ينعش الحديث عن المؤتمر المزمع عقده في لندن في شهر أيار/مايو المقبل، التكهنات حول مستقبل البلاد. ويبدو أن هذا المؤتمر سيكون أكبر من سابقه وأكثر أهميّة. ويبرز في السياق إعلان الولايات المتحدة الأميركية اعترافها بـ«شرعية» الحكومة الفيدرالية الصومالية في «مقديشو»، وهو مسعى ديبلوماسي لترسيخ انتهاء الفترة الانتقالية التي عاشتها البلاد على مدى اثنتين وعشرين سنة مرّت.
ما شكل الخارطة السياسية الصومالية المقبلة؟ لا سيما ان مفاوضات تجري مع الدول الكبرى والشركات العالمية لتوقيع اتفاقيات اقتصادية، هي الأضخم في تاريخ الصومال.
الطرف الدولي يعلن نهاية المرحلة الانتقالية
الصومال كانت قد دخلت دوّامة الاقتتال الداخلي بالحرب المفتوحة بين المعارضة المسلّحة ونظام الجنرال محمد سياد بري منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ما أدى إلى سقوط النظام وانهيار الدولة، والى استعار القتال الأهلي في جنوب البلاد، وإعلان جمهورية أرض الصومال في شمالها الغربي. وتشظت الدولة الصومالية الواحدة إلى عدد من الولايات التابعة لها إسميا.
الدعم الدولي للحكومة الفدرالية في الصومال لم يمنع استمرار الطرف الصومالي الآخر، جمهورية «أرض الصومال»، في رفض سيادة تلك الحكومة الفيدرالية جملة وتفصيلاً. والجمهورية هي مالك أكبر قوة عسكرية نظامية في شبه الجزيرة الصومالية، وقد آثرت دائما العزلة عن المساعي الدولية المعلنة على مدى عقدين لتحقيق المصالحة الشاملة في مؤتمرات سلام عقدت غالبيتها (إن لم يكن كلها) خارج البلاد. لذا، كانت مشاركة «أرض الصومال» في مؤتمر لندن الذي عُقِد أواخر شهر شباط/فبراير الماضي، نجاحا ديبلوماسيا بريطانيا كبيرا، كسر التقليد السياسي المتّبع في الجمهورية المعلنة من طرف واحد، والتي كان خطابها الرسمي يؤكد «الرغبة في الحوار مع الحكومة الصومالية في مقديشو، لكن ليس قبل أن تنجح في توحيد الجنوب (الصومال الإيطالي سابقا والذي يشمل ولايتي أرض بونت وغلمدق)، والمناطق التي كانت تحت سيطرة حركة الشباب، وأن تمتلك حكومة مقديشو الفيدرالية القدرة على إلزام كل من يدور في فلكها من أقاليم وولايات بتنفّيذ بنود ما يتمّ الاتفاق عليه». وهو ما لم يتحقق.
ومع ما يرافق المؤتمر المقبل في لندن من تساؤلات حول إمكان تحقيق الدفع باتجاه المفاوضات، بما يخدم التوجّه الدولي القائم اليوم، فإن تقدّم تلك المفاوضات مرهون بشكل مباشر بمقدار الضغط السياسي والاقتصادي الذي سيوجّهه المجتمع الدولي إلى طرفيها، في ظلِّ غياب العوامل المحليّة التي كان واجبا توافرها لنجاحها. فالحكومة في مقديشو ما زالت من الضعف بحيث لا يمكنها بسط سيطرتها التامة على المناطق التابعة لها إسميا، مضافا إلى ذلك قدرة الولايات الفيدرالية على التدخل المباشر في قراراتها السيادية، كل ذلك في ظل عدم وجود إرادة سياسية لدى القيادات في جمهورية «أرض الصومال» للسير قدما نحو ما يفرضه المسعى الدولي الذي ظهر في مؤتمر لندن السابق (فبراير/ شباط من العام الماضي)، والذي أظهر عدم وجود أيّ نية لدى الدول الكبرى بالسماح بانفصال تامّ لأي من أجزاء البلاد المستقلّة منذ سنة 1960.
مؤتمر للتوحيد أم لتكريس الانفصال؟
وعلى الرغم من أن العامل الدولي هو إذاً اللاعب الأكبر باتجاه الدفع نحو المفاوضات، فإن القيادة السياسية في «أرض الصومال» ما زالت الطرف المحدِّد لمسار هذه المفاوضات محلياً. وبحسب ظاهر الاشياء، كالتصريحات الصحافية لمسؤولين رفيعي المستوى هناك، فإن الاتجاه ما زال بعيداً عن الوحدة. فالاعتراف باستقلال جمهورية أرض الصومال باعتبارها الوريث الشرعي لكامل إقليم (المحمية البريطانية السابقة)، هو المطلب «المقدّس» الذي يطرح، وهم يعلنون أن دخولهم في تلك المفاوضات إنما هو انصياع للتوجه الدولي القائل بأن الاعتراف بأرض الصومال، إن تمّ، فإنه سيصدر أولًا من مقديشو.
