن عدم ظهور نوع موسيقي معين في هذه المهرجانات لا يعني أنه مقصي من دوره في صنع التراث الوطني وتشكيل الهوية الوطنية، وإنما يعني أنه لا زال يبحث عن اعتراف رسمي. وصموده بوجه هذا التجاهل الرسمي وتمسكه بخصوصياته الثقافية لدليل على كونه أحد عناصر تكوين هذه الثقافة، ويجدر التنبه إلى خطورة تجاهله وإغفال أهميته الوظيفية في تشكيل الهوية الوطنية.
فالتراث غني بتنوع طبوعه وايقاعاته، وبشخصياته القوية التي لعبت دورا في بلورته، وبجماليات مسمعه. وأما عدم اندماجه بالصورة الفنية التي تصنعها الجهات الرسمية فلا يعني نقصا في اتقانه أو عدم أدائه وظيفة بالمجتمع، بل لا زالت تلك الوظيفة ماثلة ما دام يمارس اجتماعيا.