هل تخفي علامات الاهتمام الدولي المستجدة باستقرار الصومال مشاريع للاستثمار في قطاعات اقتصادية مثيرة كالنفط والغاز والتعدين؟ تمكن الصوماليون، وجلّهم من الريفيين، أو من الموظفين في مصالح الحكومة ودوائرها، ويعيشون ضمن اقتصاد ترعاه الدولة، التاجر الرئيسي، والمقدّم الوحيد للخدمات الكبرى، والمشرف على كل مناحي الحياة... تمكنوا من الصمود رغم الخسائر البشرية الهائلة خلال سنين الصراع، ورغم افتقاد الاستقرار. وسيتعين عليهم توظيف الخبرة التي كسبوها من ذلك الصمود والصراع لالتقاط بوادر الأمل في الانتقال من الصمود إلى التعافي.
الرعي والصيد والزراعة
يعتمد الشعب الصومالي على الأنشطة الزراعية وتربية الحيوانات كمصدر رئيس للدخل. ويعمل في هذا المجال حوالي 80 في المئة من السكان. ويعيش على أرض الصومال البالغة مساحتها 633000 كيلومتر مربّع، حوالي عشرة ملايين نسمة. وساهم وجود نهرين ووفرة هطول المطر في المناطق المرتفعة شمالاً، في خلق بيئة مناسبة للرعي والأعمال الزراعية الرديفة. وتمتلك القبائل الصومالية أكبر قطيع للإبل في العالم، يقدر بسبعة ملايين رأس، ما يشكّل نسبة 50 في المئة من إجمالها عالمياً.
وقد حقق الصوماليون طفرة كبيرة في تصدير المواشي، خاصة بعد رفع الحظر الخليجي عن صادرات البلاد من الثروة الحيوانية. وصدّرت الصومال عام 2010 أربعة ملايين وثلاثمئة ألف رأس من الإبل والأبقار والأغنام... وتنتج البلاد جملة محاصيل زراعية متنوعة بدءاً بالحبوب والبقوليات والفواكه، ويشكّل القطاع الزراعي 47 في المئة من صادرات البلاد، و17 في المئة من واردتها لسنة واحدة كما عام 2001. للبلاد إمكانية إنتاج 200,000 طن من الصيد البحري سنوياً، دون تأثير سلبي على تجدد المخزون الطبيعي من الأصناف البحرية. وقد بدأ العمل على إنتاج الأسماك المعلّبة في «لاس - قوري» بالساحل الشمالي. وليس خافياً أن الصدام بين الصيادين المحليين وسفن الصيد والنفايات الأجنبية، كان المولّد الرئيسي لرد الفعل المحلّي العنيف دفاعاً عن الموارد البحرية للبلاد في ظل غياب الدولة، والذي تحوّل لاحقًا إلى أعمال قرصنة واسعة النطاق.
صناعة وموانئ
تؤمّن «الصناعة»، وهي ثالث قطاعات العمل في البلاد، نسبة تبلغ 5 في المئة من إجمالي الدخل الوطني. وتتركّز أنشطتها في الصناعات الغذائية كالمعلبات والمشروبات ومعاصر الزيوت وقصب السكر وصناعة المعكرونة، والصناعات التحويلية كمعالجة الجلود والزيوت والسكر والملاّحات، وصناعات كيميائية بدائية كالمنظفات.
وقدّمت الموانئ فرصة ذهبية للعمل التجاري الإقليمي. فموانئ، كبربرة وبوصاصو ومقديشو كيسمايو، أصبحت ممراً لكميات كبيرة من السلع، تصل إلى مستهلكيها في جيبوتي وإثيوبيا وكينيا وجنوب السودان، فقيمة البضائع المارة في ميناء مقديشو تقارب المليار دولار سنوياً، وعائد الجمارك في ميناء بربرة يقدر بما بين 70 الى 100 مليون دولار سنوياً. وللموقع الجغرافي للصومال، وقربها في آن من جنوب آسيا ومنطقة الشرق الأوسط، والشرق الأفريقي أهمية في هذا المجال.
