قال أحد حكماء الصومال لما رأى حال شعبه: «أغلى ما لدى الصومالي في الحياة ثلاثة أمور، الإسلام وقطيع الإبل، وابن العم. فإن خيّر بين أن يدع واحدة ويحتفظ باثنتين، خالف الدين واحتفظ بالإبل وابن العم، وإن خُيِّر بين الإبل وابن العم، تخلّى عن الإبل واحتفظ بابن العم، بل وإن خُيّر بين حياته ـ ذاتها ـ وابن عمّه، ضحّى بها وفضّل ابن العم!»
البنية والعرف
الصوماليون في جلّهم مجتمعٌ بدوي، فرض تنقلهم الدائم مرونة كبيرة في البنية الاجتماعية القائمة على روابط مبنية على العصبية، شأن شعوب كثيرة بالمشرق. ومع ازدياد الاعتماد على الرعي كمصدر أول رئيسي للدخل واستمرار الحياة، محوره القطيع المكوّن من الإبل بشكل رئيسي، والأغنام والماعز بدرجة أقل، بقي الفخر بالأنساب والثروة الحية معياراً أساسياً في مكانة الفرد والجماعة ضمن المحيط.
وقد كان بروز القانون العرفي الصومالي (حير دريد/Xeer Direed)، في فترة سبقت ظهور الإسلام ببرهة من الزمن، عاملا رئيسياً في وضع الحجر الأساس لتنظيم العلاقات بين الفرد والفرد، والفرد والجماعة، والجماعة والجماعة من الصوماليين، ليكون محور العلاقة الرابط الدموي، «النسب»، يليه الحلف والتصاهر والخؤولة، فينقسم المجتمع بناء على ذلك الإطار، إلى مجموعات دافعي «الدية» التي تفرض التضامن بينهم إلى حدّ التفاني.
الترتيب الاجتماعي المبسّط، يبدأ بمجموعة أسر ذات «أبٍ» واحدٍ، يتضامن أفرادها، صعوداً إلى مجموعة عشائر متضامنة، وصولا إلى القبائل التي ترجع لـ«جد أكبر» واحد، سواءً كان ذلك الجد حقيقيًّا أو تم «تركيب» المرويّات عنه ليضمن القادة دوام اللحمة بين كل من ينضوي تحت أبوته المعنوية.
التضامن كشرط للحياة
وعلى الرغم من ارتفاع مستوى التعليم والهجرة، التي قادت لاحتكاك الصوماليين بشعوب ذات تراث حضري أشدَّ قدماً، أو أكثر مدنيّة وابتعادًا عن الروابط العصبية الأبوية، فإن توالي الاضطرابات في الموطن الأم، كان السرّ في استمرار العمل بالقانون العرفي، الذي يوجب على كل «ذَكَرٍ» ذي دخل ثابت أو غير ثابت، المساهمة في صندوق تضامن العشيرة، «القاران»، بحيث يتم تسديد تلك المساهمة بصورة شهرية، من دون انقطاع أو تأخّر، إذ قد يكون من المضرّ بمكانة الفرد أو الجماعة عدم الوصول لأقصى درجات الانضباط والمبادرة في تأدية مساهمتها لدى «أودَيْغا تُلكا» (كبير القرابة) في البقعة الجغرافية التي هم فيها. ويصل الانضباط تجاه الأمر حدّ أن يقوم القادر منهم بتسديد الالتزامات العرفية للأقرببن العاجزين عن السداد، وإن كانوا في غير البلد الذي يقيم فيه، حفاظًا على اكتمال الـ«نِصاب» المقرر على تلك العائلة أو العشيرة من تلك المسؤولية، عند حدوث ملمّة أو وجود طارئ، أو ما يخرج به اجتماع ممثلي العائلات والعشائر في سبيل مشاريع تنموية، كبناء المدارس أو المستوصفات.
وقد تكون الميزة الأساسية لنظام التضامن القائم هذا، حفظ كرامة من تعرّض لخسارة فادحة مفاجئة، كالحوادث والأمراض التي تقعد المرء عن العمل، فيتم من خلال تلك الترتيبات ضمان معونة مقررة، أو تسهيل سفره للعلاج أو مغادرته وأسرته بلد الاغتراب إلى الوطن، أو سداد باكر لـ«ديات» الضحايا في حوادث السير مثلا، خاصة تلك المضمونة من قِبَل مؤسسات التأمين في الخارج.