وفي المقابل فإن العمل بنظام المحاصصة (4.5) الذي يضمن بقوة الدستور تقسيم المقاعد البرلمانية والمناصب العليا بين أربعة تجمعات قبلية كبرى (دِر، دارود، رحنوين وهوية)، يكون لكل واحدة منها حصّة واحدة، ويبقى نصف حصّة للأقليات، هو ما تتقدم به «مقديشو» ليكون الأساس الدائم والمستمر للحكم في ظلّ الوحدة التي تُزمِع صونها.
وقد شهدت الشهور الأخيرة التي حددت نهاية الفترة الانتقالية، متغيرات كثيرة. فلقد تمت صياغة مسودّة الدستور، واختيار لجان وأعضاء البرلمان في مقديشو، في منأى عن قيادة «أرض الصومال». بل سبق ذلك إعلان عن قيام ولاية جديدة على أراضي محافظتي «صول» و«سناغ» وناحية «عَيْن»، تحت اسم «خاتمو». وهي تقع شرق «أرض الصومال»، المحمية البريطانية السابقة، ويفترض أنها تابعة لها بحسب دستورها. وعلاوة على أن الغموض لف استيفاء «خاتمو» الشروط اللازمة لتحصل على صفة «الولاية» وتصبح إحدى الوحدات السياسية التي تتكون منها الدولة الفيدرالية الناشئة، فقد تدخّلت ولاية «أرض بونت» المجاورة لـ«خاتمو» (والقريبة منها في تركيبها القبلي كذلك)، للضغط على الحكومة في «مقديشو» من أجل تعديل الوفد الحكومي المتوجّه للتفاوض مع وفد «هرجيسا» عاصمة «أرض الصومال». وقد أدى ذلك الى تعليق المحادثات، باعتبار أن ما جرى من تغييرات في وفد «مقديشو» مخالف لما تم الاتفاق عليه لجهة العدد، كما لجهة التركيبة التي رأت فيها «أرض الصومال» مساً بسيادتها، لتضمن الوفد عضوين متحدرين من الولاية الجديدة. ومن جهة أخرى، تتقدم «أرض الصومال» باعتراضاتها تلك برغم أن قيادتها لم تحقق تقدما حاسما يضمن وحدة الصف لدى جميع من تقول بأنها تمثّلهم، ويسمح بتفادي انشقاقات قد تقع ضمنها، خلال سعيها للانفصال النهائي والحصول على الاعتراف الدولي. لقد تعرض العمل التفاوضي لانتكاسة، وعاد الجمود سيّد الموقف، مع الانشغال في مقديشو بانتخاب البرلمان إلى الرئيس، وتشكيل الحكومة.
أخطر ما يواجه المفاوضات ثلاث مسائل مهمة:
أولاها، حالة الشحن الشديد الذي يعيشه أبناء المناطق المركزية من «أرض الصومال» باتجاه الانفصال النهائي والاستقلال التام عن كيان الوحدة، ومردّه الخطاب الشعبوي المبني على اعتبار أن الجميع من الطرف الآخر في المفاوضات قد شاركوا ـ بصورة أو بأخرى ـ في ما حدث لهذه البقعة من البلاد من تهميش، وإفقار، وانتهاكات، ومحاولات تصفية عرقية، ودمار هائل أصاب المدن في الشمال الغربي للبلاد إبّان نظام سياد بري. ويلقي الزخم الذي يحمله ذلك الخطاب بالكثير من الآثار السلبية على أي جهود نحو إيجاد أرضيّة مشتركة مع أطراف أخرى شرقي المحمية البريطانية السابقة، وهو يدفع تلك الاطراف إلى معارضة استقلال «أرض الصومال» التام بحسم شديد في المقابل، نتيجة لمخاوفها المشروعة من أن تصبح عرضة للاضطهاد.