اقتصاد الحرب: كلاشنيكوف بـ140 دولاراً
كان غياب الدولة، منذ انهيار النظام «الاشتراكي» في بداية التسعينيات، سبباً أساسياً في ما تلاه من تغييرات اقتصادية كبيرة في البلاد، فدفع الكثير من رؤوس الأموال الوطنية إلى الاستثمار في دول الجوار الإقليمي. أقام الصوماليون مشاريع تطوير عقاري في كينيا وجيبوتي، كما دخلوا قطاع العقارات في إمارتي دبي وعجمان. وكان غياب الدولة عاملا كذلك في توجه الصوماليين للعمل والاستثمار في القطاعات الخدمية المحدودة، نظراً لتدهور البنية التحتية الأساسية في البلاد، وخاصة منها الطرق، إذ تشير الإحصائيات إلى أن 88 في المئة من الطرق البرية في البلاد غير معبّدة، في حين أن ما تبقى من الطرق المعبدة (2608 كم) يحتاج لجهود صيانة وتطوير كبيرة، كما هي حال مطارات وموانئ البلاد.
إلاً أن غياب الدولة، وحالة الصراع المزمن في مناطق واسعة من البلاد، كانا وراء بروز اقتصاد الحرب، خاصة أن البلاد بطولها وعرضها تحوّلت إلى سوق سوداء، يمكن إدخال كل شيء إليها، والتعامل بكل شيء بيعاً وشراء، استيراداً وتصديراً، شحناً وتهريباً. ولعبت القرصنة وتجارة السلاح والهجرة غير الشرعية دوراً كبيراً في ذلك المجال، فأصبحت البلاد رغم الحظر الدولي للتسليح على الصومال، سوقاً مفتوحة ومحطّة لمرور كل أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة نحو الجهات الأربع. ويبرز هنا اسم أهم سوقٍ تجاري في الشرق الأفريقي للسلع والأسلحة، سوق «بكارا» في مقديشو، والذي يضم أكثر من 400 تاجر سلاح «مقتدِر». وهو يعتبر جنّة للراغبين في اقتناء الأسلحة، من حيث الجودة وانخفاض السعر، إذ لا يتجاوز ثمن بندقية كلاشنيكوف الهجومية 140 دولارا أميركيا، ثم يتصاعد السعر تبعا لجودة السلاح وصولاً إلى ألف دولار، كما في حالة المسدسات الروسية الصنع، في حين يمكن الحصول على لغم أرضي بمئة دولار فقط، ولا يتجاوز ثمن القنبلة اليدوية 25 دولاراً، ليبلغ ما يمتلكه الشعب من السلاح ما قيمته بين خمسة إلى سبعة أضعاف ما تمتلكه مؤسسة الدولة الضعيفة.
القرصنة تدرّ مالاً على القرى
وفي خضمّ نشاط أعمال القرصنة البحرية، التي غيّرت مجرى الأمور بالنسبة للنقل البحري الدولي في غرب المحيط الهندي وخليج عدن والبحر الأحمر، تتدفق أموال الفدى على القرى الساحلية التي تحوّلت إلى محطات انطلاق للقراصنة في ولايتي «أرض البونت» و«غلمدق». فعلى الرغم من أن معظم القيمة الإجمالية للفدى، التي بلغت 238 مليون دولار لسنة 2010، تنتقل إلى أرصدة رعاة أعمال القرصنة المجهولين، الاعضاء في الجريمة الدولية المنظمة، فإن ما يصل إلى أيدي القراصنة، على قلته، يتراوح بين 10 إلى 15 ألف دولار للقرصان الواحد عن كل عملية ناجحة. وكان لهذا المردود أثر جلي في تزايد أعمال الإعمار، وتنشيط العمل التجاري في مناطق كانت تعدّ من أفقر مناطق البلاد والتي لم يكن لها مورد آخر سوى الصيد البحري التقليدي.