أين سلطة الدولة في كل هذا؟
لكن الصورة ليست دائمًا بتلك الروعة. فلكل تدبير اجتماعي مماثل، بما له من اتساع كبير وتماسك غاية في القوة متأتٍ مما يجده من شديد الانضباط، له إذاً نتائج سياسية كبيرة، فهو يسبب وعيا عميقا لدى المنضوين تحته بقدرتهم الجمعية الهائلة، التي تؤمّنُ شعورا غامرا بالاستقلالية عن أي تكوين سياسي قد يجمعهم مع غيرهم، ممن هم خارج رابطتهم العصبية تلك. وهذا يؤدي إلى جعل إقرار سلطة الدولة في المناطق الأكثر إلتزاما بـ«العرف» أمرا غاية في الصعوبة، وعالي الكلفة سياسياً واقتصادياً. ويؤدي في النهاية لصعود سياسيين متكئين في مكاسبهم الوظيفية ونفوذهم، على التضامن القبلي الذي يترأسه القادة التقليديون، الذين يكونون بالفعل أمناء على سير العمل به ـ أي العرف ـ من دون تحقيقهم مكاسب مالية تُذكر، خارج ما يحصلون عنه من هِبات يتم إقرارها ضمن اجتماعات القبيلة عامة، او الهدايا التي يقدّمها لهم أثرياء القوم. ألا يصبح من اليسير على السياسيين الانتهازيين، تقديم وعود بالمزيد من المكاسب الاقتصادية لأولئك القادة ـ لكن هذه المرّة على حساب موارد الدولة ـ بعيدا عن مراجعات أبناء القبيلة وتقديراتهم التي تحرص على «المصلحة العامة للرابطة»، من دون أن يكون لدى الدولة «الضعيفة» ذاتها، امتياز بأن تجد من يحرص على «المصلحة العامة لها» من بين كوادرها الآتين إليها ـ أساسا ـ بناء على قوّة قبائلهم وترابط أبنائها. علاوة على مسألة غاية في الخطورة، هي تأجيج أعمال الثأر بين الفينة والأخرى، خاصة وقد انطوت صفحة الحروب القبلية المفتوحة، لارتفاع فاتورتها، التي ثبت فوق كل ذلك أنها غير مجدية في تحقيق المصالح السياسية. كيف؟
الدية
ثمة حاجة منطقية أو موضوعية دعت لقيام صناديق التضامن (الـ«قاران» تلك)، والتي كانت أساساً لتغطية الكلفة العالية للـ«دية»، في حال قيام أحد أبناء القبيلة بقتل إنسانٍ ما خطأً. لكن اتساع نطاق «مجموعات الدية» التي تقوم بالتعاضد في تسديد الالتزامات المترتبة على القتل الخطأ، حملت على استسهال مسألة جمعها، كبند روتيني شهري أو شبه شهري، مؤديا بالنتيجة إلى اتساع دائرة الحالات التي تشملها، متجاوزة حالات القتل «الخطأ» إلى القتل «العمد»، ومن ثمَّ حماية القاتل المُجَرَّمِ، عبر تسديد ما يتم الحكم به من التعويض لأولياء دم الضحية مهما بلغ الأمر. بل وأصبح مُتبعًا في حال تعثر «المحادثات» حول المسألة، أو طول أمدها، تهريب القاتل لبلد مجاور ومن هناك إلى الغرب، في سلوك صلِفٍ خارجٍ على روح العرف ونصّه، ناهيك عن مخالفته الصريحة للشرع في ظلّ ضعف الدولة أو غياب القانون.
وبين إحسان أو إساءة استخدام ذلك التدبير الاجتماعي الملزم لفئات كبيرة من المجتمع الصومالي، يصبح من الملحِّ إدراك حجم التأثير الذي يحمله، خاصة لو علمنا أن صناديق التضامن القبلية، كانت مصدر التمويل الرئيسي لِما تمّ من أنشطة سياسية وعسكرية أدت إلى إسقاط النظام الدكتاتوري في مطلع التسعينيات. كما غذت تلك الصناديق لاحقًا التناحر القبلي والتوترات السياسية والميدانية في بقاع متعددة من الصومال، بما يجعل الدعوة لترشيد العمل بنظام التكافل ذاك، امرًا لا بدّ منه لتحقيق المصلحة الوطنية العامة للشعب الصومالي، بحيث نصل إلى صيغة عمل تحدد بنود صرف تلك الأموال، بما يعزز السلم الأهلي والتنمية، والحد من تحوّلها إلى وسيلة للخرق الجماعي للقانون، أو مورداً لا ينضب من المال السياسي الذي يرسّخ الفساد ويعيق جهود استئصاله.
وهذا نموذج عن «التحوّر» الذي يصيب الظواهر الاجتماعية، ما ينفي عنها صفة الثبات وامتلاك «جوهر»... كما كل شيء يخص المجتمعات الانسانية. فهذا التحور لا يحدث بفعل فاعل أو كنتيجة لتخطيط أو مؤامرة ما، بل يقع رويداً وببطء، بفعل الواقع ومرور الايام وتفاعل معطيات متعددة فيما بينها، منها ما ينتمي الى الظروف، ومنها ما ينتمي الى حركية البنى الاجتماعية والقوى التي تمثلها.
كاتب من الصومال somalifuture.wordpress.com