ثانيتها، تأسيس النخب السياسية في «أرض الصومال» لشرعية حكمها ووجودها في القيادة على تلك النزعة الشعبوية شديدة العدوانية، واستثمارهم لها، بما يجعل من الخطورة بمكان التقدم في المفاوضات بأي اتجاه قد يخالف تمنيات تلك الكتلة البشرية الأكبر من السكان البالغ عددها ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، بحسب تقديرات سنة 2008، وهي في «أرض الصومال». وليس من المستبعد أن يتسبب أي تنازل عن استقلال الإقليم، باضطرابات مأساوية يمكنها أن تنتشر بكل اتجاه في منطقة القرن الإفريقي، نظرا لتشابك المكونات البشرية العابرة للحدود، كما قد تهدد المستقبل السياسي لرجالات الدولة المنخرطين في المفاوضات، بل قد تبلغ من الحدّة بحيث تهدد سلامتهم الشخصية تحت طائلة الاتهام بالخيانة. ويصبح مرجحا أن تضع حدا لاستمرار النظام الإداري والحكومي القائم، باتجاه تمردات مسلّحة أو حتّى انقلاب عسكري، سبق وشهد الإقليم مثيلا لها في السنة الأولى من الوحدة عام 1961. وهو ما قد يجعل من المنطقي سياسيا، محاولة حكومة حزب «كُلمِيِه (Kulmiye) الحاكم في «هرجيسا»، كسب المزيد من الوقت حتى حلول الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في السنة المقبلة 2014، بحيث يصبح بالإمكان إنشاء حكومة وحدة وطنية تستطيع تدارك حالة الاحتقان المرتقبة. فليس من الممكن بأي حال من الأحوال أن تزيل الطبقة السياسية الحاكمة هناك ما هو راسخ من التظّلم الذي يحمله قطاع كبير من أبناء تلك المنطقة تجاه السلطة في مقديشو، وما تمّت مراكمته من خطاب سياسي يدعو للقطيعة النهائية مع «حمر» (وهو الاسم الشائع لمقديشو)، ممنّيا أبناء المنطقة بالاعتراف الدولي بالاستقلال.
ثالثتها، الضعف الشديد الذي تعانيه الحكومة في مقديشو، والذي أصبح علنيا مع حديث أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية التركية، (التي تعتبر بلاده الداعم الأكبر من دون مواربة لحكومتها الفيدرالية) عن «ضعف ثقة القادة السياسيين بأنفسهم ومستقبل بلادهم». وليس ذلك إلّا نتيجة لحالة الهرولة السياسية المدفوعة دفعا بأجندات دولية، بحيث يصبح من المتعذّر ترتيب الوضع الداخلي للحكومة الفيدرالية التي تزداد مسؤولياتها بشكل مستمر مع الاتساع المطرد للمناطق التي يتم انتزاعها من «حركة الشباب المجاهدين»، في ظل ضعف الموارد، وضغوط الولايات المنضوية تحتها عليها، وقلة الخبرة في التعامل مع التوتر القبلي الذي كان بالأساس سبب هيمنة حركة الشباب على محافظات النهرين (جوبا وشبيلي) جنوب البلاد، إضافة إلى التناقضات الفجّة التي يخلقها التمسّك «العملي» بنظام المحاصصة القبلي، وما أنتجه من تكريس لتوازنات سياسية - قبلية، كان من الضروري البدء باستبدالها تدريجا بعمل سياسي.
ان كلاً من الكيانين (حكومة الصومال الفيدرالية و حكومة أرض الصومال) غير مؤهّل بالأصل ذاتياً لخوض غمار المفاوضات، بل هما ينساقان للضغط الدولي الجارف، الذي يرى أركانه أن في البلاد من الثروات ما أينع وحان قطافه. ويسعى الضغط الدولي لتنصيب طرف مخوّل بالتوقيع على الاتفاقيات بالنيابة عن سائر مناطق البلاد جملة، وهو الحكومة الفيدرالية شديدة الضعف في «مقديشو». ويضمن ذلك إشغال الساسة الصوماليين بالمعضلات التي لم يتسنَّ حلها بشكل طبيعي، ومن دون وضع اعتبار لما يجب اتخاذه من تدابير، تجعل الانتقال لمرحلة ما بعد المفاوضات ـ أيا كانت نتيجتها ـ أكثر سلاسة، لتجنيب البلاد كلها تبعات صراعات قبلية مفتوحة وشديدة الضراوة يمكن ان تنفجر من جراء السياق الجديد غير المنضج ذاتياً، ويكون مسرحها هذه المرة الشمال وشمال شرق البلاد (أرض الصومال وخاتمو وأرض بونت) بما سيؤدي لا محالة لتبديد ما بذله الشعب الصومالي من جهد بكل انتماءاته وأقاليمه، لبناء هياكل إدارية حفظت استقرار المناطق الآمنة كـ«أرض الصومال» وولايات «أرض بونت» و«غلمدق» ـ مع التفاوت. فقد أثبتت تلك الجهود نجاحها بالفعل في الحد من الخسائر البشرية التي كان من الممكن أن تتصاعد بحدّة بعد أن تجاوزت على أي حال المليون إنسان، وبعد أن هيأت لإعادة الإعمار والنمو، في مسعى نحو التعافي مما مضى من مآسٍ.