ولادة مهن: حفارو القبور مثالاً
من المهن المدرّة لأرباح مجزية، خاصة في فترات تزايد الاشتباكات في العاصمة التي حصدت أكثر من 18000 ضحية من المدنيين خلال سنتين، مهن جانبية كحفّاري القبور، وصانعي النعوش، وتجار صفائح الحديد التي أصبحت البديل الاقتصادي من الخشب في صناعتها، وكذلك تجّار الأقمشة القطنية البيضاء للأكفان...
الاقتصاد "الجديد"
بلغ الدخل القومي للصومال ما يزيد قليلاً عن خمسة مليارات دولار سنويا (بحسب كتاب «الحقائق» الذي تصدره وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية). وهي تحتل المرتبة الـ165 عالمياً. وقد ازداد حجم الاستثمار الوطني في مشاريع متعدّدة، ما حوّل غياب الدولة التي كان يمكن أن تنتهج سياسة تدخل، إلى نعمة على القطاع الخاص. فنما قطاع الاتصالات، وبلغ عدد الشركات الوطنية ثمانيَ، وفرت أكثر شبكات الاتصالات فاعلية في القارة الأفريقية، مدخلة الانترنت منذ التسعينيات إلى البلاد، في التجمعات الحضرية والقرى النائية على السواء، وبدء خدمة «زاد» للتعاملات المالية عبر الهواتف النقالة.
كما عقد المغتربون الصوماليون علاقات عمل ناجحة مع رجال أعمال من العالم، ما ساهم في نموّ القطاع التجاري. فامتدّت شبكات نقل السلع ما بين آسيا وأفريقيا، من الصين شرقاً حتى السنغال غرباً.
ومع ازدياد هجرة الصوماليين إلى خارج البلاد، هرباً من الحرب، وبحثاً عن حياة أفضل، نما قطاع التحويلات المالية، ما عاد بمورد اقتصادي مهمّ عن طريق تأمين وسائل سهلة للتحويل الفوري للأموال، وتحقيق الأرباح، من خلال تولي الصوماليين أنفسهم تقديم تلك الخدمة. ونشأت شبكة من المكاتب والشركات التي تغطي بلدان العالم (144 بلداً)، سمحت برفد الاقتصاد الوطني بما يتراوح بين مليار إلى ملياري دولار سنوياً.
الإطار المضطرب
تسبب استمرار الاضطراب في جنوب البلاد بحصول موجات نزوح متكرّرة، وانطلاق مئات الآلاف من اللاجئين في كل الاتجاهات داخل البلاد والدول المجاورة. كما أدت تلك الحالة غير المستقرة لدى قطاع كبير من الشعب إلى خسارتهم موارد رزقهم، وأدوات الإنتاج التي خلّفوها وراءهم في بحثهم عن الأمان والسلامة، ما جعلهم في حالة اقتصادية حرجة، مكشوفين تماما لتقلّبات الطقس في مناطق واسعة من البلاد، خاصة مع تكرار ظاهرة الـ«نينو» البيئية، التي تزداد قسوة عقداً بعد عقد. وهذا ما أدى الى موجات جفاف شديدة الحدة، كادت تقضي على الغطاء النباتي في مساحات شاسعة من البلاد، ولنفوق الماشية وانضمام مئات الآلاف من الرعاة والعمال الزراعيين وأسرهم إلى قوافل النازحين المعوزين، الذين بدا واضحا أنه لن تُكتب لهم النجاة دون الحصول على مساعدات إنسانية عاجلة.
تغلب الشعب الصومالي على تلك الحالة بأقل قدر من المساعدة التي كانت حين تأتي، لو أتت، لا تخلو من فساد مكاتب الهيئات المساعِدة، بمقدار فساد المسؤولين من أمراء الحرب والسياسة... وهي مساعدات كانت على موسميتها، والاضطرار الداهم إليها، ينتهي بها المطاف مضرّة بدورات الإنتاج والتسويق للمحاصيل الناجية، بدرجة ضرر الظروف البيئية المتقلّبة.